عباس
أرحيلة
تمهيد:
الإعجاز
والخطابي:
1
– قضية الإعجاز:
ظل النص القرآني قطب الرحى في معترك التحولات الفكرية
والحضارية في تاريخ الإسلام؛ لاعتبارات، منها:
- أنه وحي إلهي يحمل منهج حياة ومصدر تشريع لهذه الحياة
منذ أن شعَّ نورُه في الوجود إلى أن تنتهيَ حياة البشر على الأرض. من هنا وجب –
وإن لم يتحقق ذلك بالصورة المطلوبة - أن تتحدد به ومن خلاله التجربة البشرية
على الأرض، وبالتالي الرؤية الحضارية للمجتمعات البشرية في تفاعلاتها وصراعاتها
وتحولاتها على امتداد وجودها على في تاريخ تلك التجربة الأرضية.
- أنه وحي إلهي استُحدث من خلاله ومن أجل فهمه ما
ظهر من أنماط المعرفة خلال الحقب الإسلامية.
- أنه وحي إلهي يحمل خطابا بليغا معجزا بأدائه البياني،
ومن بيانه هذا اتصلت جهود النحاة والبلاغيين والمفسرين والمتكلمين بالتصورات
الأدبية والجمالية والفنية فتبلورت نظرية الإعجاز.
وكانت قضية الإعجاز من أخطر القضايا التي جابهت
الإسلام والمسلمين؛ ذلك أن المُغرضين تسربوا منها يبغون المساس بقدسية الوحي،
وتحطيم حضوره في آخر رسالات السماء إلى الأرض. في هذا المضمار اندفع علماء الإسلام
من لغويين ونحاة ومفسرين ومتكلمين وبلاغيين يدافعون عن القرآن، يتعمقون أسرار دينهم بتعمقهم في مناحي
القول الإلهي في النص، وبتسلحهم بالأداة الجدلية الضرورية؛ لتبديد كل تمويه
وتزييف. فكان من ذلك جهود دفعت مطاعن الملحدين، وفتقت أسرار البيان القرآني،
وانتهت بعلم مستقل في القرن الهجري الرابع هو « علم إعجاز القرآن».
ويبدو أن قضية إعجاز القرآن ببعديْها: الكلامي
والبلاغي قد استقطبت اهتمام علماء الكلام؛ لا يحدوهم في ذلك الدفاع عن العقيدة
الإسلامية وحسب، بل كذلك ترسيخ الكيان الإسلامي في مواجهة التحديات والعقائد
السابقة والمذاهب الوافدة. وفي مجال إثبات حقيقة الإعجاز في القرآن تكاملت النظرية
وأخذت حيزها في العقيدة والفن.
2
- الخطابي و رسالته« بيان إعجاز القرآن»:
أ
- الخطابي: (319 – 388 هـ):
هو أبو سليمان حَمَد بن محمد الخطابي البُستي ( نسبة
إلى بلاد بُسْت من بلاد كابل): وهو أحد أحفاد عمر بن الخطاب. نشأ محبا للعلم، وطوف
من أجله في البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً للتزود من العلماء، إلى أن أدرك مكانة
مرموقة فيه، وأصبح مُحَدّثا فقيها أديبا شاعرا لغويا. وقد روى له الثعالبي بعض
شعره في «يتيمة الدهر». وقد جعله معاصروه في الدقة العلمية والورع والتقوى قريناً
لأبي عبيد القاسم بن سلام (224هـ). وكان أبو سليمان يكسب قوته في التجارة، وفي
أخريات حياته مال إلى التصوف. وتوفي سنة 388 هـ.
ولأبي سليمان كتبٌ في الحديث والفقه؛ دلّت على أنه من
الأئمة الأعلام المجتهدين في قواعد الأحكام. وبفضلها عُدَّ من أعلام الفكر
الإسلامي في القرن الرابع الهجري ومن الذين امتازت كتبهم بغزارة المادة وعمق
الفكرة، ودقة الاستنباط. كان فقيها محدثا أصوليا جمع بين الحديث والفقه. ومن أشهر
كتبه « غريب الحديث». وهو في نهاية الحسن والبلاغة على حد قول ياقوت الحموي. وله «
أعلام السنن في شرح صحيح البخاري»، و«معالم السنن في شرح سنن أبي داود السجستاني».
وكتاب « إصلاح خطأ المحدثين» ( وقد طُبع في القاهرة سنة 1936م).
ب
– رسالته: « بيان إعجاز القرآن»:
( نشرها عبد الحليم عليجرة سنة 1953م، وشرحها وعلق عليها عبد الله الصديق، وأظهرها
بمطبعة دار التأليف بمصر سنة 1953م، ثم نشرها مرة أخرى محمد أحمد خلف الله وزغلول
سلام ضمن « ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» - القاهرة 1955م) (1).
وقد اشتهرت رسالة الخطابي هذه بين كتب الإعجاز؛ لأنها
كانت من أوائل الرسائل التي تصدّت لقضية الإعجاز؛ ولأنها تمثل رأي أهل الحديث في
الإعجاز في القرن الرابع الهجري.
أولا:
إعجاز القرآن وما قيل في وجوهه:
1
– حقيقة الإعجاز في النص القرآني:
أ – سبب الخلاف في حقيقة الإعجاز:
بدأ الخطابي رسالته بالبحث عن سبب الخلاف بين
الباحثين في الوجه أو الوجوه التي كان بها القرآن معجزاً فقال:« قد أكثر الناس
الكلام في هذا الباب قديما وحديثا. وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم بعْدُ
صدروا عن ري؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على
كيفيته» [21] (2).
وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصَّرْفة...
وزعمتْ
طائفةٌ أن إعجازَه إنما فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوامن في مستقبل الزمان...
وزعم
آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة، وهم الأكثرون من علماء أهل النظر، وفي كيفيتها
يعرض الإشكال... [22 -23]
وسبب
هذا الإشكال ما يلي:
- التسليم بالإعجاز البلاغي بناءً على التقليد وغلبة
الظن دون التحقيق له وإحاطة العلم به.
- العجز عن إدراك العلة في الإعجاز، وعدم القدرة على
تصويره وتحديده، « وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن
تحديده... وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي
العلم والمعرفة به»[24]. وكأن حقيقة الإعجاز تُدرك بالوجدان وتُلمَح بالبصيرة،
وليست مما يقع في مجال النظر أو يخضع لمقاييس المنطق.
ويقول
الخطابي:« وهذا لا يُقنع في مثل هذا العلم، ولا يُشفي من داء الجهل به، وإنما هو
إشكال أُحيل به على إبهام» [24].
ب – تحقق الإعجاز في التاريخ:
إذا كان الإعجاز قضية إيمانية لا خلاف في حقيقتها؛
فإن ظاهرة الإعجاز تحققت تاريخيا وأصبحت واقعةً موقعَ اليقين عند المسلمين.«
والأمر في ذلك أبينُ من أن نحتاج أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على
وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه»[21].
فالخطابي يستدل على استقرار حقيقة الإعجاز، وثبوت
التحدي للعرب قاطبة؛ بكون الرسول صلى الله عليه وسلم ظل «يُطالبهم به مدة عشرين
سنة، مُظْهراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مُسَفّهاً آراءهم وأحلامهم؛ حتى
نابذوه وناصبوه الحرب؛ فهلكت فيه النفوس وأُريقت المُهَج، وقُطعت الأرحام، وذهبت
الأموال»[21].
ولو كان ذلك في وسعهم، وتحت أقدارهم لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة. وهكذا عجزوا
عن معارضة القرآن، وهم الموصوفون بالبيان، ووفارة العقول، وكان فيهم الخطباء
المصاقع والشعراء المُفْلقون، وقد وصفهم الله بالجدل واللدد. فقال سبحانه:« ما
ضَرَبوهُ لكَ إلاَّ جَدَلاً بلْ هم قومٌ خَصمون»[ الزخرف:58] وقال سبحانه:«
وتُنذرَ به قوماً لُدّاً» [ مريم:97].
2 – آراء في وجوه الإعجاز:
أ – القول بالصَّرْفَة:
وهو قولٌ أشاعهُ أبو
إسحاق النظام (231 هـ)، من أهل الاعتزال، وخلاصته أن الله تعالى قد صرف الهمم عن
معارضة القرآن؛ « فقد كان يجوز أن يقدر عليه العبادُ لولا أن الله منعهم بمنع وعجز
أحدثهما فيهم»(3).
أما الخطابي فلا يرتضي هذا القول وجهاً للإعجاز؛ لأن
دلالة الآية تشهد بخلافه، وهي قوله تعالى:« قلْ لَئنْ اجْتَمَعَت الإنسُُ والجنُّ
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتُونَ بمثله ولو كان بعضُهم لبعض ظهيراً [
الإسراء:88]؛«فأشار في ذلك إلى أمر طريقُهُ التكلُّفُ والاجتهادُ، وسبيلُه التهّبُ
والاحتشادُ، والمعنى في الصَّرْفَة التي وصفوها لا يُلائم هذه الصفة؛ فدلَّ على
أنَّ المراد غيرُها»[23].
ومناقشة الخطابي للقائلين بالصَّرفة تتلخص في كون المعجزة تتحدى الطاقات الروحية
الكامنة في البشر، وفي أن الله أبقى على العرب طاقاتهم النفسية، وملكاتهم العقلية؛
فلم يفقدوا يوما القدرة على البيان والإفصاح عن مكنون النفس.
ب
– الإخبار بالغيب باعتباره وجهاً للإعجاز:
يُعتقدُ أن القرآن معجزٌ بما تضمنه من الأخبار عن الغيوب، وعن الكوامن في مستقبل
الزمان، نحو قوله تعالى:« ألم غُلبت الرومُ في أَدْنَى الأرض وهُمْ من بعد غَلَبهم
سَيَغْلبون في بضْع سنين لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر
الله»أ الروم:1 – 4]؛ غير أن الخطابي يرفض هذا الوجه ويقول:« ولا يُشكُّ في أن هذا
وما أشبهه من أخباره نوعٌ من أنواع إعجازه؛ ولكنه ليس بالأمر العام الموجود في كل
سورة من سور القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها؛ لا يقدر
أحدٌ من الخلق أن يأْتيَ بمثلها، فقال تعالى:« فأتوا بسورة من مثله وادعوا
شُهداءَكُمْ من دون الله إن كنتم صادقين» [ البقرة:23]، من غير تعيين؛ فدل على أن
المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه»[23 – 24].
ج
– الأثر النفسي للقرآن:
يختم الخطابي رسالته بذكر وجه آخر من وجوه إعجاز
القرآن؛« ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم؛ وذلك صنيعه بالقلوب
وتأثيره في النفوس؛ فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا
قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في
أخرى ما يخلص منه إليه. تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه
عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود،
وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها (...).
خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويعمد لقتله، فسار إلى دار أخته وهي تقرأ سورة طه، فلما وقع في سمعه لم يلبث أن
آمن (...).
ولما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت: « إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا
به» [ الجن/1 -2] [ 70 – 71].
والخطابي يلفتنا هنا إلى تلك الهيمنة النفسية التي يأخذ بها القرآن قارئه فيستولي
بها على النفوس، ويأسر بها المشاعر. ويورد من الأمثلة التاريخية والآيات القرآنية
ما يشهد للقرآن بذلك السر المضمر فيه، وتلك الروعة والسطوة اللتين يجدهما من يستمع
إلى القرآن أو ينظر فيه. وكيف لا وقد قال رب العزة:« لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا
الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لرَأَيْتَُه خَاشعاً مُتَصَدّعاً منْ خَشْيَة الله وتلكَ
الأمثالُ نَضْربُها للنَّاس لَعلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ» [ الحشر:21].
وقد روي عن بعضهم أن قال: فتحت الأمصار بالسيوف، وفتحت المدينة بالقرآن[ 71].
وأعتقد أن هذا الوجه الذي ختم به الخطابي رسالته، من
أهم وجوه الإعجاز التي لا تزيدها الأيام إلا رسوخا، فقد استشعرتها قرائح الباحثين
في مجالات الإعجاز القرآني قديما وحديثا. فعبد القاهر الجرجاني (471هـ) في « أسرار
البلاغة» و« دلائل الإعجاز» اعتبر مصدر البلاغة في الكلام ما يحمله من تأثير في
النفوس. وأمين الخولي (1966م) يفصل القول في مقالته: البلاغة وعلم النفس [ مجلة
كلية الآداب، المجلد الرابع ج2 ديسمبر 1936م]، ويقرر أن إدراك العلاقة بين علم
النفس والبلاغة يهدي إلى قول محدث أو رأي جديد في فهم الإعجاز القرآني. ويرى أن
القرآن معجزٌ إعجازاً نفسيا باستفادته من طبيعة النفس البشرية ومعرفته بشؤونها
المختلفة والنواميس التي تخضع لها. وينتهي أمين الخولي إلى القول إن الإعجاز
النفسي يمكن الاستغناء به عن بقية نظريات الإعجاز.
د
- الإعجاز من جهة النظم:
يأتي الخطابي بالرأي الذي عليه الأكثرون من علماء الإعجاز؛ وهو أن إعجازه من جهة
البلاغة؛ غير أنه وجد أنهم يجرون في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد
وضرب من غلبة الظن دون التحقق له وإحاطة العلم به. وقالوا لا يمكننا تصويره ولا
تجديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام. وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه
ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده. وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أثره في النفس.
وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع وهشاشة في النفس لا توجد مثلها لغيره منه،
والكلامان معا فصيحان، ثم لا يُوقف لشيء من ذلك على علة.
إن الخطابي
هنا، بعد أن ردّ القول بالصَّرْفة والإخبار بالغيب كوجهيْن للإعجاز أشاعهما
المعتزلة؛ ينعى على معاصريه تسليمهم بصفة البلاغة للقرآن على نوع من التقليد
والعجز عن تحديد الكيفية؛ مع اقتناعهم بما له من أثر في النفس. وعليه فإن مفعول
القرآن في السمع، وفي النفس، وما يتجلى من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر
الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب؛ من الأمور التي ينبغي أن تُدرك أسبابها.
ثانيا:
العلة في مباينة القرآن لسائر الكلام:
1 – طبقات الكلام:
نجد الخطابي يرفض مقولة « اللاتعليل» لإسرار الإعجاز؛
لأنها « إشكال أحيل على إبهام» - على حد قوله – ويحاول تحديد أسباب العلة في
الإعجاز؛ أي تقديم أدوات البحث التي تعين الباحث على استكشاف مناحي الإعجاز في
النص القرآني. فبعد تقصيه لوجوه الخطاب، دلّه دقيق النظر إلى العلة التي باين بها
القرآن الكريم سائر الكلام؛ وهي « أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة
التبيان متفاوتة، ودراجتها في البلاغة متباينة غير متساوية،
فمنها:
البليغُ الرصينُ الجَزْلُ،
ومنها
الفصيحُ القريبُ السهل،
ومنها
الجائز الطلق الرَّسْلُ.
وهذه
أقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع الهجين المذموم؛ الذي لا يوجد في القرآن
شيءٌ منه.
فالقسم
الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه،
والقسم
الثاني أوسطُه وأقصدُه،
والقسمُ
الثالثُ أدناه وأقربُه.
فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصَّةً؛ وأخذت من كل نوع من أنواع
شعبة؛ فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمطٌ من الكلام يجمع صفتيْ الفخامة
والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما بالمتضاديْن؛ لأن العذوبة نتاج السهولة،
والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعا من الوعورة؛ فكان اجتماع الأمريْن في
نظمه مع نبوّ كل واحد منهما عن الآخر فضيلةً خُصَّ بها القرآن؛ يسّرها الله بلطيف
قدرته من أمره؛ ليكون آيةً لنبيه، ودلالةً له على صحة ما دعا إليه من أمر
دينه»[26].
وبعد أن حدد الخطابي طبقات الكلام أشار إلى الوجوه التي اعتبرها وراء عجز العرب
حين تحداهم القرآن، فيقول: «وإنما
تعذر على البشر الإتيانُ بمثله لأمور، منها: أن علمهم لا يُحيط بجميع أسماء اللغة
العربية، وبألفاظها التي هي ظروف تلك المعاني والحوامل لها، ولا تُدْرك أفهامُهم
جميعَ معاني الأشياء المَحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكْمُلُ معرفتُهم لاستيفاء
جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافُها وارتباطُ بعضها ببعض؛ فيتوصلوا باختيار
الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله»[26 – 27].
2
– نظرية النظم:
وبهذا التصور يمهد الخطابي لنظريته في النظم، فيقسم الكلام إلى ثلاثة أقسام:
1–
لفظ حامل
2
– معنى به قائم
3
– ورباط لهما ناظم
وإذا كانت هذه الأقسام متفرقة في أنواع الكلام، ولا
ترد مجموعة في نوع واحد منه؛ فإنها إذا تأملتَ القرآن «وجدتَها منه في غاية الشرف
والفضيلة؛ حتى لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى
نظما أحسنَ تأليفا وأشدّ تلاؤماً وتشاكلا من نظمه؛ وأما المعاني، فلا خفاء على ذي
عقل، أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات
الفضل من نعوتها وصفاتها.
وقد
توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرّق في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع
واحد منه؛ فلمْ توجدْ إلا في كلام العلام القدير، الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى
كل شيء عددا.
فَتَفَهَّمْ الآن أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء
بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أصح المعاني»[27].
ولاحظ عبد السلام المسدي أن أبا سليمان الخطابي قد نفذ من خلال موازنة اللفظ
والمعنى إلى صميم الرؤية اللغوية الخاصة؛ فقد انطلق من فحص دلالي ميز بموجبه بنية
الدال، فسماه ظرفا حاملا على بنية المدلول فسماه مظروفا قائما، ثم تخلص إلى قدرة
اللغة على الاستيعاب والانتشار بحيث تتعذر على الإنسان الإحاطة الفعلية بجميع دوال
اللغة فضلا عن المجالات الدلالية؛ مما يسمح الاستعمال بتكاثره إلى الحد الذي لا
يتناهى، والعلة في ذلك عجز البشر على الإحاطة بجميع أسماء الله (4).
وهنا يُفصح الخطابي عما ارتضاه رأيا له في الإعجاز؛ وهو أن القرآن معجزٌ بنظمه،
ويزيد من روعة هذا النظم انسجامه وملاءمته للموضوعات المختلفة التي يحفل بها
القرآن، من تحليل وتحريم، وحضر وإباحة ودُعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته،
وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يُرى
شيء أولى منه ولا يُرى في صورة العقل أمر أليق منه.
وانتهى إلى القول:« ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين شتاتها حتى
تنتظم وتُتسق أمر تعجز عنه قوى البشر»[28].
وبعد أن يُشير إلى دعاوى المعاندين للقرآن لما عجزوا عن معارضته، وتحيّروا في نعته
بين الشعر والسحر والأساطير؛ يعود الخطابي إلى مناقشة الأسس التي بنَى عليها
نظريتَه، فيقول بخصوص الألفاظ:« اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لهذه الصفات
هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص ألشكل
به»[29]؛ أي أن تكون الألفاظ في مكانها اللائق الذي تتطلبه المعاني، ولا تنسجم
بغيره.
ثم مضى الخطابي يُبينُ الفروق بين معاني بعض الكلمات، مثل: عرفتُ الشيءَ وعلمتُه،
وكالحمد والشكر، والبخل والشح...؛ لأن لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها
في بعض معانيها، وإن كانتا قد تشتركان في بعض معانيهما. وهي فروق في الدلالة أو
فروق في الاستعمال أو فيما يدخل في النحو؛ كأن تكون الكلمة متعدية لمفعول واحد أو
مفعولين. فعرفتُ يقتضي مفعولا واحدا، كقولك: عرفتُ زيداً. وعلمتُ يقتضي مفعوليْن
كقولك: علمت زيداً عاقلا.
ثالثا:
الاعتراضات الموجهة لنظم القرآن ونقضها:
1 – اعتراضات نتيجة الجهل بلغة القرآن:
وهنا يورد طائفة من الاعتراضات يمكن أن توجه إلى
القرآن عن جهل بحقائق أوضاع اللغة مما يفسر تهيّب كثير من السلف تفسير القرآن، وإن
كانوا علماء باللسان، فقهاء في الدين، كما يفسر حث رسول الله صلى الله عليه وسلم
على تعلم إعراب القرآن، وطلب الغريب منه. ويرى الخطابي أن استقصاء أمثال تلك
الاعتراضات يطول، وأن العرب « كانوا بطباعهم يَتبيَّنون مواضع تلك الأمور ويعرفون
ما يلزمهم من شروطها ومن العُهدة فيها، ويعلمون أنهم لا يبلغون شأوها، فتركوا
المعارضة لعجزهم، وأقبلوا على المحاربة بجهلهم»[35].
وهذا مثال من تلك الأساليب التي قد يُعترض عليها بأنها غير جارية على النمط
الرفيع، فقوله تعالى:« فأكله الذئب»، قد يقال: إن الأكل عام لا يختص به نوع من
الحيوان دون نوع، وإن استعمال الافتراس أولى وأفصح لتعلُّقه بفعل السباع. غير أن
الخطابي يبين السر في اختيار لفظة الأكل بدل الافتراس، حيث أن الافتراس معناه في
فعل السباع القتل فحسب؛ ولكن القوم ادعوا على الذئب أنه أكله أكلا، وأتى على جميع
أجزائه وأعضائه، فلم يترك مفصلا ولا عظما. والفرْسُ لا يعطي تمام هذا المعنى، فلم
يصلح على هذا أن يُعبر عنه بالأكل»[38 – 41].
2 - نقض الاعتراضات الموجهة إلى النظم القرآني:
يورد الخطابي اعتراضات وجهت إلى القرآن، أو يمكن أن
توجه إليه. وهي اعتراضات ناشئة في جوهرها عن جهل المعترضين بأساليب المجاز في
القرآن وبالفهم الدقيق لمعاني الألفاظ في أبعادها الدلالية،فكانت وليدة ضمور
السلائق العربية.
ومن تلك الاعتراضات ادّعاء وجود سوء التأليف في
القرآن « قالوا: وقد يوجد في القرآن الحذف الكثير والاختصار الذي يُشكل معه وجه
الكلام ومعناه (...) ثم قد يوجد فيه على العكس، التكرار المضاعف(...) وليس واحدٌ
من المذهبيْن بالمحدود عند أهل اللسان (...) وقد يدخل بين الكلاميْن ما ليس كم
جنسهما ولا قبيلهما»[39 -40].
قبل مناقشة هذه الاعتراضات ودحضها، يذكّر الخطابي بشرائط بلاغة النظم القرآني؛
بكونها لا تقتصر على مفرد الألفاظ التي منها يتركب الكلام دون ما يتضمنه من ودائعه
التي هي معانيه، وملابسه التي هي نظوم الكلام.
فإذا كانت الأسماء اللغوية، وهي نوع واحد من الأنواع الثلاثة التي شرطنا أنه لا
يجوز أن يحيط بها كلها إلا نبي، وكانت معاناة توليد المعاني أشد لأنها نتائج
العقول؛ فإن الحاجة إلى ثقافة رسوم النظم وحذقها أكثر؛« لأنها لجام الألفاظ وزمام
المعاني. وبه تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل
بها البيان»[36].
وبهذا يُمهد لنقض الاعتراضات. وغايته توضيح الجانب التطبيقي في نظرية النظم:
وهو أهم جانب في هذه الرسالة؛ لما تضمنه من دقة في التحليل وذكاء في الاستنباط
وبروز للشخصية مع غزارة المادة المدروسة. فقد قالوا مثلا في قوله تعالى: « والذين
هم للزكاة فاعلون»، لا يقول أحد من الناس: فَعَلَ الزكاةَ؛ إنما يقال: زكَّى الرجل
مالَه، وأدّى زكاةَ ماله. فيرد الخطابي قائلا: إن مراد الكلام المبالغة في أدائها.
والمواظبة على الفعل حتى يكون ذلك صفة لازمة لهم. فيصير أداء الزكاة فعلاً لهم،
مضافا إليهم يُعرفون به، فهم له فاعلون. وهذا المعنى لا يستفاد من الكمال إلا بهذه
العبارة، فهي إذاً أولى العبارات وأبلغها في هذا المعنى [45].
وقالوا في قوله تعالى:« وإنه لحب الخير لشديد»، إنك لا تسمع فصيح يقول: أنا لحب
زيد شديد، وإنما يقال: أنا شديد الحب لزيد، وللمال. والحق أن شديد هاهنا معناه
البخيل. فيقال رجل شديد ومتشدد أي بخيل.
قال طرفة:
أرى
الموتَ يَعِتامُ النُّفُوسَ ويَصْطَفي عقيلةَ مال الفاحش
المُتَشَدّد
ويستمر الخطابي في عرض الطعون ونقضها. وفي هذا النقض
يحلل الأبيات تحليلا ينم عن قدرة على كشف ما تنطوي عليه من دلالات وإيحاءات وما
تُخفيه من نكت بلاغية، ومن افتتان بالمجازات، مع مقابلة ذلك بمأثور الكلام شعره
ونثره. وهكذا تصبح ردوده التحليلية حصيلة مهمة لمن يرغب في تذوق معاني القرآن،
وبلوغ التمييز بين طعوم فنونه، وإدراك أسراره. بل تصبح تلك التحليلات الفنية
لمناحي النظم في الأسلوب القرآني معينا مساعدا لمن أراد أن يتذوق ويخبَر الإمكانات
التعبيرية للنصوص الفنية البشرية.
3
– ادعاء معارضة القرآن:
وحديث الخطابي عن نقض الاعتراضات الموجهة للنظم القرآني، يقوده إلى الحديث عن
إمكان تقليد هذا القرآن فيقول: فإن قيل: ما أنكرتم أن القوم قد عارضوه ولكنه لم
يُنقل إلينا، وغُيّب عنا ذكرُه، وكُتمَ الخبر فيه لما اتسع الإسلام وخافوا على
أنفسهم، فانقطع رسمُه وامّحى أثرُه.
قيل: هذا سؤال ساقط، والأمر فيه خارج عما جرت به عادات الناس، خواصهم وعوامهم من
نقل الأخبار، والتحدث بالأمور التي لها شأن وبالنفوس تعلق (...) وكيف يجوز ذلك
عليهم في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد انزعجتْ له القلوب وسار ذكره بين الخافقين.
ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عظيم خطره وجلالة قدره لجاز أن يكون في ذلك العصر
نبي آخر.
وهنا يورد الخطابي ما عورض به القرآن « وهو ما ما تنوقل من أجل المقارنة
والتفكّه»، ثم يوازن بينه وبين القرآن؛ لتتضح معالم نظريته في النظم بالمقارنة.
فما حُكيَ عن مسيْلمة الكذاب من قوله: « ياضفدع نقّي كما تنقين، لا الماء تكدرين
ولا الوارد تنفرين»ن أو كقوله:« ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحُبلى، أخرج منها نسمةً
تسعى، بين شراسيف وحشى».
وقد وجد الخطابي في مثل هذا كلاما خاليا من كل فائدة، لا لفظُه صحيح ولا
معناه مستقيم، ولا فيه شيء من الشرائط الثلاث التي هي أركان البلاغة. وإنما تكلّف
هذا الكلامَ الغثّ لأجل ما فيه من السجع. والساجع عادته أن يجعل المعاني تابعة
لسجعه ولا يُبالي بما يتكلم به إذا استوت أساجيعه، واطردتَ، ولخلوّ هذا الكلام من
كل نوع من الفوائد. قال أبو بكر رضي الله عنه حين طرقتْ سمعَه: أشهدُ أن هذا
الكلامَ لم يخرج من بال [55 – 56].
وبعد تحليل هذا الكلام الذي نُسب إلى مسيلمة، يتساءل الخطابي عن وجود البلاغة فيه،
وعن المعنى الذي يحتويه، وعن الحكمة التي يحتضنها، حتى يُتوهّم أن فيه مُعارضةً
للقرآن. وعلى أي حال فإن الباحث يستفيد من هذه المقارنة ما يلي:
أ – أن موازنة مسيْلمة ستصبح ظاهرة متبعة عند دارسي الإعجاز.
ب – أن مقاييس الموازنة بين نصين فَنّيَيْن هو ما أوضحه من شرائط النظم.
ج – أن الخطابي أفاد المؤرخ، والمفسر، والناقد، وأبان عن ذوق فني مُرهف، وعن إدراك
لأسرار التعبير.
رابعا:
قضايا الرسالة وقيمتها:
1
– جانب الإعجاز القرآني:
إن هذه الرسالة تمثل رأي أهل الحديث في الإعجاز في
القرن الرابع الهجري، وتضم أقولا مختلفة قيلت في القرآن، وقد صنفها صاحبها تصنيفا
محكما دل على خبرته بالبلاغة العربية في حقيقتها: ويعتبر صاحبها من أسبق علماء
المسلمين إلى البحث عن الإعجاز بحثا علميا منظما.
ورأي الخطابي في الإعجاز يمكن إيجازه في ثلاثة وجوه:
- الوجه الأول: الإحاطة الإلهية بأسرار اللغة حتى جاء
القرآن معجزا لفظا ومعنى ونظما.
- الوجه الثاني: الإعجاز كامن في النظم الذي انفرد به
القرآن، أي بهذا الأسلوب من النظم الذي جمع بين أفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف،
وجاء مضمنا أصح المعاني. وبهذا أكد أن الإعجاز حاصل من جهة البلاغة. فكانت رسالته
محاولة لبيان ماهية هذه البلاغة ومعالمها.
- الوجه الثالث: ما للقرآن من أثر في النفس. فقد تنبه
الخطابي إلى تأثير بلاغة القرآن في النفوس. وَعَدّ هذا التأثير وجها من وجوه
الإعجاز.
-
2
– جانب البلاغة:
يبدو أن الخطابي حين هاجم التقليد في معرفة الوجه
البلاغي لإعجاز القرآن؛ إنما كان يدعو إلى تربية الذوق البلاغي السليم بمدارسة
فنون القول والتأمل فيها. فقد لاحظ المنحى الاستعاري في التعبير، وذكر أن
الاستعارة قد تكون « في بعض المواضع أبلغ من الحقيقة، كقوله عز وجل:( فاصْدَعْ بما
تُؤْمَر)؛ فالصدْعُ هاهنا مستعار وهو أبلغ منه لو قال: فاعْمَلْ بما تُؤمر، وإن
كان هو الحقيقة. والصدع مُستعار،وإنما يكون ذلك في الزجاج ونحوه من فلّز الأرض،
ومعناه المبالغة فيما أمر به حتى يؤتّر في النفوس والقلوب تأثيرَ الصدْع في الزجاج
ونحوه»[44].
وعلى أي حال، فإن الخطابي بتصوره للنظم حاول
تغيير دراسة البلاغة حين تقف عند حدود الشكليات. فقد رأى في عملية النظم ذلك
التفاعل الطبيعي والربط الجدلي بين اللفظ والمعنى لنقل التجربة الفنية عموما. ولاحظ
د. محمد زغلول سلام أن الخطابي نبه في النصف الأخير من القرن الرابع إلى شيء جديد
في الأسلوب غير اللفظ والمعنى؛ ذلك هو النظم ليصرف علماء البلاغة عن تلك البحوث
إلى بحث أصيل ينبغي مراعاته(5).
3 – جانب النقد الأدبي:
إلى جانب ما أبان عنه الخطابي في نقضه الاعتراضات
الموجهة إلى النظم القرآني، من قدرة على تأويل الآيات، وتوجيهها، وفهم أنماط
تعبيرها؛ عرض أثناء بسطه لنظريته في النظم وتطبيقاته على القرآن والمأثور العربي
بعض القضايا النقدية التي برزت فيها طاقته الأدبية وذوقه الفني؛ مما جعل الدرسَ
الإعجازيَّ رافداً من روافد النقد الأدبي؛ باعتبار أن النص القرآني هو النص الأدبي
الأول للأمة العربية الإسلامية.
أ
– قضية المعارضة:
انطلاقا من نفي المعارضة عن القرآن، وفحص كلام مسيلمة
في ضوء النظم القرآني وبيان قصوره عن أوصاف المعارضات؛ يُحدد الخطابي ما يحسن أن
يتوافر في النصيْن البَشريَيْن المتعارضيْن من شروط وخصائص. وينتهي إلى مقارنة بين
امرئ القيس والنابغة الذبياني في وصف الليل.
يقول النابغة:
كليني لهمّ يا اُميـــــمةَ ناصب
وليل أقاسـيه بطيء الكواكب
تطاوَلَ حتى قلتُ ليس مُنْقَض وليس
الذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراحَ الليلُ عازبَ همّه تضاعف فيه الحزنُ من كل
جانب
ويقول امرؤ القيس:
وليل
كموج البحر أرخى سدولَه عليَّ بأنواع الهمـوم
ليَبتلي
فقلتُ
له لما تمطّــــى بصـــلبه وأردف أعجــازاً وناء
بكـــلكل
ألا
أيُّها الليلُ الطـــويلُ ألا انجل بصبح وما
الإصباح منك بأمثل
فيالك
من ليـــل كأن نجــــومَه بكل مُغار
الفتل شُدَّتْ بيذبل
يبدأ الخطابي المقارنة بقوله إن افتتاح النابغة « مُتناه في الحسن، بليغ في وصف ما
شكاه من همه وطول ليله. ويقال إنه لم يبتدئ شاعرٌ قصيدةً بأحسنَ من هذا الكلامَ.
وقوله:
وصدر أراح الليلُ عازبَ همّه،
مستعارٌ
من إراحة الراعي الإبل إلى مباتها، وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة، إلا
أن في أبيات امرئ القيس بين ثقافة الصنعة وحسن التشبيه وإبداع المعاني ما ليس في
أبيات النابغة؛ إذ جعل لليل صلباً وأَعْجازاً وكَلْكلاً، وشبّه تراكم ظلمة الليل
بموج البحر في تلاطمه عند رُكُوب بعضه بعضاً حالا على حال، وجعل النجوم كأنها
مشدودة بحبال وثيقة فهي راكدة لا تزول ولا تبرح، ثم لم يقتصر على ما وصف من هذه
الأمور حتى عللها بالبلوى ونبه فيها على المعنى، وجعل يتمنى تَصَرُّمَ الليل بعود
الصبح لما يَرجو فيه من الرَّوْح، ثم ارْتَجَعَ ما أعطى واستدرك ما كان قدمه
وأمضاه، فزعم أن البلوى أعظمُ من أن يكونَ لها في شيء من الأوقات كشْفٌ وانْجلاءٌ
(...) وهذه الأمور لا يتفق مجموعها في اليسير من الكلام إلا لمثله من المبرّزين في
الشعر الحائزين فيه قصَب السبق (...).
فمثل هذه الأمور تُعتبر معاني المعارضة فيقع بها
الفصلُ بين الكلاميْن من تقديم لأحدهما أو تأخير أو تسوية بينهما» [62 – 63].
الواقع أن هذه الوقفات التحليلية الدقيقة في المعارضات والمقارنات، تنم عن ذوق فني
له خبرة بتحليل النصوص والموازنة بين أساليبها وإدراك لمواطن الجمال فيها. ولا أشك
في أن أمثال هذه التحليلات الأدبية قد مهّدت السبل لمن اهتم بأسلوب القرآن كأبي
بكر الباقلاني (403هـ) الذي عُنيَ بتحليل معلقة امرئ القيس وذلك في معرض احتجاجه
لبلاغة القرآن، أو من عُنيَ بالموازنة كأبي القاسم الآمدي (371هـ). وبذلك يمكن
القول إن الرؤية الإعجازية في مستوياتها الفنية قد أسهمت بفاعلية في الرؤية
النقدية.
ب
– قضية القدم والحداثة:
من القضايا النقدية التي شغلت الساحة النقدية خلال
مرحلة التدوين، نجد قضية الصدام بين القدماء والمحدثين التي كشفت عن التحول
الحضاري الذي شهدته الأمة الإسلامية في صيرورتها التاريخية، وقد لاحظ الخطابي ذلك
التحول الذي لحق اللغة العربية بتقادم العهد، من نزول الوحي إلى عهده، فقد ذهب مَن
يُحسن الكلام من القدماء. أمّا شعر المولدين فقد « دخله الخلل (...) ولهذا صار
العلماء لا يحتجون بشعر المحدثين، ولا يستشهدون به، كبشار بن برد، والحسن بن هانئ،
ودعبل والعتابي، وأحزابهم من فصحاء الشعراء والمتقدمين في صنعة الشعر ونجره. وإنما
يرجعون في الاستشهاد إلى شعراء الجاهلية وإلى المخضرمين منهم، وإلى الطبقة الثالثة
التي أدركت المخضرمين؛ وذلك لعلمهم بما دخل الكلام في الزمان المتأخر من الخلل
والاستحالة عن رسمه الأول» [46].
خاتمة:
يمكن القول إن أبا سليمان الخطابي كان
رائداً في تحليل فكرة الإعجاز بأدلة لغوية جمالية، فتجاوز أمر الدفاع عن عروبة
القرآن، إلى تقرير وإثبات ظاهرة الإعجاز في النص القرآني بتجلياتها الجمالية
ومناحيها البلاغية كما كشف عنها النظم القرآني. والحق أن المتأمل في معالجة
الخطابي لقضية الإعجاز يراه يعالجها وكأنها قضية من قضايا علم الجمال، أساسها النص
اللغوي القرآني في مستوياته التعبيرية وقدراته الإيحائية، وشحناته النفسية.
هوامش:
1
– تنظر ترجمة الخطابي في معجم الأدباء:5/368 ( وورد عنده باسم: أحمد)، وفي أعلام
الزركلي: حمْد بتسكين الميم:2/273 (ط11) – وإنباء الرواة على أنباه النحاة
للقفطي:1/153 – وطبقات المفسرين للداودي:3/34، وتنظر مؤلفاته عند د. فؤاد سيزكين
في: تاريخ التراث العربي:1/520
2
– الأرقام الواردة بين معقوفين هكذا [ ] تحيل
إلى رسالة بيان إعجاز القرآن ( ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز)، تحقيق: محمد خلف الله
أحمد ود. محمد زغلول سلام – ط4 [ القاهرة، دار المعارف – ذخائر العرب:16 -،
1991م]، ص21
3
– مقالات الإسلاميين للأشعري:1/296
4
- مجلة الحياة الثقافية، س4 ع6، عام 1979، ص8
5 – أثر القرآن
في تطور النقد العربي، ص259 – 260
[
نشر في مجلة منار الإسلام بعنوان: « بيان إعجاز القرآن واتجاه أهل الحديث»، العدد
الثاني، السنة 12، صفر 1407 هـ/أكتوبر 1986م،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق