الجمعة، 28 أغسطس 2015

تحديات واجهت الأدب العربي




(محاضرة مهداة إلى أساتذة كلية اللغة العربية وإلى عميدها  د. عبد الله القرني بجامعة أم القرى  - مكة المكرمة).

عباس أرحيلة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

 السيد عميد كلية اللغة العربية التابعة لجامعة أم القرى الدكتورعبد الله القرني.
السيد رئيس اللجنة المنظمة لهذا النشاط العلمي الأستاذ الشاعر محمد العمري.
السيد رئيس قسم الأدب العربي بكلية اللغة العربية الدكتور طيب الحارثي.
مما سأعتز به ما بقيت لي حياة، هذه الكلمة بهذا المكان، بمكة المكرمة، بهذه الأرض المقدسة، وداخل هذه المؤسسة العتيدة، وأمام هذا الجمع المبارك الذي يتهيب المرء من مخاطبته.
أيها السادة الأفاضل
بحضور الدكتور عبد الرحيم نبولسي، اقترح عليّ أخي الفاضل الدكتور طيب الحارثي، رئيس قسم الأدب العربي، تقديم محاضرة، في إطار أنشطة الكلية. وظننت يومها أن المحاضرة ستكون لطلبة قسم الأدب، فاخترتُ أن أقول كلمة عامة حول الأدب العربي؛ تكون مجالا لإثارة أسئلة والإشارة إلى بعض القضايا التي تحتاج إلى مراجعات ومذاكرات ومتابعات في مسيرة الأدب العربي. وتبيّن بعد ذلك أن المحاضرة ستكون عامة، وأنها  ستُلقى بجامعة أم القرى بالعزيزية؛ فأبقيت على فكرة الحاضرة.
وهكذا تأتي كلمتي، أيها السادة، عبارة عن عَرْض لمجموعة من ملاحظات حول مسار الأدب العربي. ملاحظات اعتبرها معالم طريق للتأمل في مسار ذلك الأدب؛ وما عرفه من تحديات، وما كان له من مواجهات، وما اعترض سبيله من مثبطات.
وصيغة التعميم في عنوان كلمتي هذه كان القصْدُ منها إثارة أسئلة حول مسار الأدب العربي وما يكتنف وضعه في الثقافة الإنسانية دراسةًً وتدريساً وتوجيهاً وتقديراً.
فما يحمل التعميم خللا في المنهج، ولا يدّعي صاحبه الإحاطة بآداب العربية، ولا الإحاطة بجانب منه، ولا يأتي لفظ « التحديات» في العنوان ليكون صدىً لتداوله في مجالات الحياة العربية المعاصرة؛ وكأن الأمة أصبحت تستشعر التحديات في كل ما تأتيه في حركة حياتها المعاصرة.
الأخوة الأفاضل:
أقول في البداية كلمة تمهيدية عن الأدب العربي:
 يراد بالأدب العربي تلك الصياغة الفنية لتجربة الأمة العربية في معترك حياتها، على امتداد وجودها. وهي تجربة استودعت فيها الأمة معارفها وتجاربها وتصوّراتها في ضوء انشغالاتها في أوضاعها الخاصة وما عرفته من تحولات في تاريخها الطويل.
الأدب العربي تجربة جمالية إنسانية توسّل أهلها بلغة العرب في تعبير عن حقيقتها، وسارت – بعد حين من نشأتها -  في ركاب دين إلهي خُتمتْ به تجربة الوحي إلى الإنس والجن، وشاءت عناية الله أن تنتظم به حركة البشر على الأرض من خلال ما يدعو إليه النصّان المؤسسان لحقيقة الإسلام: القرآن والسنة النبوية.
والتجربة التي حملها الأدب العربي، تمتدُّ في الزمان إلى ما يُقارب اليوم نحو سبعة عشر قرناً، ومن هنا نجد أنها واكبت التحولات التي عرفتها الحضارة الإنسانية، وما عرفته من تطورات وصدامات وانحرافات عن المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه.
وقيمة هذا الأدب، بتعدد مناهج مدارسته في الفترة المعاصرة، تظل له خاصية التعبير الفني عن تجربة إنسانية عربية لها عمقُها الفكري وأداؤها الجمالي، ضمن ما خلفته قرائح البشر في مجالات الإبداع على امتداد التاريخ.
وقيمة هذا الأدب أنه رسّخ في الفكر الإنساني قيماً عليا لا تتحقق إنسانية الإنسان بدونها.
بعد هذه الإشارة، ما هي هذه التحديات التي أريد أن أثيرها أمامكم. سأحاول ترتيبها في النقاط الآتية:
أولا: تحديات كانت بمثابة قدريات
ثانيا: تحديات في صورة مواجهات
ثالثا:  تحديات في صورة مثبطات
لأختم كلمتي ببعض المبشرات.

أولا: تحديات بمثابة قدريات:

عرف الأدب العربي في مساره العام أشكالا تمثّلت من خلالها مظاهره في الوجود، وكان تشكُّله هذا وليد ملابسات، كانت بمثابة قدريات أحاطت بمساره في معترك الحياة:
قدرُه الأول أن هذا الأدب ظهر في أمة تميزت بين أمم الأرض بذائقة البيان، تميّزت بالقدرة عن الإفصاح عن مكنونات النفس وخطرات الفكر عن طريق فن القول حين يكون له فعل السحر في نفس من يتلقاه.
قدره الثاني: أن تكون أداته البيانية لغةً بلغت أرقى مستويات النضج في أبنيها وقواعدها، وقابليتها لصياغة أدق المعاني والمشاعر، وما تحتمله من دلالات ومجازات وإيحاءات. وكيف لا تكون كذلك وقد تنزّل بها كلام رب العالمين للناس أجمعين، وأصبحت حافظة للوحي شاهدة عليه إلى يوم الدين، خالدة بخلود القرآن، باقية ببقائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقدره الثالث: أن الأمة العربية حين بلغ البيان أعلى درجات العنفوان لديها، وبلغ وطيسه قوتَه في كيانها؛ توالت معاجزة القوم بتحدّي ذلك العنفوان، وتقريع الطاقة البيانية لديهم؛ فاحتاروا في توصيف ما يسمعون: أهو سحر أم كهانة، أم هو شعر، أم هو أساطير الأولين...؟
وقدره الرابع: أن يظل فن القول عند العرب يسير في أجواء يُتلى فيها القرآن، ويُصدح به في المحافل والمنتديات ويُتغنى به في أجواء الأرض.
فما سبق من أدب عربي قبل الإسلام، دخل المعترك فكان الصدام فالتفاعل فالتعايش، ثم سار الأدب العربي تحت أنظار الإسلام؛ يواكب حركة الحياة في تجاذبها مع الوحي، وما جدّ من تفاعلات الأفكار والآراء. وتطور ذلك الأدب في معترك بناء الهوية الإسلامية العربية لغةً وبلاغةً وفقهاً وتفسيراً...، يتواشج مع المعارف التي سارت في ركاب الوحي قرآناً وحديثاً شريفاً. وظل القرآن قطب الرحى في المعرفة الإسلامية، وظل الشاهد الشعري حاضرا في أغلب حقول المعرفة الإسلامية؛ مساعداً على الفهم والاستدلال.
ومما قاله عبد القاهر الجرجاني (471هـ) في كتابه «دلائل الإعجاز» عن منزلة الشعر من إعجاز القرآن، وقيام الاستدلال به عليه؛ أنه لا يُدرك حدّ الفصاحة التي تقصُر عنها قُوى البشر؛« إلاّ مَن عرف الشعر الذي هو ديوان العرب، وعنوان الأدب، والذي لا يُشكُّ أنه كان ميدانَ القوم إذا تجاروْا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيها قصَبَ الرِّهان». وكَشَفَ عن التباين والتفاضل بين فنون الشعر وألوانه. فالشعرُ يُنتزَع منه الشاهد والدليل، ويكون « الصادُّ عن ذلك صادّاً عن أن تُعرف حجةُ الله تعالى» [ ص8 – 9 ]؛ لأنه المُعين على معرفة مكمن الإعجاز في قول الله تعالى.
والمنحى البياني في إعجاز كلام الله عز وجل، رَسَّخ جمالية الأداء الفني في النظر إلى الأدب العربي. وما البلاغة العربية إلا جماليات الأداء الفني في النص القرآني، وما يُقاربها في فنون القول عامة في مجالات الإبداع العربي.
وقدره الخامس: أن تكون الرسالة الخاتِمة للتجربة البشرية على الأرض قد جاءت للناس كافةً؛ ممّا جعل معرفة اللغة العربية دَيْناًً على كل إنسان على الأرض بعد نزول القرآن على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. ومن هذا المنطلق كانت لغة القرآن مرتكز النظر لدى الأمم التي دخلت في الإسلام، وكان تَعَلُّمُ العربية فريضةَ دينيةً وثقافية وحضارية. وهذا أمر نامت عنه عيون سُكّان الأرض، وتغافلت عنه مسؤولية المسلمين: وما ينبغي أن يقال هنا: إنَّ تجاهل أمر العربية هو تجاهل للإسلام الذي جاء للناس كافة؛ تجاهل ينطوي على محاربة للدين الإسلامي، وسعيٌ شيطاني خبيث للحدِّ من انتشار الإسلام، ورفض حقيقة التعرّف عليه، وصدِّ الناس عن كونيته وعالميته. وهو جاء للناس.
وقدره السادس: نزول القرآن باللغة العربية، جعل مسارُ الأدب العربي يمتدّ في الزمان والمكان؛ فعُمْرُه – كما تمت الإشارة - يُقارب سبعة عشر قرنا ( بإضافة المرحلة الجاهلية). أما امتدادُه في المكان فيُنظر في جغرافية العالم الإسلامي في القديم والحديث، وفي عدد الأمصار والحواضر التي انتشر فيها الإسلام يوم كانت العربية محط الأنظار والقلوب، وكانت آداب العربية ملء الأسماع والمشاعر. وكثرة الشعراء في تاريخ الأمة مما يسترعي الانتباه، ويستوقف الدارس، ويلفت النظر في كتب التراجم عامة. وما بقي من شعر العرب، ومن دواوينهم؟ وما عسى أن يدرس طالب الأدب من حجم ما بقي من هذه الآداب؟ وما يقوله مؤرخو الأدب ومدرسوه عن هذا خلال سنوات التدريس؟ وما هي أصداء آداب العربية في المقررات الدراسية في الكليات والمعاهد العربية؟

ثانيا: تحديات في صورة مواجهات

أ – مواجهات في القديم:

المواجهة الأولى: كانت مع دين ينظم حركة الأحوال ويُقرر نتائج المآل، يحدد بتوجيهاته معالم السلوك في الحياة، ويرسم للناس طرق النجاة. والأصل في آداب البشر أن ينفعل بما يجري في الوجود، وما يضطرب فيه في دنياه، وما يسري في كيانه من أحاسيس وأفكار. ومن هنا تجلت في آداب العرب ما اضطربت فيه أهواء النفس من آمال وآلام، وما كان للفكر من تطلعات لاختراق آفاق المعرفة، وما كان فيه من قرب أو بعد عن المنهج الذي ارتضاه الله تعالى لخلقه.
المواجهة الثانية: كانت مع التحولات الاجتماعية والفكرية وما حدث من تصادم مع نحل الأمم الأخرى التي انصهرت في بوتقة المجتمعات الإسلامية العربية، وما حملته من عادت ومعتقدات. ويبدو أن الإشباع الفني لآداب العربية في نفوس أهلها لم يترك مجالا لترجمة آداب الأمم الأخرى؛ إلا ما كان ممّا نُقل من بعض التراث الفارسي في مجالات محددة.
المواجهة الثالثة: مع دعوات التجديد إثْر ظهور شعر المولدين ( من أواسط القرن الهجري الثاني) إلى شعراء الحداثة المعاصرين اليوم. ويلاحظ أن آداب العربية لم تعرف تحولات أو هزات عنيفة؛ انكشفت آثارها في مذاهب وتيارات. ولعل ذلك يرجع إلى ما أحاطت به العقيدة الإسلامية المناخ النفسي العام من ضمانات روحية تحقق بها كثير من التوازن والاستقرار في النفس والفكر؛ فلم نشهد في تاريخ آداب العربية ما عرفته الآداب الأوربية – مثلا – من مذاهب ونظريات ومناهج وأشكال في فنون المسرح والرواية والرسم والنحت...

ب – مواجهات في الحديث:

المواجهة الأولى كانت جين واجهت آداب العربية - وهي ما تزال في مراحل ركودها وانعزالها - العصور الحديثة بخلفياتها الاستعمارية وتطوراتها الفكرية وثورتها الصناعية، ونماذجها الأدبية في مجالات الرواية والمسرح والمقالة بأنواعها...وبدأت آداب العربية في مواكبة إيقاعات العصر الحديث، وكانت الهوة سحيقة بين الواقع العربي الذي مزقه التخلف وطحنه الاستعمار الأوربي بخلفياته الصليبية ورؤيته الاستعلائية، وبرغبته في السيطرة على شعوب الأرض، والتحكم في  دواليب الاقتصاد وتوجيه  أفكار الشعوب إلى أهدافه...
وبدأت المواجهة الثانية مع تصورات الأوربيين للآداب والفنون، فمنذ مطالع العشرين، انطلقت النهضة العربية الحديثة، ودخلت آداب العربية مرحلة تجريب الأجناس الأدبية الأوربية، وتوالت محاولات التجديد والتفاعل مع التصورات والنماذج؛ وهكذا خرجت الآداب العربية من مرحلة البعث والإحياء إلى أجواء الرومانسية، فواقعية اشتراكية، فأدب التزام، وبشكل عام، تجاوبت أصداء المذاهب والمناهج في فضاء الآداب العربية، ثم أخذت الحداثة في الشعر والفكر والنقد مسارات، غلب عليها متابعة التقاليع الغربية وما جد فيها من بنيويات وأسلوبيات وسميائيات وتفكيكيات...وكلها تنزع إلى ما أسمته تحليل الخطاب، وعرفتْ طُرُقَ تقليدنا لها وتفاعلنا معها تطورات وتحويرات وتوجيهات، اتضح من خلالها قدرة القرائح العربية على التعايش مع التصورات المستحدثة في العالم الحديث، إلى درجة تجعل بعض المثقفين العرب يمتحون مع الغربيين من معين واحد.

ثالثا: تحديات في شكل مثبطات

1 – ضياع تراث أدبي ضخم من تراث الأمة العربية خاصة وتراث الإنسانية عامة. فقد ضاع من الآثار الإبداعية، ومن الدواوين الشعرية وشروحها والرسائل الشخصية وغيرها ما لم يبق منه إلا ما بقي منه متناثراً  في أمهات مصادر التراث الإسلامي.
2 - فقَد الأدب العربي كثيراً من توهُُّجه خلال بعض المراحل من تاريخه، وأصيب بمحنة التصنع لدى كثير من أدباء عهد المماليك والفترة العثمانية، وانحسرت آفاق الإبداع والفكر فيه، وخبت جذوة المشاعر نتيجة ما لحق العالم الإسلامي من دمار إثر الحروب الصليبية وهجمات المُغول.
3 – جناية مؤرخي الأدب بتحجيمه في ظواهر محددة، وربطه بعصور سياسية، وتقليصه في نماذج متكررة، وتجاوز بعض مراحله والقفز على كثير من قضاياه، وإخضاعه لقراءاته نابعة من شروط مغايرة لحقيقته ومجالاته.
4 – إغفال أشكال عديدة تجلت فيها عبقرية العربية ومجالا من الإبداع فيها، تراث لم يحظ بالعناية التي يستحقها من مؤرخي الأدب، وخاصة في مجالات النثر الفني مما هو مبثوث في مجمل أمهات كتب الأدب، وكتب المحاضرات والمناظرات، وكتب السير والأخبار والتراجم، وكتب التفسير، وأدب الرسائل، والوصايا، والمواعظ، ومقدمات الكتب...
5 – أغفلت جهود المستشرقين دور الأدب العربي في ترسيخ القيم الإنسانية، وريادَتَه في إثارة قضايا فكرية وأدبية، كما أغفلوا بشكل خاص ما خلفتْه الحروب الصليبية من آثار أدبية، وسار مؤرخو الأدب على أثرهم، فتم إغفال جانب القيم الإنسانية في التراث الأدبي. ومن آثار الاستشراق ما لحق الأدب العربي من غَبْن في مجالات الأدب المقارن، وما قد يكون له من تأثيرات وتفاعلات مع غيره من  الآداب الأخرى. ولا غرابة أن تظل الرؤية الاستعلائية التي تمارسها المركزية الأوربية تعم الآداب المشرقية إلى اليوم. ولا غرابة أن تنتقل جراثيم تلك الرؤية الاستعلائية إلى أغلب الحداثيين من العرب المعاصرين.
6 – سيادة الأمية، وتراجع نسبة القراءة، وتسارع وثيرة نشر المعارف، وجعْل ذاكرة الطلاب العرب في عطلة، والانجذاب إلى مؤثرات الصورة في العالم العربي، وتعلق الشباب بمواقع إلكترونية خاصة، وقلة ما يتلقاه الطالب في الثانوي والعالي من أدب عربي لا يتجاوز نماذج محدودة؛ ممّا ينشأ معه بداية طمس للهوية الإسلامية. هذا إلى جانب النظرة الدونية لحَمَلة الشهادات في العلوم الإنسانية عامة وللآداب خاصة. وما يُصرف من الدخل القومي في عالمنا العربي على الثقافة والبحث العلمي؛ يمنحنا شهادة التخلف في مناحي الحياة المعاصرة باستحقاق... تلك علامات تُعطي لآداب العربية حيزا ضئيلا جدا ضمن اهتمامات المجتمعات العربية، وبالتالي يتم استبعاد القيم التي لا وجود لحياة إنسانية بدونها.
وإهمال آداب العرب هو إهمال لكثير من القيم الإنسانية، وما يفتقر إليه العالم المعاصر اليوم هو القيم. ودور الآداب وما يواكبها من علوم إنسانية في رحاب رؤية إسلامية؛ تظل المعتمد في ترسيخ القيم في مجتمعاتنا اليوم. وحين نتساءل عما استمدّه الأدب العربي من القيم الإسلامية ندرك آنذاك ما شاب آداب العرب من ارتكاسات وانتكاسات، أما حين نسأله اليوم فإننا نجد أكثره غارقاً في التقليد بكل ما يحمله التقليد من إهانة للكرامة الإنسانية، ومن تكلّس لحركة الوجود، وما ينتج عنه من انحرافات.

رابعا: مبشرات

انتهى زمن دهاقنة الاستشراق العارفين بدهاليز الثقافة الإسلامية، والمنحرفة منها بشكل خاص، والذين سعَوْا بكل ما أوتوا من ذكاء  إلى إبعاد الإسلام عن حركة الحياة ومحاولة طمسه في الذهنية الأوربية.
 والملاحظ أن أغلب جهودهم ظلت حبيسة الأديرة والمكتبات الخاصة، وما نشر منها ظل محدود الانتشار، وأن مفعولها فقَدَ كثيرا من أصدائه في عقول من كان يقلدهم.
وأثبت الأدب العربي الحديث في العصر الحديث قدرة ومرونة للتجاذب والتحاور والتصادم من الآداب الأوربية التي عبرت تأثيراتها عبر الترجمة وعبر أجناسها الأدبية وبخاصة الرواية والمسرحية.
وتحمّل النقد العربي ما جاء حول ما استُحدث من أجناس في العالم العربي، وعايش قلق المناهج النقدية الحديثة التي لا تستقر على حال، بالرغم من إفراط فئة من النقاد العرب في تبنّي المناهج والتبشير بها في الندوات والمنتديات والمجلات والدراسات.
وكثير من النظريات النقدية الحديثة لم تكن نتائجها في وزن ما رافقها من ادعاءات وتهويلات، وأمام كل هذا ما تزال الآداب العربية في شموها تحتاج إلى مزيد من إعمال النظر فيما تطرحه من قضايا.
ومما يلاحظ أن كثيرا من أصوات الحداثيين العرب بدأت تخفت وتتوارى، بعدما أصبحت تتحدث بدورها عمّا بعد الحداثة. فما عادت شطحات الحداثيين تتردد في اتحادات كتاب العرب، وما عادت تهتز لها جنبات المنتديات الثقافية في العالم العربي، وفشل دعاة التغريب في دعوتهم إلى استئصال تراث الأمة. وكان خير من انتقد أصول الحداثة الغربية، وفضح أساليب التقليد لدى المفكرين العرب د. طه عبد الرحمن في مجمل أعماله.

خاتمة:

حين لا ننظر إلى الثقافة باعتبارها كيانا مستقلا عنّا، وحين يتقرر في مجالاتنا الفكرية، وفي برامجنا التعليمية في عالمنا الإسلامي؛ أن لا وجود لثقافة خارج هويتنا وعقيدتنا؛ آنذاك نُدرك أن الثقافة عندنا هي الدين.
وأقول في الأخير، بالرغم من كل التحديات التي واجهت الأدب العربي في صورة قدريات أو مواجهات أو مثبطات؛ ستظل هناك مبشرات. سيظل للكلمة العربية سحرُها في النفوس، وسيظل الأدب العربي هو المتنفس الشعوري لدى الإنسان العربي، سيظل من حراس القيم الإنسانية والجمالية في معترك هذه الحياة.
والأمل معقود أن تنبعث من جديد آداب العربية من جزيرة العرب، ومن أرض الحجاز؛ لما تعرفه اليوم من انهمار في المشهدين الشعري والروائي، ومن اتساع في مجالات النشر والتحقيق. وما سمعته من د. طيب الحارثي رئيس قسم الأدب، وهو يتحدث إلى أساتذة القسم وطلبته؛ رأيت ملامح من أدب العرب، ورأيت القيم التي يبثّها الأدب في نفوس ذويه، لقد وجدت في الدكتور طيب أدباً يمشي، وطيبا يُعطر الأجواء.
بعد هذه اللمحة عن التحديات التي واجهت الأدب العربي وما تزال تواجهه، أتمنى أن نسمع من حضوركم العلمي ملاحظات وإضافات.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.



[ ألقيت هذه الكلمة بجامعة أم القرى بالعزيزية يوم الاثنين 13 ذو القعدة 1427هـ الموافق  4 دجنبر 2006م،  وكانت لي أثناء المحاضرة استطرادات وتعليقات، وأثارت المحاضرة عدة أسئلة وعدة ملاحظات].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق