مناظرة
في إعجاز القرآن (1)
بين
رئيس اليهود والصاحب بن عباد
عباس
أرحيلة
شهد
القرن الرابع مناظرة في إعجاز القرآن بالرَّيّ بين اليهوديّ رأس الجالوت، والصاحب
بن عبّاد (أبو القاسم إسماعيل بن عباد، كافي
الكُفاة (326 –
385هـ)، وزير مؤيِّد الدولة بن ركن الدولة البويهيّ.
ونقل أبو حيّان التوحيدي (414هـ) جانباً منها.
فذكر أن الصاحب « ناظر بالرّيّ اليهوديَّ رأسَ الجالوت في إعجاز القرآن، فراجعه
اليهوديُّ فيه طويلا، وماتنه (2) قليلا. وتنكّر عليه حتى احتدّ وكاد يتقد. فلما
علِمَ أنه قد سَجَرَ تَنُّورُه، وأسعط أنفه احتال طلباً لمصاداته(3)، ورفقاً به في
مخاتلته، فقال: أيها الصاحب: فلمَ تتّقِد وتستشيطُ وتلتهبُ وتختلِط؟ كيف يكون
القرآن عندي آيةً، ودلالةً ومعجزةً من جهة نظمه وتأليفه؟ فإن كان النظم والتأليف
بديعيْن، وكان البلغاء فيما تدّعي عنه عاجزين، وله مُذعنين؛ وها أنا أَصْدُقُ عن
نفسيّ، وأقول ما عندي: إن رسائلك وكلامك وفِقَرَك وما تؤلفه وتُبادِهُ به نظماً
ونثراً؛ هو فوق ذلك، أو مثل ذلك وقريب منه. وعلى كل حال، فليس يظهر لي أنه دونه،
وأن ذلك سيستعلي عليه بوجه من وجوه الكلام أو بمرتبة من مراتب البلاغة.
فلما
سمع ابن عباد هذا فتَرَ وخمَدَ، وسكَنَ عن حركته، وانخمص ورَمُه به وقال: ولا هكذا
يا شيخ، كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظاً وافراً، ومن البيان نصيباً
ظاهراً؛ ولكن القرآن له المزية التي لا تُجهَل، والشرف الذي لا يُخمَل. وأين ما
خلقه الله على أتمّ حسن وبهاء؛ ممّا يخلقه العبد بطلب وتكلّف؟
هذا
كله يقوله، وقد خبا حميُّه، وتراجع مزاجه، وصارت نارُه رماداً؛ مع إعجاب شديد قد
شاع في أعطافه، وفرح غالِبٌ قد دبَّ في أسارير وجهه؛ لأنه رأى كلامه شُبهةً على
اليهود(4)، وعلى عالمهم وحَبْرهم، مع سعَة حِيَلهم وشدّة جدالهم، وطول نظرهم
وثباتهم لخصومهم».
وبالرغم
من أن أبا حيان ساق خبر هذه المناظرة في إطار ثلب الوزير والسخرية من غروره،
وانخداعه بالإطراء الأجوف؛ فإن خبر المناظرة ومضمونها؛ يكشفان عمّا في نفوس الشعوب
الحاقدة على الإسلام من رغبة في رفع القداسة عن الوحي؛ الذى أعطى للشعب العربيّ
تلك المكانة الحضاريّة، كما يدلان على مبلغ تسامح أولي الأمر في الخلافة
الإسلاميّة، مع أهل العقائد الأخرى، حين أخذ كل فريق يعبر عن نِحلته في حرية ومن
غير حرج. ولعل أبا حيان؛ إمعاناً في كشف غرور الصاحب وسوء طوية اليهوديّ: جعل هذا
الأخير يغيّر من أسلوب المناظرة؛ خوفاً من غضبه، وتقرّباً إليه.
وقال
عنه أبو حيان التوحيديّ في: الإمتاع والمؤانسة: « يخدعه الصبيّ، ويخلبُه
الغبيّ؛ لأن المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال له... رسائل
مولانا سُوَرُ قرآنِ، وفِقَرُه فيها آيات فُرقان، واحتجاجه في أثنائها برهان فوق
برهان؛ فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص»:1/55.
ــــــــــــــــــــــــــ
1 - قصة المناظرة
ونص منها في: أخلاق الوزيريْن (مثالب الوزيرين الصاحب بن عباد وابن
العميد)، تأليف أبي حيان عليّ بن محمد التوحيديّ
تحقيق: ابن تاويت الطنجيّ، ص 299 – 301
- وفي: معجم الأدباء: 2/682- 683،
وقصة المناظرة في الوافي بالوفيات: ترجمة الصاحب بن عباد، رقم (4042):
9/135 –
136.
2 - معجم الأدباء، الوافي بالوفيات:
ماتنه. في أخلاق الوزيريْن: وثابته.
3 - المُصاداة: المُداراة. 4 - معجم الأدباء: لأن رأى كلامه شبهة لليهود وأهل الملل: 2/683.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق