الجمعة، 28 أغسطس 2015

ابن قتيبة والفكر الأرسطي ( تتمة لمقال سابق)


                        عباس أرحيلة
4- كتاب الشعر والشعراء

مقدمة الكتاب كانت محط اهتمام الباحثين لاشتمالها على أهم القضايا النقدية التي ستتناولها المكتبة النقدية بالدراسة لاحقا. تناول الشعر ابن قتيبة من خلال قضية اللفظ والمعنى. وقسم الشعراء إلى متكلفين ومطبوعين، وتعرض للخصومة بين القدماء والمحدثين محتكما إلى مقياس الجودة، وتحدث عن بناء القصيدة، وعن ضرورة التناسب بين وحداتها، وعلى قيام وحدة معنوية تضمن التلاحم بين أبياتها، وذكر عاطفة الشاعر ودواعيها، كما تناول عيوب الشعر الفنية مما يعتري الإيقاع والعلاقات الإعرابية.

إن القارئ لهذه المقدمة يجد تحولا طبيعيا للمشكلات النقدية السابقة التي بدأت تعرف التنظيم والتحديد والوضوح في ضوء تطور معارف القرن الثالث. فابن قتيبة أخذ ما كان متفرقا، وما تتطلع إليه مرحلته، فدعا شأن بعض علماء القرن الثالث – إلى البحث عن عنصر الجودة في العمل الأدبي. فلوضع حد للصراع بين القديم والحديث نحتكم إلى النص نفسه، وكل حكم عليه ينبغي أن يكون نابعا من طبيعته وقيمته الذاتية. لقد تمرس ابن قتيبة بمشكلات النقد وبدت في معالجته لها روح علمية أثارت التساؤل حول مصدرها، لأن بعض الناس لا يتابعون تتابع الحلقات الفكرية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وإنما لهم هوس البحث عن الفتنة اليونانية التي عرفت طريقها إلى اللغة العربية خلال مرحلة ابن قتيبة.
وقد اتضح في مقدمة ابن قتيبة ميله إلى نقد الشعر في ضوء قواعد وضوابط، أي أن الناقد بدأ يوكد سلطته العلمية. يقول طه إبراهيم:" وتجد في النقد الأدبي عند العرب لأول مرة مسألة خطيرة: أيستطيع نقدة الأدب أن يستعينوا بطرق العلم؟ أيستطيع أن ينقدوا شيئا أخص عناصره الشعور" (1). كما لاحظ د. أمجد الطرابلسي أن ابن قتيبة ضمن مقدمته قواعد لا تخلو من استغراب لما في لهجتها من ثقة وتقريرية. واعتبر مقدمته فنا للشعر حقيقة" (2).

أ‌-   الشعر الجاهلي يُضارِعُ حِكَمَ الفلاسفة
ابن قتيبة عربي الروح، وللشعر العربي في نفسه مكانة لا يرقى إليها علم أو فلسفة، لأن لذلك الشعر "جلال قدر وعظيم خطر". لما يحتويه من "الحكم المضارعة لحكم الفلاسفة والعلوم، في الخيل والنجوم وأنوائها" (3).
والشعر عنده "معدن علم العرب، وسفر حكمتها" (4). ويقول في تأويل مشكل القرآن: "وللعرب الشعر الذي أقامه الله مقام الكتاب لغيرها، وجعله لعلومها مستودعا" (5).
وترى ابن قتيبة يستنبط من أشعار العرب وأمثالهم وخطبهم أمورا علمية ترتبط بعاداتهم وتقاليدهم كما يجعل ما يشتمل عليه الشعر العربي من حكم يضارع حكم الفلاسفة والعلوم.

ب‌-     هل حَكَّمَ المنطقَ في تقسيمه للشعر؟
لما قسم الشعر أربعة أضرب، قيل عنه إنه "يحكم المنطق في القسمة العقلية" وإنه كان متأثرا بالمنطق يرضاه ويراعيه (6). واعتبره د. مندور تقريري النزعة في كل شيء (7). واعتبر د. إحسان عباس تقسيمه الشعر أربعة أضرب اتجاها نحو المنطق وإن كان يكرهه علما (8).
لست أدري كيف تتطور أمة تعرف تحولات في مجالات النظر، إذا لم يكن لديها تراكم معرفي، واستقصاء للظواهر والجزئيات ليأتي الاستقراء العقلي، يختصر، ويستنبط. إن من يستحضر جهود النقاد في القرن الثاني وما كانت لهم من فتوحات في الشعرية العربية، لا يستكثر على ابن قتيبة أن يقدم محاولة لجمع العناصر المتناثرة وضبطها وتقريرها. وهو بذلك يستلهم روح العلم، ويحتكم إلى جودة النص في ذاته خارج شروطه التاريخية. وما كان له، وهو المناهض للمنطق، أن يزج بتقسيماته في مجال الدراسة الأدبية. وكيف وقد قاوم التيار الجديد، الذي يحمل لواء المنطق، وعمل على حماية الدراسات الأدبية من طغيان المنطق على فهم اللغة وتذوقها، (9) ومع ذلك يتجه نحو المنطق كما يزعم د. إحسان عباس؟ وعلى أي "فمهما استعان ابن قتيبة في نقده بطرق العلم فقد كان رأسا في العربية مؤمنا بالذوق الأدبي، مقويا للصبغة القديمة في أكثر ما جاء به"(10). وأرى أن تقسيم ابن قتيبة كان صدى للروح العلمية التي عرفتها العقلية العربية الإسلامية وهي في أوج وضعها للتشريع وتحديد منهج علم الحديث. وما قاله ابن قتيبة لا يحتاج إلى ثقافة منطقية أرسطية، إذ هو من "مهارات" العقل البشري، ومن المنطق العام الذي يدركه الإنسان بطبيعته في أي زمان كان. ألم يسخر ابن قتيبة من انقسام الخبر إلى تسعة آلاف؟ ألم يقل أن استعمال وجوه المنطق يصبح وبالا على لفظ المتكلم، وقيدا للسانه وعِيّاً في المحافل، وعُقْلَةً عند المتناظرين؟ ألم تتحقق سخرية ابن قتيبة حين انقسم الخبر إلى تسعة آلاف في تاريخ البلاغة العربية! ألم يجفف النظر المنطقي الشكلي رونق البلاغة العربية ويذهب بمائها؟
5- خلاصة
إن ابن قتيبة شَكَّلَ أول موقف واضح من علم الأوائل، وواجه من اتخذوا مصاحفهم كتب أرسطو، ممن ذهبوا يغررون بضعاف العقول وبمن لا تجربة لهم، حتى ينحرفوا إلى "علم له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا اسم". وقال لو أن أرسطو وقف بحمولته المنطقية أمام ما بين أيدي العرب في زمن ابن قتيبة لأصبح من البُكْمِ!
فابن قتيبة يواجه أخطار الثقافة الوافدة، ويقف في وجه المدّ الشعوبي، ويدعو إلى التشبث بالأصالة، ويندد بالانحراف الذي وجده في المتكلمين. وقد اشتدت شكواه من المعتزلة لأنهم جعلوا دراسة القرآن والحديث وأحكام الشريعة في المرتبة الثانية، ولأنهم زجوا بالمنطق الشكلي في علم الكلام، وسمحوا للقياسات المنطقية في علم الكلام، وسمحوا للقياسات المنطقية أن تتلاعب بالأحداث الأغرار؛ وكأن ابن قتيبة استشعر خطورة المنطق على العقيدة والبيان العربي والهوية العربية أمام المد الشعوبي والبيان العربي والهوية العربية أمام المد الشعوبي وحركة الترجمة. فالكاتب في زمانه اتخذ حد المنطق أداة للطعن في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 ومن أجل الحفاظ على لغة القرآن، نصب نفسه محاميا عن مبدأ تنقية اللغة العربية، حتى يتمكن المسلم المثقف في القرن الثالث من التعبير عن أفكاره بالنطق والكتابة بصورة سلمية. وابن قتيبة دافع عن العرب، ودافع عن الإسلام، ورد على الشعوبية، وحمل على من يتهاون بعلوم العربية والدين، ووقف في وجه المنطق اليوناني يستهين به وينبه إلى أخطاره. وانصرف يساهم في بناء الثقافة العربية بتنقية لغتها، وتوضيح خصائصها التركيبية، وتأسيس أنماط تعبيرها في ضوء القرآن والشعر القديم.
وكتاب الخطابة لأرسطو، الذي أقضَّ به المقارنون مضجع القرن الثالث، لا نجد له أثرا في ابن قتيبة إلا إذا أردنا أن تنطلق من الاحتمالات في المقارنات لنظل سجناء لها! فالخطابة باعتبارها جنسا أدبيا متميزا في التراث العربي لم تحظ بعناية تذكر عند ابن قتيبة، إلا من إشارته إلى الخطيب عند العرب في "باب ذكر العرب وما خصهم الله به من المعارضة والبيان واتساع المجاز" حين قال:" فالخطيب من العرب، إذا ارتجل كلاما في نكاح، أو حمالة أو تحضيض أو صلح... لم يأت به من واد واحد بل يفتن... وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام" (11).
ولما وجد د. طه حسين ابن قتيبة يسخر من المعلم الأول، ولا يصاب بالشلل إزاءه، بل يَنْسِفُ مقولة التأثير الأرسطي على البيان العربي؛ عَدَّ عملَه حملةً رجعية قوية (12). وقد تحامل عليه شارل بلا حين وجده "يغض الطرف عن اليونان ويصرح بأنه لا يحتاج إلى المنطق" (13) وحين وجده لا يهتم بالعالم أجمع في تاريخه، وإنما عني بما يخص "وطنه الضيق، ولا يعرف أن بلاد الله عريضة" (14).
والحق أن ابن قتيبة تعصب للعروبة والإسلام ودافع عنهما ورفض الثقافات الوافدة، واعتبرها تفاهات لا جدوى منها، فلم يخل موقفه من تزمت، ولكنه تزمت من يخاف الذوبان والتلاشي.
هوامش:
(1)           تاريخ النقد الأدبي عند العرب: طه إبراهيم – د.ط[ دار الحكمة، بيروت، د.ت]، ص129
(2)           نقد الشعر عند العرب إلى نهاية القرن الخامس الهجري: د. أمجد الطرابلسي ( بالفرنسية)،ص70
(3)           الشعر والشعراء: ابن قتيبة، تحقيق: محمد أحمد شاكر – ط3[ دار المعارف، القاهرة، 1966]:1/64
(4)           عيون الأخبار: ابن قتيبة – د.ط[ دار الكتب العلمية، بيروت، 1927]2/185
(5)           تأويل مشكل القرآن، ص17 – 18
(6)            قضايا النقد الأدبي والبلاغة: محمد زكي العشماوي، ص279
(7)           النقد المنهجي عند العرب: د. محمد مندور – د.ط[ دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت]، ص29
(8)           تاريخ النقد الأدبي عند العرب ( نقد الشعر) – د.ط[ دار الأمانة، ومؤسسة الرسالة، 1975]، ص108
(9)           النقد المنهجي عند العرب، 28 – 29
(10)     طه إبراهيم، ص129
(11)     تأويل مشكل القرآن، ص13
(12)     مقدمة نقد النثر، ص11
(13)     إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين ( ابن قتيبة والثقافة العربية: شارل بيلا)، ص34
(14)     نفسه.



الهوامــش

1-  بلا. الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء. ترجمة: إبراهيم كيلاني (دمشق: دار اليقظة، 1961)، ص 201.
2-  أدب الكاتب، تحقيق محمد الدالي ط 1 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1982)، ص 6.
3-  المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
4-  المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
5-  المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
6-  ابن النديم. الفهرست (بيروت: دار المعرفة، د.ت)، ص 301.
7-  أدب الكاتب، ص 7-8.
8-  الغزالي. تهافت الفلاسفة تحقيق د. سليمان دنيا، ط4 (القاهرة: دار المعارف، د.ت)، ص 59-60.
9-  أدب الكاتب، ص 9.
10-     تأويل مختلف الحديث. صححه وضبطه محمد زهري النجار، ص 49.
11-     المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
12-     تأويل مشكل القرآن، مقدمة أحمد صقر ( القاهرة: مطبعة الحلبي، 1954)، ص15-16.
13-     المصدر نفسه، ص 83.
14-     المصدر نفسه، ص 103.
15-     المصدر نفسه، ص 20-21.
16-     ناجي، مجيد عبد المجيد. الأثر الإغريقي في البلاغة العربية من الجاحظ إلى ابن المعتز (النجف: مطبعة الآداب، 1976)، ص 206.
17-     الخولي، أمين. البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها، ص 11.
18-     تأويل مشكل القرآن، ص 102.
19-     عبد العال، عبد السلام عبد الحفيظ. ينظر: نقد الشعر بين ابن قتيبة وابن طباطبا (القاهرة: دار الفكر العربي، 1978)، ص 97-98.
20-     أرسطو طاليس، فن الشعر مع الترجمة العربية القديمة وشروح الفارابي وابن سينا وابن رشد، ط 2 (بيروت: دار الثقافة، 1973)، ص 129-130.
21-     كتاب أرسطو طاليس في الشعر. ص 166. (دار الكتاب العربي، 1967).
22-     أرسطو طاليس، فن الشعر، ص 58.
23-     المصدر نفسه، ص 186.
24-     العمدة. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 4 (بيروت: دار الجيل، 19721: 239.
25-     أبو عبيدة. النقائض بين جرير والفرزدق. تحقيق بيقان (ليدن: 19051: 275.
26-     الجاحظ. البيان والتبيين. تحقيق عبد السلام هارون، ط 3 ( القاهرة: مطبعة دار التأليف، 19861: 152.
27-     المبرد. الكامل ( بيروت، مكتبة المعارف، د.ت)، 1: 166.
28-     ثعلب. قواعد الشعر. تحقيق رمضان عبد التواب، ط 1 (القاهرة: دار المعارف، 1966)، ص 47.
29-     تأويل مشكل القرآن، ص 20-21.
30-     الجاحظ. الحيوان. تحقيق هارون، ط 2 (القاهرة: مطبعة الحلبي، 19655: 425-426.
31-     تأويل مشكل القرآن، ص 21.
32-     إبراهيم، طه. تاريخ النقد الأدبي عند العرب (بيروت: دار الحكمة، د.ت) ص 129.
33-     نقد الشعر عند العرب إلى نهاية القرن الخامس الهجري، ص 70. (بالفرنسية).
34-     ابن قتيبة. الشعر والشعراء. تحقيق أحمد محمد شاكر، ط 3 ( القاهرة: دار المعارف، 19661: 64.
35-     ابن قتيبة. عيون الأنباء ( القاهرة: دار الكتب المصرية، 19272: 185.
36-     تأويل مشكل القرآن، ص 17-18.
37-     العشماوي، محمد زكي. قضايا النقد الأدبي والبلاغة، ص 279.
38-     عباس، إحسان. تاريخ النقد الأدبي عند العرب- نقد الشعر ( دار الأمانة، ومؤسسة الرسالة، 1975)، ص 108.
39-     مندور، محمد. النقد المنهجي (القاهرة: دار نهضة مصر للطبع والنشر، د.ت)، ص 29.
40-     المصدر نفسه، ص 28-29.
41-     إبراهيم، طه. ص 129.
42-     فوك، يوهان. العربية ترجمة عبد الحليم النجار (القاهرة: الكتاب العربي، 1951)، ص 131.
43-     المصدر نفسه، ص 132.
44-     تأويل مشكل القرآن، ص 13.
45-     مقدمة نقد النثر، ص 11.
46-     إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين، ابن قتيبة والثقافة العربية/ بلا، ص 34.

47-     المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق