عباس أرحيلة
حديثه إحساس عامّ بموسيقى اللفظ؛ إحساس صقله الدّرس والبحث،
صفاء الذوق. والحقُّ أن الجاحظ استفاض في حديثه عن اللفظ؛ ببيان قيمته في
ارتباطه بالمعنى، كما فُتن بموسيقاه وما يتضمّنه من إيقاعات. الصوت هو آلة اللفظ، والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف. ولن تكون حركات اللسان لفظاً ولا كلاماً موزوناً ولا منثوراً إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحرف كلاماً إلا بالتقطيع والتأليف(1)
.
وإن الحسّ الفنّيَّ لديه يجعل الموسيقى اللفظيّة تأسر وجدانه. وننظر إلى
الجاحظ كيف انفعل بكلام الأعرابيّ حين يقول: «وأن أقول إنَّه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق، ولا ألذُّ في الأسماع، ولا أشدُّ اتِّصالا بالعقل السليمة، ولا أفتقُ للسان ولا أجود تقويماً للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء والعلماء البلغاء»
(2).
ويقوده حسُّه الفنّيُّ إلى حديثه عن مخارج بعض الحروف
(3) ، وذكرِه لأكثر الحروف دوراناً في العربيّة، وعرضه للأدواء الصوتيّة في اللسان العربيّ
(4).
وانتبه الجاحظ إلى اقتران الحروف في بنية الكلمة
(5). وإلى تنافر الألفاظ واقترانها، وخلص من ذلك إلى القول : «إنَّ أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج؛ فتعلم بذلك أنه قد أُفرغ إفراغاً، وسُبك سبكاً واحداً؛ فه يجري على اللسان كما يجري الدِّهان»
(6).
وليست الفصاحة عنده في غرابة اللفظ. «وكما لا ينبغي أن يكن اللفظ عامِّيّاً وساقطاً سوقيّاً؛ فكذلك لا ينبغي أن يكون غريباً وحشيّاً؛ إلا أن يكن المتكلِّم بدويّاً أعرابيّاً» (7)، وإنما في تناسبه مع الغرض.
يقول: «ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماع» (8)،
والاعتدال في تخيُّره وتنقيحه. يقول:
« ولا تجعل همَّك في تهذيب الألفاظ، وشغلك إلى التخلّص إلى غرائب المعاني، وفي الاقتصار بلاغ، وفي التوسُّط مجانبة للوعورة»(9). وفي تزاوجه مع المعنى؛ استجابة للقاعدة البلاغيّة لكل مقام مقال. يقول: « ومتى شاكل - أبقاك الله - اللفظ المعنى وأعرب عن فحواه؛ كان قميناً بحسن الموقع، وبانتفاع المستمع، وأجدر أن يُمنع جانبه من تناول الطاعنين. فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً؛ كان صحيح الطبع، بعيداً عن الاستنكار، ومنزَّهاً عن الاختلال، مصوناً من التّكلُّف؛ صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة؛ أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد؛ ما لا يمنع معه من تعظيمها صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمها معه عقول الجهلة
(10),
1 - البيان والتبيين:
1/71.
2
- نفسه: 1/145.
3 - يذكر الحروف الأولى التي ينطق بها الطفل، ويتحدّث عن أثر الأسنان في النُّطق، وعن الحرف التي تتهيَّأ للحيوان: البيان والتبيين:
1/61.
4 - يذكر أيضا أكثر الحروف دوراناً عند الروم والجمارقة، والحروف التي لا ينطق بها الروم والفرس والسريان: نفسه:
1/64 – 65، كما حدث عن الحروف التي تدخلها لثغة: نفسه:1/34.
5 - يقول إن الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين... وهذا باب كبير: تنظر تتمة الأمثلة في البيان: 1/68 – 69.
6 – البيان والتبيين: 1/34.
7
- نفسه: 1/144.
8 - الحيوان: 3/39. 9 – البيان والتبيين:1/255.
10 -
نفسه:1/83 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق