الأربعاء، 11 سبتمبر 2019


عن المشروع الفكريّ للقاضي عياض
أولا: ما المراد بالمشروع الفكري للقاضي عياض؟
 هو ما أوقف عليه حياته الفكريّة، وجعله وِجهةً لنظره فيما كانت تتطلع إليه مرحلتُه التاريخية، وفي إطار ذلك المشروع تحدَّدت مقاصدُه في مجالات الفكر. فمشروع القاضي عياض هو ما رسمت معالمَه جهودُه العلميّةُ، وكانت مواقفُه في الحياة صدىً لها. وهو مشروع لا يتأتَّى إدراكُ أبعاده إلا  بدراسة آثاره الفكريّة وجهوده العلميّة، وما يسكنها من نزوع إصلاحي، ويقف وراءها من أهداف تتطلع إليها مرحلتُه، وتحول دون تحقيقها تحديات تجعل صاحبها في لحظة صدام تاريخي  يفرضه واقع مغاير لمشروعه الفكريّ.
ومن البداهة القول إنه لا يمكن الحديث عن مشروع فكري إلا إذا شيّده عقل كبير، لصاحبه رؤية ثاقبة في قضايا الأمة التي ينتمي إليها، رؤية تحدِّد ما تتطلع إليه من أهداف، وما تتطلبه من تضحيات، وما لديها من استعدادت لشتى التحديات. ثم إن من طبيعة كل مشروع أن يكون مترامي الأطراف يتسع لمجالات فكرية متعددة يصعب سبرها.
وباختصار شديد، إن مشروعه الفكري هو ما ضمَّنَه كتبَه من آراء وتوجيهات ترتبط بما كانت الحاجة تدعو إليه في الأربعين سنة الأولى من القرن السادس للهجرة.
ثانيا: ماذا عن ماهية مشروعه الفكريّ؟
مشروعه كما أعرب عنه ما وصلنا من آثاره، يقوم على أربعة محاور:
المحور الأول: اعتماد الوحي في شقه المتعلق بالحديث النبوي الشريف؛ وذلك باستيعاب نصوصه كما اتضحت مساراته العلميّ روايةً ودرايةً، وبكل ما استقرت عليه المناهج بكيفية استقراء أسانيده ومتونه والعمل على ضبطها وتحقيقها.
واعتماد الوحي هو اعتماد الجانب العمليّ التطبيقي لمقتضيات الوحي في حركة الحياة البشريّة، ويزيده جلالا وجمالا حين تكون  موارده ومصادره من البيئة النبوية في المدينة المنورة، كما نقلها إمام المدينة عن أهلها، الإمام مالك رضي الله عنه.
المحور الثاني: ترسيخ المذهب المالكيّ؛ حفاظاً على السنة النبوية المطهرة في ضوء ما انتهى إليه العلم بحقيقة الوحي فيها، وكيف تجلت تطبيقاتها في حياة صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، واتضحت آثارها في مواقفهم وأقوالهم في فهم مضامينها ومقاصدها.
المحور الثالث: نزوع إصلاحي في بعده الاجتماعي، كانت له تجلياته في مجالات الإفتاء والقضاء والتدريس والعناية بالفقراء تبعا لموقعه في مجتمعه آنذاك.
المحور الرابع: نهوضه بواجب الإصلاح السياسي ومناهضة الانحرافات العقدية والسلوكية التي أُريد بها القضاء على انشار السنة النبوية في الغرب الإسلامي، واعتمادها في حركة الحياة، وبالتالي القضاء على المذهب المالكي؛ بإبادة أهله وإتلاف مصادره، وإحلال المهدوية في ربوعه. وكان من مهمات المرابطين القضاء على برغواطة وما تدين به من أفكار خارجة عن الإسلام.
ثالثا: عن محاولة تقديم رؤية شاملة ودقيقة عن مشروعه
الدرس الأكاديمي اليوم لا يسمح بتقديم رؤية شاملة ودقيقة لمشروع عياض لسببيْن:
الأول أنه لا يتأتّى استقراءُ آثار القاضي عياض لضياع الكثير من آثاره الفكرية، إلى جانب ما يحف بعض الأحداث والوقائع من غموض في تاريخه الشخصي؛ بالرغم من أنه بقي من آثاره كتابُه (الغُنْية) الذي أغنانا معرفةً بشيوخه، وكتاب (التعريف بالقاضي عياض) لابنه القاضي أبي عبد الله محمد؛ وإن لم يستوعب كل جوانب حياة والده؛ إذ كان تأليفه زمن الموحدين فاضطر لمداراتهم. وهناك (أزهار الرياض في أخبار عياض) لأحمد المَقَّري 1041هـ، في خمسة مجلدات. ومع هذا يمكن القول إن ما وصل من آثاره يقدم فكرة عن مشروعه أقرب إلى الدقة والشمول.
 والسبب الثاني: خضوع هذا الدرس لتأثيرات تطغى عليها إيديولجيات أصبحت في زماننا بمثابة نحل جديدة، ومن جملة ما أصبح يخضع له ذلك الدرس ما قامت عليه المشاريع الفكرية في الدراسات العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين من منهجيات حديثة؛ قضيتها الجوهرية مع الوحي الذي تقوم عليه حضارة الإسلام. على نسف مقولة الوحي، بالدعوة إلى التعامل مع الذين باعتباره معطىً تاريخيّاً، بمحاربة الرؤية الغيبيّة للتراث، بتطبيق المنهج الجدلي وتخطي الطريقة السلفية لقراءة التراث، بنقد العقل العربي وإخراجه من الفكر التقليديّ... سؤال النهضة.
في حديث الجابري: يرى أن الحضارة اليونانية حضارة فلسفة، والحضارة الأوربية المعاصرة حضارة علم وتقنية، أما الحضارة العربية الإسلامية فهي حضارة فقه في الأساس. ويرى أن العقل الفقهي هو الذي أسس العقل العربي، بل إن العقل العربي هو عقل فقهي؛ أي أن النص أصبح السلطة المرجعية للعقل العربي. فأصبح العقل العربي عقلا نصوصيا، لا هو مرتبط بالواقع وقضاياه، ولا هو مرتبط بالطبيعة والتاريخ. لم يعد العقل هو المشرع للفقه، وإنما الفقه هو المشرع للعقل.





الجمعة، 11 يناير 2019


من حوار معي في مجلة ( البلاغة وتحليل الخطاب):
سؤال:
إن احتفاءكم بكل ما هو تراثيّ ومعه البلاغة والنقد، نجده مشدوداً بسؤال مركزيّ مهيمن هو سؤال التأصيل، فما المقصود بهذا المصطلح؟ ولماذا هذا الاهتمام الكبير بالتراث العربي، تحقيقاً ودراسةً وتأليفاً؟
جواب:
إني أنتمي إلى تراث ارتبط بدينٍ واحتفَّ به، وتخَلَّقَ منه وجود حضاريّ؛ هو مستودَع حضارة الإسلام عقيدةً ولغةً وفكراً. وصار هذا التراث بمثابة جيناتٍ وراثيةً بها يُعرف من له انتماء إلى تلك الحضارة، وباستلهام روحها يتطوّر في الوجود، فتصبح هُويَّته مشروطة بوجوده، وتصبح تلك الهُوية هي مكمَن القوة فيه. فلا عجب أن يكون السعي إلى إطفاء جذوته، ويكون في معترك عصرنا من يسعى إلى بعثه برؤية إبداعية خلاَّقة، نابعة من حاضر هذا الزمن، متَّسقة مع أحداثه وما جدَّ فيه. [ولي كتيِّب مهيَّأ للنشر بعنوان: "تراثنا في مسار التحديات"].
ومن أعجب وأغرب ما شاع وذاع؛ دعوة بعضهم إلى الانقطاع عن العمل بالتراث. وهبه انقطع، وكان بإمكانه إحداث قطيعة مع موروثه إن وُجد،  وتقطَّعت أسبابه بأسباب التراث؛ فما تكون هويتُه، وكينونتُه ووجهتُه؟ هل يمكن أن يفر من قدره في وجوده، وإن أرد الانسلاخ عنه؟ إن هذا الموروث هو الذي يحدِّد معنى لوجوده؛ إذ هو الموجِّه لحركته في الحياة، والمؤثر في حاضره ومستقبله. إن هذا التراث، كما قلت، تخلَّق من دين إلهي، اتَّسعت مجالات النظر في ضوئه باتساع التحديات التي واكبته على امتداد تاريخه الطويل؛ فتشكَّل من كل ذلك تراث الإسلام؛ أي ما خلَّفته العقول في التفاعل معه: إيماناً وسلوكاً وفهماً وشرحا وتأويلا...

أمّا المراد بالتأصيل فهو الرغبة في الدفاع عن أصل لنا في هذا الوجود، وإثبات كينونة حضارية لها مقوماتها المستمدّة من الدين الخاتم؛ الذي استوعب ما سبق من ديانات، ووضع نقطة الختم للتجربة البشرية على الأرض. فالتأصيل دعوة إلى إثبات القيم التي  تأسّس عليها الوجود الحضاري لأمة الإسلام وإلى الإيمان بدورها، وضرورة التشبث بها.
 التأصيل وقفة وجودية في مواجهة محاولات تشويه التراث الإسلامي وجعله وريثا لثقافة وجَّهت فكرنا في القديم والحديث على السواء. ودعاوى القطيعة والانقطاع عن التراث؛ هي دعاوى الاستشراق في اعتبار الإسلام ظاهرة تاريخيّة، ظهرت في العصر الوسيط بمفهومه الأوربي، ثم انتهت.
 فالمراد بالتأصيل دعوة إلى الإيمان بهوية يتشكَّل منها الأصل للكيان  العقدي والحضور الفكري واللغوي في مواجهة محاولات القضاء على تلك الكينونة التي حدّدها الدين الإسلامي.  وواضح أن محاولات الانقطاع عن العمل بالتراث؛ هو ما أسهم في تشويه كينونة الأمة وتفتيتها اليوم.
          فالتأصيل عندي دعوة لاستلهام روح الصمود التي كان عليها الفكر الإسلامي في القديم، وما تميز به من قدرة في دفاعه عن الكينونة الإسلامية في قدرتها على التفاعل؛ دون أن تفقد مقومات وجودها. ولا يختلف عندي مفهوم التأصيل عن المثاقفة؛ إلا حين تصبح المثاقفة استنساخاً لأقوال الآخر، وتبعية عمياء لآرائه وفكره، وطموحاً للتماهي مع تجربته في الحياة إلى حدّ الذوبان دون شعور منه بالكيان.


من حوار معي في مجلة ( البلاغة وتحليل الخطاب):
سؤال:
إن احتفاءكم بكل ما هو تراثيّ ومعه البلاغة والنقد، نجده مشدوداً بسؤال مركزيّ مهيمن هو سؤال التأصيل، فما المقصود بهذا المصطلح؟ ولماذا هذا الاهتمام الكبير بالتراث العربي، تحقيقاً ودراسةً وتأليفاً؟
جواب:
إني أنتمي إلى تراث ارتبط بدينٍ واحتفَّ به، وتخَلَّقَ منه وجود حضاريّ؛ هو مستودَع حضارة الإسلام عقيدةً ولغةً وفكراً. وصار هذا التراث بمثابة جيناتٍ وراثيةً بها يُعرف من له انتماء إلى تلك الحضارة، وباستلهام روحها يتطوّر في الوجود، فتصبح هُويَّته مشروطة بوجوده، وتصبح تلك الهُوية هي مكمَن القوة فيه. فلا عجب أن يكون السعي إلى إطفاء جذوته، ويكون في معترك عصرنا من يسعى إلى بعثه برؤية إبداعية خلاَّقة، نابعة من حاضر هذا الزمن، متَّسقة مع أحداثه وما جدَّ فيه. [ولي كتيِّب مهيَّأ للنشر بعنوان: "تراثنا في مسار التحديات"].
ومن أعجب وأغرب ما شاع وذاع؛ دعوة بعضهم إلى الانقطاع عن العمل بالتراث. وهبه انقطع، وكان بإمكانه إحداث قطيعة مع موروثه إن وُجد،  وتقطَّعت أسبابه بأسباب التراث؛ فما تكون هويتُه، وكينونتُه ووجهتُه؟ هل يمكن أن يفر من قدره في وجوده، وإن أرد الانسلاخ عنه؟ إن هذا الموروث هو الذي يحدِّد معنى لوجوده؛ إذ هو الموجِّه لحركته في الحياة، والمؤثر في حاضره ومستقبله. إن هذا التراث، كما قلت، تخلَّق من دين إلهي، اتَّسعت مجالات النظر في ضوئه باتساع التحديات التي واكبته على امتداد تاريخه الطويل؛ فتشكَّل من كل ذلك تراث الإسلام؛ أي ما خلَّفته العقول في التفاعل معه: إيماناً وسلوكاً وفهماً وشرحا وتأويلا...

أمّا المراد بالتأصيل فهو الرغبة في الدفاع عن أصل لنا في هذا الوجود، وإثبات كينونة حضارية لها مقوماتها المستمدّة من الدين الخاتم؛ الذي استوعب ما سبق من ديانات، ووضع نقطة الختم للتجربة البشرية على الأرض. فالتأصيل دعوة إلى إثبات القيم التي  تأسّس عليها الوجود الحضاري لأمة الإسلام وإلى الإيمان بدورها، وضرورة التشبث بها.
 التأصيل وقفة وجودية في مواجهة محاولات تشويه التراث الإسلامي وجعله وريثا لثقافة وجَّهت فكرنا في القديم والحديث على السواء. ودعاوى القطيعة والانقطاع عن التراث؛ هي دعاوى الاستشراق في اعتبار الإسلام ظاهرة تاريخيّة، ظهرت في العصر الوسيط بمفهومه الأوربي، ثم انتهت.
 فالمراد بالتأصيل دعوة إلى الإيمان بهوية يتشكَّل منها الأصل للكيان  العقدي والحضور الفكري واللغوي في مواجهة محاولات القضاء على تلك الكينونة التي حدّدها الدين الإسلامي.  وواضح أن محاولات الانقطاع عن العمل بالتراث؛ هو ما أسهم في تشويه كينونة الأمة وتفتيتها اليوم.
          فالتأصيل عندي دعوة لاستلهام روح الصمود التي كان عليها الفكر الإسلامي في القديم، وما تميز به من قدرة في دفاعه عن الكينونة الإسلامية في قدرتها على التفاعل؛ دون أن تفقد مقومات وجودها. ولا يختلف عندي مفهوم التأصيل عن المثاقفة؛ إلا حين تصبح المثاقفة استنساخاً لأقوال الآخر، وتبعية عمياء لآرائه وفكره، وطموحاً للتماهي مع تجربته في الحياة إلى حدّ الذوبان دون شعور منه بالكيان.

الجمعة، 20 يوليو 2018


كتابي الجديد: عباس أرحيلة
 (ملامح من السياق الحضاريّ للسيرة النَّبويّة عند الجاحظ)، ضمن سلسلة روافد، الإصدار: 142 ط1، يونيو 2017م/ شعبان 1438هـ - الكويت، وزارة الأوقاف والشئون الإسلاميّة.
(ومما ورد في مقدمة الكتاب).
... أمّا بعد؛
 فهذه ملامحُ من السّياق الحضاري للسيرة النبويّة ، كما استقيتُها من آثار أبي عثمان عمرو بن بحر الجاح؛ كما دبَّجتْها يراعتُه؛ وجال فيها فهمه وذكاؤه، وأعربتْ عنها بلاغتُه وبيانُه؛ ضمن رؤيته الشمولية للوسط العربيّ، حين دخل معترك التاريخ؛ واستقبل آخر عهد للنبوَّات كانت البشريّة تترقَّبُه وتتطلَّعُ إليه...
فملامح السِّيرة هذه جاءت ضمن رؤية أحد أذكياء العالم، ومن شُهد له بالنبوغ في القديم والحديث، وممَّن خَبَروا  أوضاعَ المجتمع العربيّ، ورَصَدوا فيه انبعاث الدعوة المحمّدية في انسجام مع مرحلتها، بكل أبعادها الإنسانيّة والاجتماعيّة والدينيّة والثقافيّة، وممّن كانت لهم صولات وجولات في كثير من جوانب المعرفة، وممَّن كانت عيْنُه على مسار الإمامة السّياسيّة في الإسلام إلى زمانه.
ونتيجة لتكوينه العلميّ والمعرفيّ بالمجتمع العربيّ، ومتابعاته الدقيقة لكل ما يجري فيه؛ كان الجاحظ خير من رَصَدَ لحظةَ ترسيخ الهُوية الثقافيّة للأمة العربيّة، في فترة تفاعلها مع بقية ثقافات الشعوب الأخرى، ولحظةَ مواجهات للمدّ الشعوبيّ الذي جاء لإزاحة العنصر العربيّ عن موقعه الحضاريّ، والعملِ على نَسْفِ هُويَّته؛ إذ أصبحتْ له السِّيادة والقيادة آنذاك.
 وكان الجاحظُ ذلك العقلَ الذي يراقب ما كان يجري في ساحة الفكر العربيّ علميّا وتاريخيّا واجتماعيّا وحضاريّاً وأدبيّا، مع ما يتناسب مع لحظة الانبثاق تلك من ضرورة تحديد المفاهيم في الثقافة العربيّة...

أكان بالإمكان أن لا تكون شخصية الرسول الأكرم حاضرة في عقل الجاحظ ووجدانه؟ ما كانت نباهتُه لتُحرَم من الانبهار بأرقى صورة للحياة البشريّة في تجلِّياتها الواقعيّة من خلال أقوالها وأفعالها ومواقفها؛ وهي تخوض معترك آخر مظهر للنبوَّة في التجربة البشريّة على الأرض، بعد حين من الدهر سادت فيه الوثنيّات، وتشوّهَ فيه ما بقي من الديانات؛ إلا بقايا عند أهل الكتاب.
وقد استجلى ملامح السيرة النبوية التي عرض لها، ضمن قراءته، لطبيعة الوسط الذي تمّ فيه استقبال الوحي، والذي انبثقت منه التجربة الإسلاميّة العربيّة في مسارها الحضاريّ العام إلى زمانه أواسط القرن الهجريّ الثالث...
في إطار إعجابه الشديد بالتجربة الحضاريّة للعرب؛ إذ العرب عنده أصل القيم الإنسانيّة في الوجود. ولا يرى أحداً يُدانيهم في هذه القيم بين شعوب الأرض؛ إذ « ليس في العرب للناس نظير»، كما يقول...
 وجاءت محتويات السيرة النبويّة لديه ضمن محاولة لتعليل الظواهر والأحداث، ورصدها في سياقاتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة؛ تبعاً لطبيعة تكوينه العلميّ، واطلاعه الواسع، وانفتاحه على بقية الثقافات... وبتأثير من نزعته العقليّة؛ سعى إلى تطهير السيرة من الروايات الخياليّة والقصص الواهية...
 وهو في كل ذلك وغيره؛ يدعو إلى يقظة ضمير الأمة، يُذكِّرُها بمسؤوليتها التاريخيّة والمصيريّة في نصرة الدين الحق، والحفاظ على لغة الوحي في المسار البشريّ على الأرض.







الاثنين، 28 مايو 2018


مناظرة  في إعجاز القرآن (1)
بين رئيس اليهود والصاحب بن عباد
عباس أرحيلة
شهد القرن الرابع مناظرة في إعجاز القرآن بالرَّيّ بين اليهوديّ رأس الجالوت، والصاحب بن عبّاد (أبو القاسم إسماعيل بن عباد، كافي الكُفاة (326 385هـ)، وزير مؤيِّد الدولة بن ركن الدولة البويهيّ.
 ونقل أبو حيّان التوحيدي (414هـ) جانباً منها. فذكر أن الصاحب « ناظر بالرّيّ اليهوديَّ رأسَ الجالوت في إعجاز القرآن، فراجعه اليهوديُّ فيه طويلا، وماتنه (2) قليلا. وتنكّر عليه حتى احتدّ وكاد يتقد. فلما علِمَ أنه قد سَجَرَ تَنُّورُه، وأسعط أنفه احتال طلباً لمصاداته(3)، ورفقاً به في مخاتلته، فقال: أيها الصاحب: فلمَ تتّقِد وتستشيطُ وتلتهبُ وتختلِط؟ كيف يكون القرآن عندي آيةً، ودلالةً ومعجزةً من جهة نظمه وتأليفه؟ فإن كان النظم والتأليف بديعيْن، وكان البلغاء فيما تدّعي عنه عاجزين، وله مُذعنين؛ وها أنا أَصْدُقُ عن نفسيّ، وأقول ما عندي: إن رسائلك وكلامك وفِقَرَك وما تؤلفه وتُبادِهُ به نظماً ونثراً؛ هو فوق ذلك، أو مثل ذلك وقريب منه. وعلى كل حال، فليس يظهر لي أنه دونه، وأن ذلك سيستعلي عليه بوجه من وجوه الكلام أو بمرتبة من مراتب البلاغة.
فلما سمع ابن عباد هذا فتَرَ وخمَدَ، وسكَنَ عن حركته، وانخمص ورَمُه به وقال: ولا هكذا يا شيخ، كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظاً وافراً، ومن البيان نصيباً ظاهراً؛ ولكن القرآن له المزية التي لا تُجهَل، والشرف الذي لا يُخمَل. وأين ما خلقه الله على أتمّ حسن وبهاء؛ ممّا يخلقه العبد بطلب وتكلّف؟
هذا كله يقوله، وقد خبا حميُّه، وتراجع مزاجه، وصارت نارُه رماداً؛ مع إعجاب شديد قد شاع في أعطافه، وفرح غالِبٌ قد دبَّ في أسارير وجهه؛ لأنه رأى كلامه شُبهةً على اليهود(4)، وعلى عالمهم وحَبْرهم، مع سعَة حِيَلهم وشدّة جدالهم، وطول نظرهم وثباتهم لخصومهم».
وبالرغم من أن أبا حيان ساق خبر هذه المناظرة في إطار ثلب الوزير والسخرية من غروره، وانخداعه بالإطراء الأجوف؛ فإن خبر المناظرة ومضمونها؛ يكشفان عمّا في نفوس الشعوب الحاقدة على الإسلام من رغبة في رفع القداسة عن الوحي؛ الذى أعطى للشعب العربيّ تلك المكانة الحضاريّة، كما يدلان على مبلغ تسامح أولي الأمر في الخلافة الإسلاميّة، مع أهل العقائد الأخرى، حين أخذ كل فريق يعبر عن نِحلته في حرية ومن غير حرج. ولعل أبا حيان؛ إمعاناً في كشف غرور الصاحب وسوء طوية اليهوديّ: جعل هذا الأخير يغيّر من أسلوب المناظرة؛ خوفاً من غضبه، وتقرّباً إليه.
وقال عنه أبو حيان التوحيديّ في: الإمتاع والمؤانسة: « يخدعه الصبيّ، ويخلبُه الغبيّ؛ لأن المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال له... رسائل مولانا سُوَرُ قرآنِ، وفِقَرُه فيها آيات فُرقان، واحتجاجه في أثنائها برهان فوق برهان؛ فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص»:1/55.
ــــــــــــــــــــــــــ
1 -  قصة المناظرة ونص منها في: أخلاق الوزيريْن (مثالب الوزيرين الصاحب بن عباد وابن العميد)، تأليف أبي حيان عليّ بن محمد التوحيديّ  تحقيق:  ابن تاويت الطنجيّ، ص 299 301 -  وفي: معجم الأدباء: 2/682- 683، وقصة المناظرة في الوافي بالوفيات: ترجمة الصاحب بن عباد، رقم (4042): 9/135 136.
2 - معجم الأدباء، الوافي بالوفيات: ماتنه. في أخلاق الوزيريْن: وثابته.
3 -  المُصاداة: المُداراة.                               4 - معجم الأدباء: لأن رأى كلامه شبهة لليهود وأهل الملل: 2/683.


  





الخميس، 17 مايو 2018


الشريف مولاي محمد آيت الفرَّان
( ورقة من ترجمة)
عباس أرحيلة

الشريف مولاي محمّد بن مولاي مبارك آيت الفران، من أسرة علوية عريقة في الشرف، لها رسوخها وأصالتها بمدينة مراكش، ولد بحيّ عريق من أحياء مدينة مراكش سنة 1948م، يقع وسط المدينة، يحمل اسم أمازيغي: (أزبزط).

 كان والده مولاي مبارك رحمه الله يعمل في مجال الصناعة التقليديّة . أخذ مولاي محمّد حصة من قراءة القرآن بالكُتَّاب شأن أبناء جيله، ثم التحق بالتعليم الابتدائي العصري بمدرسة : قاعة بنَّاهض، وشهد له معلموه بالنباهة والتفوق في تلك المرحلة.
وفي المرحلة الثانوية من تكوينه التحق بالتعليم الأصيل؛ أو ما يُعرف بمدرسة ابن يوسف، وكان من رفقائه في تلك المرحلة: عبد الحفيظ كَحْل العيون، مولاي أحمد البوعناني، أحمد تبليست، عبد الصمد بلكبير، بنشارف الرحماني ، عبد الإله المساري (الوكيل العام حاليا)...
حصل على شهادة البكالوريا سنة 1967م، ثم التحق بالمدرسة العليا، التي كانت تابعة آنذاك لكلية الآداب جامعة محمد الخامس بالرباط، ولحاجة الدولة إلى أساتذة التعليم الثانوي آنذاك ؛ تم اختيار مدينة فاس لتكون ملحقة بكلية الآداب بالرباط، ولتتولّى الدراسات العربية.

وبعد حصوله على شهادة الإجازة في الأدبي العربي؛ تم تعيينه بثانوية شوقي بمدينة الدار البيضاء سنة 1971م. وإثر حصوله على شهادة الدراسات المعمّقة اجتاز مباراة الدخول إلى كلية الآداب بمراكش في انطلاقتها الأولى سنة 1979م. وجاء ابتعاثه للدراسة بالجامعة الألمانيّة في مطلع الثمانينيات، وبع حصوله على شهادة الدكتوراه منها؛ أضحى من مؤسسي الدرس اللساني الجامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة مراكش. وكان خير من نقل تجربته العلمية  إلى طلبة كلية الآداب، وكلية اللغة العربية بمراكش، ومدرسة الحديث الحسنية بالرباط,

 وعاش مولاي محمّد آيت الفران حياته متفانيا في عمله، لا همَّ له من دنياه غير أن يكون راضياً عن نفسه، صادقاً معها في كل ما يأتيه، وما يدَعه، وما يقوله؛ محتسباً في كل ما عاناه في معتركه في مسار حياته... ومات مولاي محمّد آيت الفران إثر سكتة قلبية بألمانيا في الخامس من شهر أبريل 2018م.



وَمَاتَ مَنْ (تُعَزَّى بِهِ العُلَى): مات الشريف آيت الفران
عباس أرحيلة
أولا:  مَن يكونُ هذا الذي افتقدناه؟
كان ممَّن  ساقتهم عناية الله عزَّ وجلَّ، أن تكون دراسته الجامعيّة بألمانيا؛ ليُصبح أوّل أستاذ من كلية الآداب بمراكش- وهي في انطلاقتها الأولى - يحمل شهادة دكتوراه بكفاءة واقتدار، وأن يكون خير من استوعب التجربة الأكاديمية الألمانيّة من المغاربة، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وخير من استفاد من تجربته العلمية طلبةُ كلية الآداب، وكلية اللغة العربية بمراكش، وغيرهما؛ إذ انعكست آثار تلك التجربة في مناخ الحياة الجامعية بالمغرب عامة.
 كانت تجربته هذه انعتاقاً لمخزون نفسي لديه؛ تجربة فجّرت ما كان لديه من طاقات، ومنحتْ حياته بُعداً حضاريّاً جديداً؛ كشف عمّا لديه من عمق إنسانيّ أصيل. تعلَّق بالمكان هناك لما يحمله من زخم حضاريّ اهتز له وجدانه، وانشدَّ إليه فكره وعقله، وظل يشدُّه المكان هنا لارتباطه بقدره في الوجود. وحدث بعض الصدام بين المكانيْن في تجربة صاحبنا؛ ففاضت نفسه في المكان الأول هناك، وعاد  الجثمان محمولا عبر الأثير إلى حيث كانت البداية...
وبفضل كل ذلك أضحى صاحبنا من مؤسسي الدرس الأكاديمي بكلية الآداب التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش، بحمله لمشعل الدرس الجامعيّ مع جماعة جاءت من بلاد الرافديْن آنذاك، وأخرى قدمت من البيضاء وغيرها من أجل النهوض بالدراسات اللسانية واللغوية، إلى جانب ما كان آنذاك من باحثين بمراكش. وكان لكل هؤلاء فضل التضحية والتفاني في إثراء التجربة العلمية بمراكش.
 أما صاحبنا فقد تحمّل بصبر واقتدار ما عرفته نشأة التجربة الجامعية من معاناة، وأسهم بفعالية ونكران ذات في نجاحها واختمارها وما شهدته من تطور وتألُّق في مسارها العلميّ.
وأتذكّر اليوم ، أننا أسسنا معاً السلك الثالث قبل أن يظهر بصورته الإدارية التي استُحْدِثَتْ، وجعلناه في تجربتنا الأولى ينصب على حازم القرطاجني، إلى جانب أبحاث أكاديمية موازية. وقد أثمرت تجربتنا تلك مجموعة من الباحثين لهم اليوم مكانتهم في الساحة الأكاديمية والثقافية عامة.
كان سي محمّد من أولئك الذين جعلوا همَّهم الأول في تأليف الرجال، بدل تأليف الكتب؛ فوهبوا حياتهم لخدمة البحث العلميّ وأهله. وكان من لطف الله بطلبة العلم أن لا يُفكِّر يوما في أن يتولّى شأناً من شؤون الإدارة، وإن كان خير من يتولّى أمرها؛ ولكن ما عندنا منه اثنان.
إن الذي افتقدناه: كان أعظم من وسِعَ قلبُه الزمان، ومن كان بوابة للحكمة في كليتنا، وروحاً طاهرة تسري في ديارنا، وهو من أصابته السهام من مدينته؛  التي شغفته حبّاً ؛ حتى (تكسرت النِّصالُ على النِّصالِ)، وقال بشموخ مع المتنبي:
(وهَانَ، فَمَا أُبَالِي بالرزايا؛       لأَنِّي مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي).
لم تكن حياة صاحبي مفروشة بالورود، كما يقولون، غير أنه عاشها بابتسامة عريضة، وطموح لا حدود له. وسلاحه في كل ذلك الصبر الجميل، وتحمُّلُ كلِّ ما يأتي الزمان به.
ثانيا: كيف بدأت صداقتنا؟
جمعتنا ظروفُ تعييننا معاً في التعليم الثانوي بمدينة الدار البيضاء سنة 1971م؛ إثر تخرجنا من المدرسة العليا. كان سي محمّد يسكن في العمارة المقابلة للعمارة التي كنت أسكن فيها؛ وموقعهما قريب من محطة الحافلات بـ(بنجدية) آنذاك. وكنا كثيراً ما نلتقي بشارع 11 يناير، عند صاحب المجلات والصحف. كان يمشي بمفرده بأناقته وبهدوئه المعهوديْن؛ وكأنه يتنفّس الحرية، ويسير في موكب يجلله الجلال والجمال؛ وكأن مدينة الدار البيضاء تمشي في موكبه .
 ولم أقض بثانوية مولاي عبد الله أكثر من سنتيْن؛ إذ انتقلتُ عن طريق الصدفة - إلى الثانوية العسكرية بمدينة القنيطرة. وكان يعمل آنذاك بثانية الخوارزمي. وبعد نحو ثماني سنوات كان اللقاء بكلية الآداب بمراكش.
وأستطيع أن أقول إنه منذ هذا التاريخ؛ تجدّدت علاقاتنا، وتنوّعت أحاديثنا في ضوء ما كانت تشهده الكلية، وتعرفه شعبة الأدب العربي من تطورات. وقد وجدتُ في صاحبنا من خلال بعض لقاءاتنا بالشُّعبة واحداً ممن أجد متعة فكرية وروحا إنسانية شفَّافة في الحديث معه؛  من خلال رؤيته الصافية والثاقبة لمجريات الحياة عامة.
 وكنت أجد في تعليقاته على كثير من مظاهر الفكر والحياة، والتي عادة ما يختمها بضحكته المعبِّرة، ما لم أعرفه في غيره. وأقول إنه الإنسان الذي أستحضرُ سلوكَه النبيل في كثير من المواقف في حياتي منذ أن أصبحنا معاً بالكلية سنة 1982م.
 ومن القيم النبيلة والنادرة التي لفتت نظري في شخصه ما تميَّز به من تسامح إزاء كل من حمل له ضغينةً بسبب حسد أو غيره. ولقد لحقه كثير من الأذى من أدنياء الخلق بسبب مكانته العلميّة، وما حباه الله به من خلق كريم، ومن محبَّة الخَلْق له وتعلُّق طلبته به.
ثالثا: ماذا افتقدنا حين افتقدناه؟
ماذا افتقدتُ أنا أولا؟ وما فَعَلَ بيَ موتُه؟ لقد أخذ مني إنساناً تصافيت وإيّاه على خدمة البحث بكل ما أُتِينا من قوة بصدقة وأمانة، وحصل بيننا تناغم وانسجام في مناقشاتنا لما كان يُعرض علينا من رسائل جامعيّة. كان تفاهمنا منقطع النظر في كل ما يمكن أن يحدث في مجالات القضايا العلمية، وما يمكن أن تحدثه مشاكل المناقشات والمداولات. وكنت أبتعد بشكل تلقائي عن كل أمر علمي لا يتوافق مع طبيعته. وبفضل الله وعونه ورعايته ظلت جهودنا العلمية على النهج القويم، لا تتأثر بما يمكن أن تتأثر به العلاقات في مجال المناقشات العلمية، وما قد تثيره من حساسيات في بعض الأحيان، والسر في كل ذلك الأخلاق العالية لصاحبنا.
ومن ثمار صداقتي العلمية به، وما حصل بيننا من انسجام؛ أصبحتُ أستحضر مواقفه  في كثير من القضايا الفكرية، وفي كثير من المواقف التي تعج بها الحياة.
وقد استفدت كثيراً من أحاديثه معي عن التجربة الألمانية حول جهودها في اللغات السامية، وما كان للمستشرقين من جهود في مجال التحقيقات العلميّة للتراث العربيّ الإسلاميّ. ألم يكن هو من أطلعني على كتاب المستشرق الألمانيّ المعاصر( p . freimark ) : (Das Vorwort als  literarische Form  der  arabischen Literatur  -   = (المقدِّمة باعتبارها شكلا أدبيّاً في الأدب العربيّ). صادر في مانستر 1967 )، وساعدني على معرفة ما اشتمل عليه من موضوعات يتحقَّق من خلالها الجانب الإبداعيّ في مقدِّمة الكتاب الإسلامي عامة؟ (كما تجد شكري له في مقدمة الكتاب).
حين افتقدناه؛ افتقدنا الرؤية الأكاديمية بكل خلفياتها المعرفية والتقنية.
 افتقدنا من يأخذ بأيدي طلبتنا في مسالك البحث العلميّ الجاد بمهارته وصبره وتحمله لمتاعبه.
افتقدنا القيم التي على أُسُسِهَا تُبنى الأوطان، وتعرف  المجتمعات طريقها إلى الرقيّ والتحضر.
حين افتقدنا سي محمد افتقدنا من لا يجود الزمان بمثله، وإن الزمان بمثله لبخيل، كما قيل. وحين يُغيَّب سي محمد في اللحد ينبعث صوت أبي تمام من الثلث الأول من القرن الهجريّ الثالث وهو يصيح  في أكناف مدينة مراكش، وفي دنيا الناس عامة:
كذا فَلْيَجِلَّ الخَطْبُ ولْيَفْدَحِ الأَمْرُ     فَلَيْسَ لعيْنٍ لَمْ يَفِضْ ماؤُهَا عُذْرُ
.....
يُعَزَّوْنَ عن ثاوٍ تُعَزَّى بِه العُلى....
رابعا: وكان موته درساً بليغاً قاسياً
كان موته درسا بليغاً قاسياً  لكل من عرفه من قريب أو من بعيد، ولمن فاته أن يُدرك أن الزمن الرديء لا بد أن يُطأطئ رأسه لأمثال سي محمّد، وأن رداءة زماننا  لا ينخدع بها إلا كل من يكره أمثال سي محمّد.
كان موته درسا بليغاً قاسياً لمن فاته في دنياه أن يُدرك كيف تكون هِمَّة الرجال، ويُدرك  أهمية الاعتماد على النفس في زمن الرداءة والانتهازية، وإلى كل من جَهِل معنى الانتماء إلى الوطن صدقاً لا ادِّعاءً، ومن تفانى في العمل بإخلاص من أجل الآخرين.
كان موته درساً قاسياً إلى كل من سعى إلى بناء مجد وهميّ في مجال البحث دون تضحية وتفانٍ وإخلاص، وإلى كل من عاش وهمُّه الأول أن يُناور في معركته في الحياة، وكل سلاحه  فيها ما يُضمره من مكر وخداع وخبث، ولا يستطيع العيش دون أن يقتات من فضلات الحسد والكراهية لمن عرفوا طريقهم إلى النجاح.
أمّا  جنازته فكانت يوماً مشهوداً حرَّك ما كان مطموراً  في سويداء القلوب. يوم رانَ فيه الذهولُ، وتناثرت فيه أوراق الذكريات. أمّا العيون فظلت مشدوهة، تائهة تسأل عن سراب تاهَ في سديم الأيام.
 أعادت جنازتُه شريطاً تراقصت صورهُ وتوالتُ عبْر ما يُقارب نصف قرن من الزمن.
كانت جنازته أشبه بصفعة لكل من ظل سادراً في أنانيته، مغترّاً بكبرائه، ساخراً من القيم حين تتحرّك في فضائه؛ فتُشعره بقماءته، وتعكِّر عليه صفوَ أنانيته وغروره، وتضعه أمام نهايته الخرساء.
 كانت عيون من حضر جنازتك يا سي محمّد، ومن كان يحدِّق في جموعها من المارّة؛ يتردَّد لديه بوعي أو بدونه ما قاله  الإمام أحمد بن حنبل - في القرن الهجريّ الثالث - لأهل البِدَع:
بيننا وبينكم يوم الجنائز.  فكانت جنازتك شاهدة وشهادة.                         (مراكش في :6/5/2018م).

الخميس، 8 يونيو 2017

طبعة جديدة لكتاب: مقدِّمة الكتاب في التُّراث الإسلاميّ وهاجس الإبداع



مؤسسة إبداع ( المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع) تضطلع بنشر طبعة ثانية مزيدة ومنقحة لكتاب:
مقدِّمة الكتاب في التُّراث الإسلاميّ وهاجس الإبداع

وممّا ورد في مقدمة الكتاب:
ومنطلقي، في كل ما ذهبتُ إليه، هو ما حملتْه مقدِّماتُ بعض التّآليف من حقائق، وما حفِلت به من موضوعات؛ من خلال قراءتي لكثير من مقدِّمات تراثنا؛ تاركاً المؤلِّفين يُعربون عن مقاصدهم، ويوزِّعون خِطاباتهم بين ذواتهم وموضوعاتهم ومُخَاطَبِيهم، ويكشفون عن تصوُّراتهم ومناهجِهم ومشاعرِهم وهواجسِهم.
وغايتي في هذا البحث، الكشفُ عما تميَّز به خطابُ المقدِّماتِ في كتب التُّراث الإسلاميّ العربيّ، وما يطرحه ذلك الخطاب من قضايا، وما تُعرِب عنه تلك المقدِّمات من تصوُرات منهجيّة تخصُّ التَّأليف في حضارة الإسلام، وتُبَيِّن منحنيات الإبداع فيه؛ وذلك بالتَّركيز على هاجس الإبداع في مقاصد المؤلِّفين.
وهو بحث يُسهِمُ في فتح نافذةٍ على منهجيّة البحث العلميّ في تراثنا الإسلاميّ العربيّ، والتأمُّل، من خلال مقدِّمة الكتاب، في طرائق البحث عند المؤلِّفين عامّة، وفي رؤيتهم المنهجيّة من خلال ما طرحوه من مشكلات، وما أثاروه من قضايا.
وجانب المنهج لم يَلْقَ، عند ذويه، متَّسعاً من التَّنظير له في القديم، وما وُجد منه لم يأخذ حقَّه من العناية والمتابعة، وكان موضعَ اتِّهام للعقل العربيِّ من لدن المستشرقين في العصور الحديثة.  وبريق المنهج هو الذي شدَّ أنظارَ الباحثين العرب إلى الدِّراسات الغربيّة في هذه العصور الأخيرة، وما زال يشدُّهم؛ ممَّا رَسَّخَ لدينا أشكالا من التَّقليد والتَّبعيَّة في حياتنا العلميّة والمنهجيّة على امتداد فترات نهضتنا الحديثة.
وممّا تجدر ملاحظته:
أن الطبعة الأولى لهذا الكتاب صدرت بمدينة مراكش سنة 2003 م، بعنوان:  مقدِّمة الكتاب في التُّراث الإسلاميّ وهاجس الإبداع، ولم يحظ الكتاب بالانتشار، بالرغم ممّا  لقِيَ من أصداء طيّبة. ومن حسن حظ الكتاب أن اضطلعت مؤسسة إبداع ( المؤسسة العربيّة للفكر والإبداع) بإعادة نشر طبعة ثانية له بعنوان: هاجس الإبداع في التراث،  دراسة في مقدمة الكتاب الإسلامي.
وممّا تميّزت به هذه الطبعة:
 أنها مزيدة ومنقّحة ) فصول خمسة بدل ثلاثة( - مع إعادة صياغة بعض عناوين المباحث - وإضافة معلومات زادت فكرة البحث عمقاً ووضوحاً.