عباس أرحيلة
تمهيد:
ستكون
كلمتي حول جزء من الآية الثالثة والأربعين بعد المائة من سورة البقرة ( وكذلك
جعلناكم أمة وسطا..) وهي الآية التي ظلت محطَّ أنظار العلماء في تناول مفهوم
الوسطية في الفكر الإسلامي. وسأقتصر على الوسطية باعتبارها
شهادة من المسلمين على غيرهم، شهادة يتحملون مسؤوليتها في تاريخ البشرية.
في التمهيد أقول كلمة عن الوسطية في معترك اللحظة الراهنة.
شاع
تداول مصطلح الوسطية بشكل مُثير، في الأدبيات الإسلامية المعاصرة، إثر تصنيع ظاهرة
الإرهاب التي ألصقت بالإسلام، ومع استفحال العداء للإسلام ورميٍه بالتطَرُّف. والهدفُ
من تداول الوسطية:
ترسيخُ
الهوية الإسلامية؛ باعتبارها منهجَ حياة يدعو إلى الاستقامة على المنهج الذي
ارتضاه اللهُ تعالى لخلقه،
والدعوة إلى الاعتدال ومحاربة الغلو والتشدّد
في الدين والسياسة.
وأصبحَ
همُّ كثير من الباحثين إثباتََ التوسط والاعتدال في حركة الوجود البشري كما
يُقرُّها الإسلام، ودفْعََ الغلو والتطرف عن الإسلام، وضرورة التحقق من سماحته
وعدالته قبل وصمه بالغلو.
وقد
أخذ مصطلح الوسطية صيغة المذهبية الجامعة لحقيقة الإسلام في الفترة المعاصرة،
وحلَّ محلًّ مصطلح التوسُّط؛ وهو مصطلح ظل يختزل رؤية تشريعية، نابعة من تلاؤمها
مع الفطرة البشرية، إذْ جرت التكاليف الشرعية على الأخذ بها في حركة الحياة، [ تم
استنباط قواعد فقهية من أمثال: المشقة
تجلُبُ التيسير، وقاعدة لا ضرَر ولا ضِرار، وقاعدة الضرورات تُبيح المحظورات... يقول
ابن القيم:" الوسطُ الموضوعُ بين طرفيْ الإفراط والتفريط هو العدلُ، وهو الذي
عليه بناءُ مصالح الدنيا والآخرة، بل حتى مصلحة البدن لا تقوم إلاَّ به"] (1).
وراهنية
هذا المصطلح جعلتْه محط نظر كثير من المنتديات الفكرية في العالم الإسلامي، وعُقدت
من أجله جملة مؤتمرات، وخضع مفهومه لكثير من التحليلات والتأويلات في مواجهة
تحديات عصر الحداثة "المتَعَوْلِم" الذي يُواجه المسلمين اليوم بضراوة.
وجمعية
الحافظ ابن عبد البر للتعريف بالتراث الإسلامي بمراكش، تحاول في هذه الندوة التنبيه
إلى ضرورة حسن التدين لتحقيق الشخصية الإسلامية الوسطية المعتدلة ودفع أسباب الغلو
أو التقصير ( خلال هذين اليومين: 24 – 25 جمادى الثانية 1429هـ/28 – 29 يونيو
2008م).
ولما
كان المرتكز الأساس في تحديد هذا المصطلح قول الله عزَّ وجلَّ:« وكذلك جعلناكم
أمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً » [البقرة، من الآية:143]،
اخترت أن تكون لي وقفة مع هذا الجزء من الآية.
أولا: ملاحظات شكلية حول قول
الله عز وجل:
«
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. قل لله المشرق
والمغرب. يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [142] - وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على
الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً - . وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها
إلاَّ لنعلمً مَن يتبعُ الرسولً ممن ينقلبُ على عقبيه. وإن كانت لكبيرة إلا على
الذين هدى الله وما كان الله ليُضيعَ إيمانَكم. إن اللهَ بالناس لرءوف رحيم »
[143].
ثلاث
ملاحظات:
1 –
تتوسّط هذه الآية سورة البقرة، فرقمها 143، نصف 286 عدد آيات سورة البقرة! وفي ذلك
إشارة إلى ضرورة التوسط والاعتدال في التكاليف الشرعية الواردة في السورة، ومن
خلال ذلك تحقق الأمة مهمتها في الوجود!
2 – ورد قول الله تعالى هذا في شكل جملة
اعتراضية جاءت في سياق تحويل القبلة، ولهذا الاعتراض فائدتان: الأولى رمزية
والثانية إقرار بأفضلية الأمة التي تتخذ الإسلام دينا:
أ – الفائدة الرمزية من القبلة
والتحويل:
- ثبََت اليوم
أن القبلة واقعة وسط الأرض.
- وتحويل
القبلة فيه رمزٌ لوجهة جديدة في تاريخ رسالات الله إلى خلقه.
- وفيه رمز
لتحويل وجهة شعوب الأرض شطرَ الإسلام.
- وفيه رمز لما
ينبغي أن تكون عليه وحدة المسلمين.
ب – أما الفائدة الثانية للاعتراض في
قول الله تعالى:
- الإقرار بأفضلية الأمة التي تتخذ الإسلام
دينا.
- المدح والتنويه بأمة الإسلام ( كنتم
خير أمة أخرجت للناس).
3- لفظ وسط شأن لفظ العدل يوصفُ بكل
منهما المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. ومن هنا قيل: وسطا: عدْلاً وعدولا
وخِياراً.
ثانيا: معنى (أمةً وسَطاً):
تبعا لما رواه
الترمذي عن أبي سعيد الخُدري أن النبي صلى الله عليه وسلم شَرَحَ لفظ الوسط
بالعدْل، وعلى هذا توارد أهل اللغة وأهل التفسير. والأصل في هذا أننا انتقلنا من
بينية حسية إلى بينية معنوية؛ فاستعير لفظ الوسط للصفة الواقعة بين خُلُقيْنِ
ذميميْن فيهما إفراطٌ وتفريطٌ؛ واستُعمل استعمالَ الصفة؛ إذ وسط الشيء أفضله وأعدله؛
فلفظ وسَط وصفٌ مجازي يدل على العدل والخيَرة، ويُطلق على المتصف بالفضائل.
ورد في كتاب «معاني
القرآن وإعرابه» للزجاج أن وصفُ الأمة بالوَسَط، فيه قولان: وسَطاً أي عدْلاً، ووسَطاً: خِياراُ. واللفظان
مختلفان والمعنى واحد، لأن العدل خيرٌ والخيرُ عدلٌ (2).
وسُمّي العدلُ
وسطاً لأنه لا يَميل إلى أحد الطرفين. جاء في «كتاب التعريفات» للجرجاني: العدْلُ
عبارة عن الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط. والإفراط يُستعمل في تجاوز الحد من
جانب الزيادة والكمال، والتفريط: يُستعمل في تجاوز الحد من جانب النقصان والتقصير (3).
في «البحر
المحيط»:«(وسطا) أي عدولا، وقيل: خيارا، وقيل: متوسطين في الدين بين المفرط
والمقصر، لم يتخذوا واحدا من الأنبياء إلها كما فعلت النصارى، ولا قتلوه كما فعلت
اليهود» (4).
وسميت الصلاة
وسطى لأنها أفضل الصلوات وأعظمها أجراً، ولذلك خُصَّتْ بالمحافظة عليها. فالوصف في
الآية يدل على الرِفْعَة والأفضلية والخِيَرَة.
ثالثا: الوسطية ميزة أفضلية:
وكما جعل الله عز وجل القبلة وسطاً؛ جعل
الأمة الإسلامية وسَطاً؛ فأثنى عليها ووصفها بالعدالة والخِيَرَة، ووَهَبها
العِزَّة، جاء في (البحر المحيط):« كما جعلنا الكعبة وسطَ الأرض كذلك جعلناكم أمة
وسطا؛ دون الأنبياء وفوق الأمم» (5). وهكذا تقرر في الآية أفضلية الأمة التي
اتخذتْ الإسلام دينا.
ومعيار
التفضيل هنا مرتبط بالقيم التي شَرَّعَها الإسلام، لا بالأعراق والجنسيات؛
فالمعيارُ مرتبط بالعدل أي بالاستقامة. ولا ننسى أن معيار التقوى هو مقياس أفضلية الأمم والأفراد، قال تعالى:« يأيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شُعوباً وقبائلَ لتَعارفوا إن أكرمَكم عند الله
أتقاكم إن الله عليم خبير» [ الحجرات:13 ].
و« العدالة في اللغة: الاستقامة، وفي الشريعة:
عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب ما هو محظور دينا» (6).
والاستقامة:«
ملازمة الصراط المستقيم برعاية حد التوسط في كل الأمور من الطعام والشراب واللباس،
وفي كل أمر ديني ودنيوي، فذلك هو الصراط المستقيم» (7).
رابعا: أفضلية الأمة باستقامتها
على المنهج:
يتضح من سياق
الآية أنه بعد أن هَدَى الله عز وجل هذه الأمة إلى الإيمان؛ هيَّاَ لها أقوَمَ
منهج. وهو المنهج الذي مَنَحها التميّز والأفضلية في شخصيتها، وحركة وجودها، وهو
الذي منحها مكان القيادة الذي خُلقت له، وأخْرُجت للناس من أجله، وهي بغير هذا
المنهج ضائعة في الغمار، مُبهمة الملامح، مجهولة القسمات، كما قال سيد قطب(8) .
وممّا قيل عن
تميّز أمة الإسلام عن بقية الأمم ما رواه عبادة بن الصامت قال:
سمعتُ رسول
الله صلى الله عليه وسلم:«أُعْطِيَتْ أُمَّتي ثلاثاً لم تُعْطَ إلا للأنبياء: كان
الله إذا بعثَ نبيّاً قال له: ادعُني أَستَجِبْ لكَ، وقال لهذه الأمة: ادعوني
أستَجِبْ لكم. وكان الله إذا بَعَثَ النبيَّ قال له: ما جعل عليكَ في الدين من
حرج، وقال لهذه الأمة: وما جعل عليكم في الدين من حرج. وكان الله إذا بعثَ النبيَّ
جعلَهُ شهيداً على قومه، وجعل هذه الأمةَ شُهداءَ على الناس» (9).
إذا كان الله
تعالى قد وصف هذه الأمة بالعدل، فإنه أهلها لتكون لها الشهادة على الناس؛ وتتحقق
فيها الأهلية على تأديتها، فتكون ( خير أمة أخرجت للناس). ومن المقرر أن العادل
مَن يُرضَى حكمُه وتُقبَلُ شهادتُهُ. فما المراد بالشهادة على الناس؟ وعلى أي أساس
تَحْتَكِمُ إلينا البشريةُ؟ أو قل ما هي القِيَمُ التي ينبغي أن تكون فينا حتى
نُصْبِحَ شهوداً على الناس؟ فكيف تحكم أمة الإسلام بالعدل على غيرها فيأتي حكمُها
مَرضيا، فتُزَكَّى وتُرتَضي الأممُ شهادَتَها؟
خامسا: الوسطية شهادة على الناس:
لِمَ حظيَتْ هذه الأمة بهذه الأفضلية،
ولِمَ تميزتْ بهذه الوسطية؛ وخصّها الله تعالى بهذا الجعل؟ جواب ذلك في لام
التعليل:« لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيدا»؛ أي لكي تكونوا
ولأن تكونوا شهداء على الناس؛ فالله تعالى جعلها كذلك ليُحمِّلها مسؤولية جسيمة عليها
أن تؤديها مقابلَ ما حازته من رِفعة وأفضلية ووسطية. ومن المعلوم أن الشهادة لا بد
فيها من عِلْمِ الشاهدِ وصدقِه وبيانِه، وقد أُمرنا أن نكون « قوَّامين بالقسط»،
وألاَّ نتبع الأهواء في أحكامنا. وفي القرآن الكريم حثٌّ على إقامة الشهادة لله،
وإقامة العدل لله؛ بإضافتهما إليه، قال تعالى:« وأقيموا الشهادة لله" [
الطلاق:2 ]، وقال:" كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله» [ النساء: 135 ].
ومن المعلوم أن
الخطاب في الآية موَجّهٌ لجميع أفراد الأمة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وجاء
بالتنكير ليشمل أهل كل عصر. فمهمَّةُ الأمة أن تؤمَّ دنيا وأخرى، وأن تكون ميزاناً
يوزَنُ به حالُ الناس، وأن تكون شهادتُها في كل آن وأوان.
يقول سيد قطب:«
إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا، فتُقِيمُ بينهم العدلَ والقسطَ،
وتضَعُ لهم الموازين والقِيَم، وتُبدي فيهم رأيَها فيكونُ هو الرأيُ المُعْتَمَدُ»
(10).
يقول الدكتور
يوسف القرضاوي عن الأمة الوسَط:« فهي الأمة العدل والاعتدال التي تشهد في الدنيا
والآخرة على كل انحراف يمينا أو شمالا عن خط الوسَط المستقيم» (11).
وهذه الشهادة التي أناط بها أمة الإسلام جعلها في الدنيا
والآخرة.
سادسا: الشهادة هنا في الدنيا
على الأمم!
تُؤَدِّي أمةُ
الإسلام شهادتَيْنِ في الدنيا:
أولاهما: يشهد فيها المسلمون بعضَهم على بعض حين
موت أحدهم.
وثانيهما: أداء المسلمين للشهادة على من زاغَ عن
منهج الله من الأمم الأخرى.
فخَيْريَة
الأمة وأفضليتها وتميُّزُها غايتُها أن تتحمَّل الأمة أداء الشهادة على الناس في
دنيا الناس. وتقرير هذه الشهادة يكون في الدنيا. يقول الفخر الرازي إن الشهادة
والمشاهدة والشهود هو الرؤية، فيقال: شاهدتُ كذا إذا رأيتُه وأبصرتُه. وكلُّ من
عرَف حالَ شيء وكشف عنه؛ كان شاهدا عليه. والله وصف هذه الأمة بالشهادة، وجعل
أهلها عدولا، وهذا يقتضي أداء الشهادة في دار الدنيا (12).
(أ)
ما يدل على شهادة المسلمين بعضهم على بعض بعد موت أحدهم ما ورد في الصحيحين، عن
أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت به جنازةٌ، فأُثْنِيَ
عليها خيرٌ فقال: وَجَبَتْ، وجبتْ، وجبتْ. فقال عمر: فدىً لك أبي وأمي. مُرَّ
بجنازة فأُثْنِيَ عليها خيرٌ، فقلتَ: وجبتْ، وجبتْ، وجبتْ. ومُرَّ بجنازة فأٌثنِيَ
عليها شرٌّ، فقلتَ: وجبتْ، وجبتْ، وجبتْ.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم:« من أثنيتُم عليه خيراً وجبتْ له الجنةُ، ومن
أثنيتم عليه شرّاً وجبت له النارُ؛ أنتم شهداءُ الله في الأرض، أنتم شهداءُ الله
في الأرض، أنتم شهداءُ الله في الأرض". وفي بعض طرقه في غير الصحيحين،
وتلا:" لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيدا» (13).
(ب) شهادتُهم
في الدنيا على من ترك الحقَّ من الناس أجمعين؛ إذ جعلهم الله خِيارا عدولا
مُزكِّين بالعلم والعمل؛ ينقلون إلى الناس ما عَلِموهُ من الدين كما بَلَّغَهُمْ
عَنْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا قيل: الشهادة الاحتجاج؛ أي لتكونوا
محتجين على الناس (14).
(ج)
شهادتهم على أهل الأديان الأخرى بأن يكونوا رقباءَ عليهم في الاحتكام إلى الحق،
وإنذارِهم عما يعتريهم من زيغ وضلال، فهم حُجَّةٌ على مَن خالفهم؛« بُصَرَاءُ على
كفرهم بآيات الله، وما غيَّروا، وبدَّلوا، وأشركوا، وألْحَدوا» (15) ؛ تَبَعاُ لما
هو مقرَّرٌ في كتاب الله من إحقاق الحق، ونبْذ الباطل. وبذلك تكون الآية نظيرَ
آية:" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنْهَوْنَ عن المُنكر
وتٌؤمنون بالله" [ آل عمران:110 ].
(د) الشهادة
إثباتُ حُجَّةٍ وبيانُها:
كيف تُصبحُ الأمةُ حجةً، وتُقبَلُ
شهادتُها؟
-
حين تزكِّي نفسَها بالعلم والعمل.
-
وتُطبِّقُ المنهجَ الذي ارتضاه الله لخلقه.
-
وحين
يكون الإسلام هو متنفَّسُها على الوجود، به تحيى ومن أجله وتموت.
-
وحين
تَحْكُمُهَا العُبُودِيَةُ لله وحده.
-
وحين تلتزم
بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
تكون شهادتُها هنا في دنيا الناس حين تتمثل
الوسطيةَ؛ باعتبارها استقامة على المنهج، وحين تُمارسُها في حركة وجودها الفعلي
بين الأمم؛ وبذلك تُصبح وسطيتُها حُجَّةً على الأمم، وتكون شاهدةً على ما في أعمال
الناس من انحراف عن الحق.
جاء في «أحكام
القرآن» للجصاص أن المسلمين « حجةٌ على من جاء بعدهم في نقل الشريعة، وفيما حكموا
به، واعتقدوه من أحكام الله تعالى» (16).
يقول ابن
عاشور:« والناس عام، والمراد بهم الأمم الماضون والحاضرون، وهذه الشهادة دنيوية
وأُخروية. فأما الدنيوية فهي حكمُ هاته الأمة على الأمم الماضين والحاضرين بتبرير
المؤمنين منهم بالرسل المبعوثين في كل زمان وبتضليل الكافرين منهم (...) وهذا حكم
تاريخيٌّ ديني عظيم إذا نشأت عليه الأمة نشأت على تعوُّدِ عَرْْضِ الحوادث كلِّها
على معيار النقد المُصيب» (17).
فمفهوم الوسطية
مرتبط بالشهادة؛ لتكون أمة الشهادة، أي لتشهد على البشر في الدنيا لما فيها من
عدالة وأفضلية وخيرية. ومعلوم" أن العدالة إنما تُعلم بالأعمال
الصالحة"، كما قال الباجي (18). وشهادتُها على الأمم المعاصرة لها تكون على
قدر استعدادها لتقديم النموذج، وتحقيقها للرِّيادة في دنيا الناس. وعلى قدر
استعدادها للتفاعل مع مُعْتَرَكِ كل عصر، والتدافع الحضاري مع أهله وإدارة الحوار
معه بالتي هي أحسن؛ تكون لها الشهادة والريادة، وتتحقَّقُ فيها الوسطية.
سابعا: الشهادة على الأمم في
الآخرة:
شهادة الأمة
الوسط على الناس، يُشار إليها عادةً ًبواسطة الحديث الشريف الذي يصف المشهد
الأخروي الوارد في صحيح البخاري: عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ – رضي الله عنه – أنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يجيء نوحٌ وأمتُه فيقول اللهُ
تعالى: هل بلَّغْتَ؟ فيقول: نعمْ، أي ربِّ. فيقول لأمته: هلْ بَلَّغَكم؟ فيقولون:
لا. ما جاءنا من نبيٍّ. فيقول لنوح: مَن يشهَدُ لك؟ فيقول: محمدٌ صلَّى اللهُ عليه
وسلم وأمَّتُهُ، فتَشْهَدُ أنه قد بلَّغ، وهو قوله جلَّ ذِكْرُه:( وكذلك جعلناكم
أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) [ البقرة، من الآية:143 ]، والوسَطُ: العدْلُ»
(19).
ومن حديث جابر
عن النبي صلى الله عليه وسلم:« ما مِن رجل من الأمم إلاَّ وَدَّ أنه مِنّا أيتُها
الأمة، ما مِن نبيٍّ كذَّبَهُ قومُه إلاَّ ونحن شُهداؤُه أن قد بَلَّغَ رسالةَ
الله ونَصَحَ لهم» (20). وجاء في «البحر المحيط» أن المراد بالشهادة شهادة هذه
الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم (21).
وجاء في تفسير
القرطبي:« قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من
تفضيله لنا باسم العدالة وتَوْلِيَةِ خطيرِ الشهادة على جميع خلقه، فجعلَنا
أوَّلاً مكاناً وإن كنَّا آخراَ زماناً» (22).
وقد شهدوا على
تلك الأمم وإن لم يُدركوها، بفضل ما ورد من أخبارهم في القرآن بتبليغهم ما أُرسلوا
به إلى أُمَمِهم.
ثامنا: الأمة واسطة بين الرسول
والناس:
وبعدالة
المسلمين واستقامتهم على منهج الله، تتحقَّقُ فيهم وبهم الوَساطة بين الرسول
الخاتم وبقية شعوب الأرض؛ فيتم الاحتكام إلى عدالتهم، ويُصبحون شهداء على الناس.
جاء في تفسير الطبري عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:« أمة وسَطٌ بين النبي وبين
الأمم"، وفي تفسير القرطبي:" جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم» (23).
فموقع الأمة الوسطُ بين النبوة
والبشر؛ إذ تقوم بتبليغ رسالة الإسلام بعد انقضاء مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الموقع جَعْلٌ إلهيٌّ يُصبح بموجبه المسلمون واسطة بين الأمة الإسلامية وبقية
شعوب الأرض. وهنا تُصبح الوسطية بمعنى الوَساطة لا التوسُّط. وقد اصطفى الله تعالى
هذه الأمة لتقوم بمسؤولية الشهادة؛ فحمَّلَها أقوم منهج في العقيدة والتشريع
والأخلاق لتلتزم به في حركة حياتها، وتُبلغه إلى بقية الأمم.قال تعالى:
« هو اجْتَبَاكُمْ وما جَعَلَ عليكم في
الدين من حرج لتكونوا شهداء على الناس»[ الحج: 78 ].
وهذا يوجبُ
دعوة البشرية إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة لإسعادها وإنقاذها من الضلالات،
دون إكراه، فما جاء الإسلام لِيُكرهَ الناسَ أن يكونوا مؤمنين!
وفي« لتكونوا
شهداء على الناس» بشرى تجعل الأمم في المستقبل تجد ضالتها لدى أمة الإسلام، فتركن
إلى شهادتها وتحتكم إليها. وفي الآية ردٌّ على اليهود الذين ادَّعَوْا مخالفةَ
الرسول صلى الله عليه وسلم لقبلة الأنبياء؛ فإذا بالذي حاولوا التشكيك في نبوته
يتولى أتباعُه الشهادةَ عليهم وعلى سواهم من الذين بُعث فيهم الأنبياء عامة !
تاسعا: « ويكون الرسول عليكم
شهيداً»:
كيف تكون شهادة
الرسول صلى الله عليه وسلم؟ تكون بالتزام سنته، وتطبيقها في ضوء ما بيَّنَه!
فالرسول صلى الله عليه وسلم سيشهدُ على الأمم يوم القيامة بتبليغ الأنبياء رسالاتِ
الله إليهم، كما سيشهد على أمته بالإيمان به وبتبليغه لرسالة الإسلام إليهم. وهو
القائل،" أنا سيد الناس يوم القيامة"، كما في صحيح البخاري.
وعليه فإن
الأمة لا تتحقق فيها الوسطية إلاَّ إذا التزمت بمنهج الله، واستقامت على سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وباستقامتها تلك، تستحق أن تكون لها الشهادة على الناس،
وأن تتوسَّط بين منهج الله وبين أمم الأرض، وباستقامتها تلك سيشهدُ الرسول عليها.
فالأمةُ الوسَط هي التي تَتَّبِعُ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وشهادتُه
عليها هي: هل كان عملُها مُطابقا لما جاء به أم لا.
وفي الختام، هذه جملة ملاحظات:
(1) أوسع المعاني انتشارا لمادة ( وَسَطَ ) دارت حول
محاور ثلاثة: (أ) بينية هي اعتدال وتوازن (ب) بينية هي عدالة فيها أفضلية وخيرية
(ج) بينية أُممية هي وَساطة وشهادة على
الأمم الأخرى.
ويُلْحَظُ من
خلال مفهوم الوسطية أنه تم الانتقال من بَيْنِيَةٍ حِسِّيَة، إلى بينيَةٍ معنوية
قِيميَّة، إلى بينية أُمَمِيَّة حضارية، وأن معيارَ القيمة هو جوهرُ المعنى الثابت
لمفهوم الوسطية؛ وأن جوهر هذا المفهوم يتمثَّلُ في الاستقامة، أي في الالتزام
بالقيم.
ويتّضِحُ كذلك
أن مصطلح الوسطية مصدرٌ صناعيٌّ، حلَّ مَحَلَّ مصطلح التَّوَسُّط، بعد أن
استُحْدِثَ في الفترة المعاصرة، وأخَذَ صيغة المذهبية، فشاع في الأدبيات الإسلامية
المعاصرة، وخاصّةً بعد تصنيع ظاهرة الإرهاب التي ألصقت بالإسلام، واستفحال العداء
للإسلام ورميه بالتطَرُّف.
(2) وفي آية«
وكذلك جعلناكم أمة وسطا» إشعارٌ للأمة الإسلامية بمسؤوليتها في معترك الوجود؛ إذ
جعلها وسَطا، ومنحها الأهلية ( = العدالة والخيَرة ) لتكون لها الشهادة على الناس.
فعلى
ألأمة الوسَط اليوم أن تتمثل فيها الوسطية في مواجهة الحضارة الغربية، وأن تستشعر
مسؤولية المُناطَةَ بها حضارياً، وأن تتذَكّر أن القِبلة وُضِعتْ لهداية الناس
وتوحيدهم على المنهج، وأنه على الأمة الإسلامية أن تكون كالقبلة، تتَوَحَّدُ من
خلالها أنظار البشرية في استقبال منهج الله. فهل تُقدِّرُ الأمة الإسلامية جسامةَ مسؤوليتها؟ وهل هي مؤهلة للشهادة على غيرها من أهل الأرض؟ هل هي اليوم
ميزان يوزن به حال الناس، ويُحنكَمُ إليها فيما يقع في دنيا الناس من إفراط
وتفريط؟
[ ملاحظة: ألقيت هذه الكلمة في الندوة التي نظمتها جمعية الحافظ ابن
عبد البر للتعريف بالتراث الإسلامي بقاعة الاجتماعات بمقر مجلس جهة مراكش الحوز،
بتاريخ: 24 – 25 جمادى الثانية 1429هـ/ 28 – 29 يونيو 2008م].
هوامش:
1 - الفوائد: ابن القيم الجوزية، ص139
2 - معاني القرآن وإعرابه: الزجاج:1/219
3 - كتاب التعريفات : الجرجاني، ص191
4 - البحر المحيط:1/595
5 - نفسه:1/595
6 - كتاب التعريفات، ص191
7 - نفسه، ص37
8- في ظلال القرآن، المجلد الأول، ج2،
ص129
9 - الجامع لأحكام القرآن: القرطبي:
2/105
10 - في ظلال القرآن، مجلد 1، ج2، ص129
11 - الصحوة الإسلامية بين الجحود
والتطرف، ص24
12 - مفاتيح التفسير الكبير: الفخر
الرازي:1/99
13 - صحيح مسلم، رقم 949 ،القرطبي:2/104
14 - البحر المحيط: 1/596
15 -
محاسن التأويل: القاسمي:1/414
16 - أحكام القرأن: الجصاص: 1/88
17 - تفسير التحرير والتنوير:2/20
18 - إحكام الفصول: الباجي، ص375
19 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
7/15
20 - نفسه:9/25
21 - البحر المحيط:1/595
22 - الجامع لأحكام القرآن:2/105
23 - نفسه:2/104
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق