عن المشروع
الفكريّ للقاضي عياض
أولا: ما
المراد بالمشروع الفكري للقاضي عياض؟
هو ما أوقف عليه حياته الفكريّة، وجعله وِجهةً
لنظره فيما كانت تتطلع إليه مرحلتُه التاريخية، وفي إطار ذلك المشروع تحدَّدت مقاصدُه
في مجالات الفكر. فمشروع القاضي عياض هو ما رسمت معالمَه جهودُه العلميّةُ، وكانت
مواقفُه في الحياة صدىً لها. وهو مشروع لا يتأتَّى إدراكُ أبعاده إلا بدراسة آثاره الفكريّة وجهوده العلميّة، وما
يسكنها من نزوع إصلاحي، ويقف وراءها من أهداف تتطلع إليها مرحلتُه، وتحول دون
تحقيقها تحديات تجعل صاحبها في لحظة صدام تاريخي
يفرضه واقع مغاير لمشروعه الفكريّ.
ومن البداهة القول إنه لا
يمكن الحديث عن مشروع فكري إلا إذا شيّده عقل كبير، لصاحبه رؤية ثاقبة في قضايا
الأمة التي ينتمي إليها، رؤية تحدِّد ما تتطلع إليه من أهداف، وما تتطلبه من
تضحيات، وما لديها من استعدادت لشتى التحديات. ثم إن من طبيعة كل مشروع أن يكون
مترامي الأطراف يتسع لمجالات فكرية متعددة يصعب سبرها.
وباختصار شديد، إن مشروعه
الفكري هو ما ضمَّنَه كتبَه من آراء وتوجيهات ترتبط بما كانت الحاجة تدعو إليه في
الأربعين سنة الأولى من القرن السادس للهجرة.
ثانيا:
ماذا عن ماهية مشروعه الفكريّ؟
مشروعه كما أعرب عنه ما
وصلنا من آثاره، يقوم على أربعة محاور:
المحور الأول: اعتماد الوحي في شقه المتعلق بالحديث النبوي الشريف؛
وذلك باستيعاب نصوصه كما اتضحت مساراته العلميّ روايةً ودرايةً، وبكل ما استقرت
عليه المناهج بكيفية استقراء أسانيده ومتونه والعمل على ضبطها وتحقيقها.
واعتماد الوحي هو اعتماد
الجانب العمليّ التطبيقي لمقتضيات الوحي في حركة الحياة البشريّة، ويزيده جلالا
وجمالا حين تكون موارده ومصادره من البيئة
النبوية في المدينة المنورة، كما نقلها إمام المدينة عن أهلها، الإمام مالك رضي
الله عنه.
المحور الثاني: ترسيخ المذهب المالكيّ؛ حفاظاً على السنة النبوية
المطهرة في ضوء ما انتهى إليه العلم بحقيقة الوحي فيها، وكيف تجلت تطبيقاتها في
حياة صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، واتضحت آثارها في مواقفهم وأقوالهم
في فهم مضامينها ومقاصدها.
المحور الثالث: نزوع إصلاحي في بعده الاجتماعي، كانت له تجلياته في
مجالات الإفتاء والقضاء والتدريس والعناية بالفقراء تبعا لموقعه في مجتمعه آنذاك.
المحور الرابع: نهوضه بواجب الإصلاح السياسي ومناهضة الانحرافات
العقدية والسلوكية التي أُريد بها القضاء على انشار السنة النبوية في الغرب
الإسلامي، واعتمادها في حركة الحياة، وبالتالي القضاء على المذهب المالكي؛ بإبادة
أهله وإتلاف مصادره، وإحلال المهدوية في ربوعه. وكان من مهمات المرابطين القضاء
على برغواطة وما تدين به من أفكار خارجة عن الإسلام.
ثالثا:
عن محاولة تقديم رؤية شاملة ودقيقة عن مشروعه
الدرس الأكاديمي اليوم لا
يسمح بتقديم رؤية شاملة ودقيقة لمشروع عياض لسببيْن:
الأول أنه لا يتأتّى استقراءُ آثار القاضي عياض لضياع الكثير
من آثاره الفكرية، إلى جانب ما يحف بعض الأحداث والوقائع من غموض في تاريخه
الشخصي؛ بالرغم من أنه بقي من آثاره كتابُه (الغُنْية) الذي أغنانا معرفةً بشيوخه،
وكتاب (التعريف بالقاضي عياض) لابنه القاضي أبي عبد الله محمد؛ وإن لم يستوعب كل
جوانب حياة والده؛ إذ كان تأليفه زمن الموحدين فاضطر لمداراتهم. وهناك (أزهار
الرياض في أخبار عياض) لأحمد المَقَّري 1041هـ، في خمسة مجلدات. ومع هذا يمكن
القول إن ما وصل من آثاره يقدم فكرة عن مشروعه أقرب إلى الدقة والشمول.
والسبب الثاني: خضوع هذا الدرس لتأثيرات تطغى عليها إيديولجيات أصبحت
في زماننا بمثابة نحل جديدة، ومن جملة ما أصبح يخضع له ذلك الدرس ما قامت عليه
المشاريع الفكرية في الدراسات العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين من
منهجيات حديثة؛ قضيتها الجوهرية مع الوحي الذي تقوم عليه حضارة الإسلام. على نسف
مقولة الوحي، بالدعوة إلى التعامل مع الذين باعتباره معطىً تاريخيّاً، بمحاربة
الرؤية الغيبيّة للتراث، بتطبيق المنهج الجدلي وتخطي الطريقة السلفية لقراءة
التراث، بنقد العقل العربي وإخراجه من الفكر التقليديّ... سؤال النهضة.
في حديث الجابري: يرى أن
الحضارة اليونانية حضارة فلسفة، والحضارة الأوربية المعاصرة حضارة علم وتقنية، أما
الحضارة العربية الإسلامية فهي حضارة فقه في الأساس. ويرى أن العقل الفقهي هو الذي
أسس العقل العربي، بل إن العقل العربي هو عقل فقهي؛ أي أن النص أصبح السلطة
المرجعية للعقل العربي. فأصبح العقل العربي عقلا نصوصيا، لا هو مرتبط بالواقع
وقضاياه، ولا هو مرتبط بالطبيعة والتاريخ. لم يعد العقل هو المشرع للفقه، وإنما
الفقه هو المشرع للعقل.