عباس أرحيلة
تمهيد:
تعرّضتِ اللغة
العربيّة في مسار تطوُّرها العام لتحدِّيات واختبارات، لم يتعرَّضْ لها غيرُها من
لغات شعوب الأرض في التاريخ الإنسانيّ.
ومن خلال مواجهتها
لتلك التحدّيات، تحدَّدتْ قدراتها على تبليغ الوحي، والتفاعل مع الوجود الماديّ
والروحيّ للإنسان؛ فاستطاعت أن تكون لغة
عقيدة وعلم وحضارة.
لقد واجهت اللغة
العربيّة مجموعة تحدّيات، تحدَّدتْ بها قدراتها على التبليغ والتفاعل مع الوجود
الماديّ والروحيّ للإنسان، حتى استطاعت أن تكون لغة حضارة.
*
التَّحَدِّي الأول: اصطفاؤها لتحمّل كلام الله عز وجل
فأول تَحَدٍّ للغة
العربيّة في وجودها وتاريخها هو اصطفاؤُها لأن تكون لسان الوحي، وتقوم دليلا على
أن الموحَى به من رب العِزَّة، وأن هذا الموحَى به هو صياغة لآخر رسالات السماء إلى أهل الأرض. وقد نيط به الاستدلال على إعجاز القرآن منذ نزول الوحي إلى
نهاية التجربة البشريّة على الأرض.
فحين بلغت هذه اللغة
أوجَ عنفوانها عند أمة تميّزت بين شعوب الأرض بالقدرة على الإفصاح عن مكنون النفس
في الوجود؛ تعرَّضتْ لامتحان تَحَمُّلِ الوحي؛ أي تحمُّل كلام رب العالمين للناس
أجمعين!
وكان التحدّي للسان
العربي أن يتنزَّلَ كلام رب العالمين في صورة نصٍّ لُغويٍّ يحملُ منهجاً إلهيّاً،
خطاباً موجّهاً لكافة شعوب الأرض؛ خطاباً يخترق الزمان والمكان، ويستجيب لكل ما
يجدّ من ظواهر وتحوُّلات في دنيا البشر. وبنزول القرآن باللسان العربيّ المبين تحوَّلتْ
العربية لتصبح لغة دين وثقافة وفكر ووجود وحضارة ...
ومن هنا « كان القرآن حدثاً
ضخماً في تحويل حياة اللغة وتوجيهها إلى أن تكون لغة فكر يُخطط لمستقبل هذه اللغة »[1].
*
التّحَدِّي الثاني: حلت محل اللغات القديمة وأصبحت لغة العلم
حين ظهرتْ العربيّة
على مسرح الوجود، توارت اللغات القديمة في متاحف التاريخ في وقت وجيز. ثم عايشت
العربيّة في مسارها الحضاريّ أكبر انصهار بين الأجناس والثقافات في تاريخ الشعوب،
وعانت أثناء ذلك الانصهار، أشكالا من الغُربة والعُجْمة واللحن، لكنها صمَدتْ في
وجه التحوّلات؛ بفضل عقول رافقت تلك التحولات بإيمان وإخلاص؛ فعملت على تنظيم
رحلتها في الوجود جمعاً وتنظيماً وتقويماُ وتقنيناً؛ إلى أن صارتْ لغة العلم بدون منازع في الأصقاع
التي عرفتْها حضارة الإسلام.
*
التحدّي الثالث: أن تكون قناة للتواصل بين الشعوب والحضارات
لقد تحمّلتْ العربية،
عن طريق الترجمة، ما تراكم من المعارف الإنسانيّة التي كانت تتطلّع إليها الدولة
الإسلاميّة لاستكمال نهضتها. فتمّ نقل تلك المعارف؛ التي كانت تدعو الحاجة إليها،
بما تستلزمه من مصطلحات تتلاءم مع مرحلتها، وتمَّتْ قراءتها وشرحها واختصارها
والتعليق عليها، في ضوء ثوابتها وقناعاتها؛ نتيجة هضمها والتفاعل معها، وتوجيهها
وجهة تستجيب لرؤيتها الإسلاميّة، ولمقاصدها الشرعيّة، وللضوابط الحضاريّة للأمة في عنفوان نهضتها.
* التحدي الرابع: سيادة اللهجات وعودة اللغة
الفارسيّة
بدأت معاناة العربيّة
في جزيرة العرب وخارجها منذ أن أصبحت لسان الوحي، ومع بلوغ العربية أقاصي البلدان؛
بدأت السليقة العربية تخفت وتتوانى، وعجز أهل اللسان العربيّ عن مواكبة المعاناة
اليوميّة. ومع مطالع القرن الهجريّ الرابع سادت اللهجات في العالم العربيّ
الإسلاميّ، وأصبحت العربيّة تُتعلَّمُ تعلُّماً، تعيش في معاقل العلم ولا تخرج إلى
معترك الحياة؛ بل أصبحت، شأن العلم، تؤخذ من الصحف، بعد أن كان العلم يؤخذ من
أفواه الرجال. وظهرت اللغة الفارسيَّة من جديد فزاحمت العربيّة في القرن الرابع،
وإن ظلت العربيّة لغة الثقافة والعلم؛ محافظةً على توهُّجها وإشراقها وإشعاعها.
التحدي الخامس: صمودها أمام
الهجمتيْن: الصَّليبيّة والمُغوليّة
بعد الهجمتيْن الصَّليبيّة والمُغوليَّة
على معاقل الثقافة الإسلاميّة، دُمّرتْ حواضر وأُحرقت خزائن الكتب، وجعل التتار
الكتب إصطبلات لخيولهم، وحاولت اللغة التركيّة إلى جانب الفارسيَّة أن تسودا في
تلك المعاقل.
*
التحدي السادس: مواجهة العربيَّة لعهود الاستعمار والإبادة
وجاءت العصور الحديثة بحركاتها
الاستعماريّة؛ وفي ركابها البعثات التبشريّة، والأحقاد الصليبيّة والتوجّهات
الاستشراقيّة. فتعرَّض تراث الإسلام لأشكال من القراءات والتشويهات، وسعت لغة
المستعمرين في ربوع العالم العربيّ أن تتقاسم مع اللهجات المحليّة مكان العربيّة
وتحلَّ محلَّها. ودخلت العربيّة في صدام مع لغات المستعمرين، وأصبحت تختنق بفعل
اللهجات الممزوجة باللغات الأوربيّة، وامتُحنت بتعدد مصطلحات العلوم والمعارف
الحديثة، وأهلها يوجدون خارج المختبرات،
وعرف القرآن الكريم أنواعاً من الترجمات لكثير من لغات الأرض، وخاضت بدورها غمار
الترجمات من بعض اللغات.
وإذا كان أهل العربيّة قد جعلتْهم الحروبُ
الاستعماريّةُ المحمّلةُ بثورات فكريّة وتطورات صناعيّة، من المستضعفين؛ فإنَّ
العربيّةَ، بالرغم من كل مظاهر الجهل والتخلُّف؛ ظلَّت محتفظة بحيويتها، متميزة
بقدرة فائقة على الصمود في مواجهة كل التحدِّيات. تعيش على الرغم من الأدواء
والأعداء، والأهواء والأنواء...
*
التحدي السابع: بين التهميش والعداء
وامتُحنتْ العربيّة
بدعاوى تجديدها، فتعرّضت لأنواع من الاختبارات؛ والدخول في غمار الترجمات، بل ظهرت
دعوات لإقصائها من حركة الحياة، وإحلال اللهجات أو ما اعتُبِرَ لغات حيّة مكانها.
وامتُحنت بأشكال من الهجوم، والتهميش، والعداء من أبنائها. كما أنها امتُحنت
باستقبال المصطلحات من العلوم والمعارف الحديثة، وإن كان أهلها يوجدون خارج المختبرات، كما قلتُ، كل هذا في
لحظات تخنُق الشعوبَ العربيّةَ أنواعٌ من اللهجات الممزوجة باللغات الأوربيّة
وغيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق