يأتي بحث عبد الوهاب الأزدي لاستجلاء مفهوم البيان في ثمانية أعمال بلاغية من تراث الغرب الإسلاميّ، خلال القرنيْن الهجرييْن السَّابع والثامن. أربعة منها حاول أصحابها تعميق الرؤية البيانيَّة في الشعريَّة العربيّة، في ضوء ما استفاده كل منهم بطريقته الخاصَّة، مما فهمه الفلاسفة المسلمون من كتابيْ الشعر والخطابة خاصَّة وكتب المنطق عامَّة. وحاول حازم القرطاجنيّ (684هـ) من بين هؤلاء ترسيخَ شعريَّة عربيَّة يتحقَّق بها ومن خلالها حلم ابن سينا. وحلمه عبارة عن رغبة في وضع علم للشِّعر المطلق في الثَّقافة العربيَّة؛ علم تتحدَّد به معالم شعريَّة عربيَّة بمكوِّناتها وخصائصها وتأثيراتها؛ وفي ضوء هذه تتبيَّنُ معالم الخطاب الشعريّ في التِّراث العربيّ.
يقول حازم:« وقد ذكرتُ في هذا الكتاب من تفاصيل هذه الصَّنعة ما أرجو أنَّه من جملة ما أشار إليه أبو علي ابن سينا»[2]. وهو هنا يحدوه طموح أن يضع قوانين لعلم الشعر يزيد بها على ما وضعته الأوائل فيقول:« فلذلك وَجَبَ أن توضَعَ لها من القوانين أكثر مما وضعته الأوائل»[3].
وتحقيقاً لذلك الحلم، وتبياناً لفعالية الخطاب الشعريّ؛ باعتباره شحنة فنِّيَّة، لها مفعولها في استمالة المخاطَب، وإثارة انفعاله وتوجيهه نحو الفعل؛ تَمَّ استثمارُ ما انتهى إليه العلم بالشِّعر في التُّراث العربيّ السَّابق، والاستفادة مِمَّا فهمه الفلاسفة المسلمون من « الشعريَّة» الأرسطيَّة بظلالها المنطقيَّة.
وبظهور آثار هذا التوجُّه في الساحة الثّقافيَّة؛ تحقيقاً ودراسةً؛ أثيرت – من جديد - مسألة التَّأثير الأرسطيّ في النَّقد والبلاغة العربيَّة. فمنذ أوائل ستينيات القرن العشرين، اتَّجهت أنظار بعض الباحثين إلى (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) لحازم القرطاجنيّ؛ باعتباره أوَّل من استشعر ضرورة إنشاء قوانين للشعريّة العربيَّة، وعمل على إنجازها وبلورة معالمها.
وبظهور كتيِّب للدكتور عبد الرَّحمن بدوي يحمل عنوان (حازم القرطاجنيّ ونظريات أرسطو في الشعر والبلاغة)[4]، انطلق الحديث – ولم ينتهِ بعد - عن تطبيق نظريات أرسطو في كُتُب البلاغة العربيَّة الخالصة. وصدر كتاب المنهاج بتحقيق محمد الحبيب بلخوجة سنة 1966م؛ ليقول في تقديمه إنَّ الكتاب «يصوِّر بغاية الوضوح التَّأثيرات اليونانيَّة في صناعة النَّقد عند العرب»[5].
وما أن وصلنا سنة 1971، حتى أصبح محور «النَّقد وأرسطو» من المحاور الثابتة في التأْريخ للنَّقد العربيّ القديم، وبات ذلك راسخاً بظهور كتاب د. إحسان عباس(تاريخ النَّقد العربيّ عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثَّامن).
وجاءت ثلاث طبعات متوالية لكتاب حازم، ثم ظهر كتاب (المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع) لأبي محمَّد القاسم السلجماسيّ ( نحو 730هـ)، بتحقيق د. علال الغازي، رحمه الله سنة 1980م[6]، وتلاهُ في الظهور كتاب (الرَّوض المَريع في تجنيس أساليب البديع) لابن البنَّاء المراكشيّ (721هـ)، محقِّقاً بعناية د. رضوان بنشقرون سنة 1985م[7]، وبحلول سنة 1991م اكتمل عقد المدرسة المغربيَّة – ولو مؤقتا - بظهور كتاب « التنبيهات على ما في التبيان من تمويهات» لأبي المطرِّف أحمد بن عميرة (658 هـ)، بتحقيق شيخ المحقِّقين بالمغرب د. محمد ابن شريفة[8].
ونالت هذه المجموعة من الكتب ألواناً من البحوث والدِّراسات والمقارنات في إطار الجهود الجامعيَّة وغيرها، داخل المغرب وخارجه، وأصبح الحديث عن مدرسة نقديَّة بلاغيَّة لها منطلقاتها وتوجُّهها، ولها عُمْقُها الفكريّ في ترسيخ شعريّة عربيّة سامقة في النَّظر إلى الخطاب الأدبيّ عامَّة. ووجد د. أمجد الطرابلسيّ (تـ2001م)، طيَّب الله ثراه، هذه المدرسة « أحسنَ اطلاعاً على منطق أرسطو، وأعمقَ فهماً لمضمون كتابيْه الشعر والخطابة من النُّقاد والبلاغيِّين الذين عرفتهم القرون السابقة في مشرق الوطن العربيّ ومغربه»[9].
وكان من آثار ظهور هذه المدرسة المغربيَّة ما يلي:
1 – مراجعة التأْريخ للبلاغة والنَّقد العربيِّين؛ إذ منذ بدْء التأريخ للبلاغة العربيَّة إلى نهاية ستينيات القرن العشرين لم يكن هناك حضور لهذا المُكَوِّن البلاغيّ في بلاغة الغرب الإسلاميّ خاصَّة وبلاغة العرب عامَّة. فبظهور نصوص هذه المدرسة تأتي ضرورة إعادة صياغة جديدة لتأريخ للنَّقد والبلاغة العربيَّيْن، ويُلتفت إلى منجزات القرنين الهجريَّيْن السَّابع والثامن في الغرب الإسلاميّ، ويصبح حازم القرطاجنيّ مَعْلَمة بارزة في تاريخ الفكر الأدبيّ النَّقديّ البلاغيّ في تراث العرب، ويكون السلجماسيّ نموذجاً للاستمداد من التُّراث المنطقيّ الأرسطيّ.
2 – توسُّعُ الحديث عن صنفيْن من البلاغة: بلاغة عربيَّة خالصة، وبلاغة متأثرة بالتراث الفلسفيّ اليونانيّ. ومع هذا التّوَسُّع اتَّضحت ثلاثة فضاءات للبيان العربيّ في خريطة العالم الإسلاميّ: فضاء يمتدّ شرق العراق ويتمثل في ( مفتاح العلوم ) للسَّكَّاكيّ (-626هـ) وما كان عليه من شروح، وفضاء يتوسَّط العالمَ الإسلاميَّ (العراق، الشام، مصر، اليمن)، وفضاء مغربيّ من تخوم الغرب الإسلاميّ. ولكل فضاء ملابساته وخصائصه ومميزاته[10].
3 - أسهمت نصوص هذه المدرسة في تعميق الرؤية البيانيَّة في التُّراث العربيّ، وأمدَّته بعناصر تحليل الخطاب، ونظرتْ فيمن يُنتجُ ذلك الخطاب، ومن به يُخاطب. وجاء الحديث عن هذه المدرسة متساوقاً مع ما عرفَتْه ساحة النَّقد العربيّ الحديث من تأثيرات النَّقد الغربيّ الحديث، وما يزخر به من قضايا وإشكالات حول الخطاب بمكوِّناته وخصائصه وأهدافه، مِمَّا زاد الحديث عن هذه المدرسة امتداداً واتساعاً.
4 – وبظهور هذه المدرسة اتَّسع الحديث عن مقولة التأثير الأرسطيّ في البلاغة والنقد العربيَّين، واتَّضحتْ استفادة رواد هذه المدرسة مما خلّفتْه جهود الفلاسفة المسلمين من شرح وتلخيص لكتابيْ الشِّعر والخطابة الأرسطيَّين. ويلاحظ أن مقولة التأثير الأرسطيّ في البيان العربيّ أخذت أبعاداً، وغذّتها ظروف محليّة (ادِّعاء وجود قطيعة معرفيَّة بين الشرق والغرب) ودوليَّة (تكريس التبعية في الحاضر بمحاولة إثباتها في الماضي)، ومنحتها هذه الظروف أبعاداً لم تخل من ادِّعاءات ومبالغات، وأخذت مسألة التّأثير هذه حيِّزاً كبيراً من عنايتي في حياتي العلميَّة. فما يكون لأمَّة، عليها مسؤولية توجيه الحضارة الإنسانيَّة، وعقيدة أهلها تمنحُهم الشَّهادة على غيرهم؛ أن تصبح بدون كيان معرفيّ ماضيّاً وحاضراً، وأن يُعملَ في اللحظة الرّاهنة على أن تتلاشى في حضارة الغرب الحديث.
5– نال كتاب «منهاج البلغاء» لحازم القرطاجنيّ عناية خاصة وحظي بدراسات كثيرة، لا لكونه «طبَّق نظريات أرسطو على البلاغة العربيَّة والشعر العربيّ»، ولا لكونه « صوَّر بغاية الوضوح التّأثيرات اليونانيّة في صناعة النَّقد عند العرب»؛ ولكن لأنَّه أتى بما تَصَوَّرَه العلمَ المطلق للشعر، حين راح يستكشف خفايا الصَّنعة الشعريَّة ودقائقها في الشِّعر العربيّ، « وما أبدت فيه العرب من العجائب»، وما كان أن يتأَتَّى له ذلك إلا إذا استطاع تأصيلَ منهج لم يُسبَق إليه.
يقول:« ولقد سلكتُ في ... ذلك مسلكاً لم يسلكْه أحدٌ قبلي من أرباب هذه الصِّناعة لصعوبة مَرامه، وتوعُّر سبيل التوصّل إليه... فإني رأيتُ الناسَ لم يتكلَّموا إلا في بعض ظواهر لما اشتملت عليه تلك الصَّنعة، فتجاوزت تلك الظواهر... إلى التكلّم في كثير من خفايا هذه الصِّناعة ودقائقها»[11]. فمن دواخل هذه الصِّناعة المبثوثة والثّاوية في الشعر العربيّ انبثقت عبقرية حازم. ولو حاول تطبيق ما أراده أرسطو بالفعل؛ لَعَجَز أن يأتيَ بشيء يُذكر، ولَمَا عرفَ طريقَه إلى أسرار الخطاب وخفاياه؟ ومتى تَحقَّقَ وجودُ شيء، يدّعي هُويةً خاصّة باستنساخ غيْره؟ أمّا مَن رضِيَ لنفسه أن يُباهيَ بقلادة يتقلّدُها من صنع غيره، ويكون نسخة رديئة منه، فلْيَفْعَلْ؟
وبعد؛ فماذا عن بحث عبد الوهاب الأزدي ؟
1 – قدّم عبد الوهاب قراءة دقيقة لمفهوم البيان كما أعربت عنه نصوص هذه المدرسة خلال القرنين السَّابع والثَّامن، واجتهد في استيعاب ما كتبه كل من حازم والسِّلجماسيّ وابن البناء وابن عميرة في تناولهم لماهية الشِّعر لغةً وتركيباً ودلالةً، وما قدّمه هؤلاء – بشكل خاص – في تأسيس رؤية للعلم بالشعر على إطلاقه، وهدفهم في ذلك سنُّ قوانين كلِّيَّة يتمُّ بموجبها وضع قواعد لعلم الشعر تُستكشف من خلال ثلاث وظائف للخطاب الشعريّ في التُّراث العربيّ: الوظيفة التخييليَّة، فالوظيفة التأثيريَّة، فالوظيفة البرهانيَّة، وقد انصهرت لديهم هذه الوظائف للتحقُّق من إنجاز فنّ القول برصد طبيعة الخطاب ومكوِّناته ومقوماته، وما له من تأثيرات، وما يثيره من انفعالات؛ تتحوَّل إلى أعمال وحركات. وبعمله هذا قدّم صورة دقيقة للمراحل التي قطعها مفهوم البيان في التراث العربيّ عامة، وكشف بما تنماز به المدرسة المغربيَّة.
2 – كشف عبد الوهاب في بحثه هذا عن الكيفيَّة التي امتزجت بها رؤية بلاغيَّة منحدرة من أصول عربيَّة، وأخرى من أصول فلسفيَّة. وبيّن كيف تعايشت الرؤية البيانيَّة مع الرؤية البرهانيَّة لدى طائفة من بلاغيي المرحلة المدروسة؛ إذ قابلوا بين المعاني «الجمهورية» والمعاني العلميَّة؛ أي بين ما يُخاطب النفس فتنفعل وتهتزّ وتتحرّك نحو الفعل، وما يُخاطب العقل فيقتنع ويسكن ويهدأ. وسواء تزيَّى علم البيان بزيِّ فلسفي أو برداء بياني – كما يقول عبد الوهاب - « فإنَّه في جميع الأحوال صورة للطموح الشعريّ عند البلاغيِّين المغاربة في إقامة علم الشعر ذي مدلول أكثر رحابةً وعمقاً من المفاهيم التقليديَّة التي ترسَّخت لعلم البيان مع السَّكَّاكي وشرَّاحه»[12]. وكانت الغاية من وراء جهود رواد هذه المدرسة إضفاء الطابع العلمي للخطاب البياني باعتباره صناعة ومهارة.
2 - حضور المقارنة ين المشرق والمغرب في قراءة متون هذه المدرسة، مع الرَّبط المحكم ين التجربتيْن في الرؤية البيانيَّة، واختبار الانسجام والتكامل بينهما على مستوى طبيعة اللغة ومستوى المعاني والتركيب والأنواع الأدبيّة، مع الكشف عمّا تميزت به رؤية بعض المغاربة، من حيث عمق النظر في الخطاب الشعريّ، وما أضافه هذا النظر إلى حقيقة الرؤية البيانيّة. فعمل الباحث يُسهم بالوضوح الكافي في جلاء جهود هذه المنطقة من العالم الإسلاميّ في وضع «الشعرية»؛ أي العلم الذي يتناول حقيقة الشعر من خلال خصائصه النوعية التي تمنحه شحنة بلاغيَّة لها مفعولها في التأثير والاستمالة والفعل.
4 - كشف عبد الوهَّاب بعمق ما أسهمت به هذه المدرسة المغربيَّة في تعميق الرؤية البيانيّة في التُّراث العربيّ، ونجده قد أدخل هذا المفهوم ضمن التصوُّر العامّ لتاريخ البلاغة العربيّة، مُزيحاً بذلك النَّظرة الدونيَّة لهذه البلاغة، ومُتعالياً عن الوقوع في النظرة الشوفينيَّة لها. فهو يرى أنَّ «البلاغيين المغاربة يُمثلون عصارةَ التفكير البلاغيّ العربيّ»[13]. فحتى السِّلجمَّاسيّ أكثر المنشدين إلى المنطق الأرسطيّ، يراه الباحث «أكثر تأثراً بالجاحظ»، و«حدّه للبيان جاء أكثر ارتباطاً بمنجزات البلاغة العربية»[14]. وبهذا يكون عبد الوهاب سعى بطريقة علميَّة في تحديد رؤية متكاملة جديدة لتاريخ البلاغة العربيَّة، ونظر إليها بموضوعية من زوايا متكاملة، وأبان عن قدرة في التحليل والعرض والمقارنة والكشف عن طبيعة اللغة الشعريَّة في متون المدرسة المغربيَّة.
أختم هذه الكلمة وأنا أتذكّر السنة الجامعيَّة 1990 – 1991م، يوم أنجز عبد الوهاب الأزدي بحثه في الإجازة تحت إشرافي، بعنوان «أثر المشرق في النقد الأندلسيّ: إحكام صنعة الكلام»، وأقول: لقد كان لذلك البحث مساره العلميّ في وجدانك، وها أنت تُحْكِمُ صنعة الكلام بمهارة واقتدار، زادك الله تمكُّناً وتوفيقاً، وأراني فيك باحثاً مرموقاً.
مراكش، المغرب، في: 31 مارس 2009م.
[4] طبع الكتيب بالقاهرة سنة 1961م، كما ورد ضمن كتاب: إلى طه حسين في عيد ميلاده الستين – ط1 [ القاهرة، دار المعارف، 1962م].
[5] أصل هذا التحقيق أطروحة تقدم بها محمد الحبيب بلخوجة لنيل شهادة الدكتوراه من باريس سنة 1964، تحت إشراف ريجيس بلاشير ، ونشرت بدار الكتب الشرقية بتونس سنة 1966م.
[6] نال به دبلوم الدراسات العليا، تحت إشراف د. أمجد الطرابلسي، رحمه الله، سنة 1977، وصدر بمكتبة المعارف بالرباط سنة 1980م.
[7] نال به دبلوم الدِّراسات العليا تحت إشراف د. عزة حسن، حفظه الله، وصدر الكتاب بدار النشر المغربية بالدار البيضاء سنة 1985م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق