تصدير: أ.
د. عباس أرحيلة
كانت وجهة الباحث د. حسن السطوطي نحو
الشعر المغربيّ الحديث والمعاصر، ووقع اختياره في بحثه لنيل دبلوم الدِّراسات
العليا على الشاعر علال الهاشميّ الفيلاليّ الخياريّ أحد أعلام الشعر المغربيّ
(1934 – 2006م). فقدّم بحثاً بعنوان: (دراسة
في المتن الشعري:علال الخياري أنموذجاً). تحت إشراف د. علال الغازي، رحمه الله
تعالى. وبقراءته لذلك المتن اكتشف أبعاداً أخرى في شعر هذا الشاعر، فاختار أن يكون
عنوان أطروحته لنيل دكتوراه الدولة: (الصورة الشعرية عند الخياري).
ووجد نفسه في موجهة مع أدقِّ قضية في
نظرية الأدب، وأعقد مسألة في مفهوم الشعر؛ إذ اللغة الشعريّة هي مكمن القوة وعمق
النظر في أي شعرية كانت في القديم أو في الحديث. فالطاقة الإبداعيّة في الشعر
تتفجّر - في العادة - عبر قوة التخييل لدى
الشاعر، فعلى قدر عمقها في تصوير المشاعر والمواقف ودقّتها في أداء المعاني، وما
تختزنه من تنوّع في مكوناتها وتلويناتها الإبداعية؛ ينكشف عمق شاعرية الشاعر.
ومن أجل مقاربة الصورة الشعريّة في
شعر علال الخياريّ؛ حاول د. حسن أن يقترب من تجربته ويتعرّف على مساره الفكريّ
وتكوينه العلميّ، فأنجز معه لقاءات عدّة بقصد التعرف على جوانب من حياته الفكرية؛
لعلها تُنير له طريق الاستدلال على مصادر الصُّورة الشعريّة لديه، وتقرِّبه من
معرفة طبيعتها وخصائصها؛ ليقتحم عالم التخييل عنده، ويرى كيف تمّ بناؤُه.
وبإنجازه لعمله هذا، كان د. حسن السطوطي أوّل من قدَّم
دكتوراه دولة حول شعر علال الخياريّ، وأوّل من أنجز بحثاً علميّاً حول الصُّورة
الشعريَّة في شعر شاعر مغربيّ معاصر.
والشاعر علال الخياريّ، رحمه الله؛ اجتمع فيه ما لم
يجتمع في غيره، بسبب ما فيه تكوينه من تنوع، وكثرة ما تولاه من مهامّ ومسؤوليات في
إطار مجموعة من المؤسّسات العلميّة.
فوالده الهاشمي خِرِّيج القرويّين، مارس
الفتوى والتدريس بتلك الناحية من تافلالت،
وابنه علال خرِّيج دار الحديث الحسنيّة، درّس بالتعليم الثانوي أوّلا، ثم
أصبح أستاذاً مبرِّزاً في كلية الشريعة بفاس، وكان هو نائب الرئيس بمركز التنسيق
بين اللجان الوطنيّة لليونسكو والألسكو والإيسسكو، وهو المشرف على مجلة اليونسكو
بالمغرب، وهو رئيس تحرير مجلة كلِّية الشريعة، وهو المؤلِّف في الاقتصاد ضمن
اهتماماته العلميّة، وهو المبدع في مجال المسرح، وهو عضو لجنة تصحيح النصوص
بالإذاعة الوطنية، ينشر القصيدة الطويلة (الإلياذة)، ويكتب القصيدة والمقطوعة، وهو
أحد كتّاب كلمات الأغنية المغربيّة منذ انطلاقة ما سمي بالأغنية العصريّة في مطلع
ستينيّات القرن العشرين. فقد غنّى له المعطي بنقاسم قطعة (ياساقي الورد) من تلحين
حسن القدميري، سنة 1964م، كما غنَّى له أحمد البيضاوي قطعة من شعره.
والشاعر علال الخياريّ ولد في لحظة أخضعت فرنسا بلاد المغرب
بعد مقاومة استمرَّت من إعلان الحماية سنة 1912م إلى سنة 1934م ، تاريخ ميلاده.
فهو من جيل نشأ في مغرب واقع في قبضة مستعمر يسعى بكل أدواته القمعيّة أن يستغل
خيرات بلاده، ويقهر شعبه، ويشوِّه هُوِيَّتَه؛ خاصة أنَّ فرنسا كانت واقعة آنذاك
أمام فوهة حرب عالميّة ثانية، وأنَّ الشعوب
التي استعمرتها في إفريقيا وغيرها بدأت تتطلَّع إلى التحرّر والاستقلال.
وشاعرنا كما فتح عينيْه على
الاستعمار الفرنسيّ وهو يُذيق الشعب المغربي فرنسا ألوان الهوان، ويستغلّ خيراته
أبشع أنواع الاستغلال، ويعمل بوسائله الدنيئة على تمزيق وحدة البلاد؛ شاهد بداية
انبعاث أمّته، وتطلّع أبنائها إلى الحرية والاستقلال، كما شاهد نهاية الاستعمار
الفرنسيّ واستعادة المغرب لعزته وكرامته.
ويمكن القول إنَّ شاعرية الخياريّ
بدأت تعرف طريقها إلى الظهور، سنة 1949، وسِنُّه لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره؛
حيث نشر أول قصيدة له في جريدة العلم بعنوان: (الصباح)؛ وكأنه منذ تلك
اللحظة أصبح يتطلع لظهور فجر الاستقلال. ومع انطلاقه ما كان يُعقد على الاستقلال
من آمال، بدأت شاعرية الخياريّ تتبلور في موكب بناء مغرب ما بعد الاحتلال، حين بدأ
الشعب المغربيّ يخوض معركة البناء والدخول في تجربة العصر الحديث بكل ما حدث فيها
من تحولات في كل مجالات الحياة.
وسعى د. حسن السطوطي في عمله العلميّ هذا؛
الذي لم يُكتَب له النُّور، إلا بعد مضي خمسة عشر من إنجازه، وبعد أن ارتحل الشاعر
إلى دار البقاء؛ أن يرصد مكونات الصُّورة الشعريّة في تفاعلاتها داخل معترك
التجربة الإبداعيّة، ويرى في شعره كيف تكاثفت تلك المكوِّنات في اللغة الشعريّة،
وكيف تجاذبت وتحاورت من أجل خلق رؤية شعرية للخياريّ، رحمه الله.
ومما تجدر ملاحظته،
أنَّ طبيعة البحث في الصُّورة الشعريَّة اتَّسعت آفاقها في العصر الحديث، وتأثرت
بكل ما عرفته النظرية النقديَّة في العالم الغربيّ من تطوُّرات؛ إذ تعدّدت مجالات
النظر في العمليّة الشعريّة وأصبحت للنقد اتجاهات ومدارس، واتَّسعت مجالاته باتساع
حركة الفكر نتيجة تطوُّر المعارف في العصور الحديثة.
ويلاحظ أنَّ الفلسفة اقتحمت مجالات
العمليَّة النقديَّة، وجعلت النظر في الأدب يمتدّ إلى ما لا نهاية، وتسرَّبت
التحليلات النظريّة بكل خلفياتها المعرفيَّة من تداوليّات وسيميائيّات ولسانيّات
تحليل الخطاب إلى عالم الصُّورة الشعريّة بكل أسرارها وأبعادها.
وتميَّزت هذه المرحلة بوجود قطيعة ما بين البلاغة العربيّة في أصولها
ومباحثها القديمة والبلاغة في العصر الحديث، فقد تعطَّلت آليات التشبيه والاستعارة
والكناية والمجاز كما نشأت وتبلورت في البلاغة العربيّة القديمة، وسعى شعراء
السبعينيّات، خاصة، وتحت تأثير الحداثة الشعريّة الغربيّة؛ أن تصبح الصورة الشعرية
تستعصي على المقاربة بالرؤية العربية القديمة وبتلك الآليات القديمة، ودخل الشعر
العربيّ في أدغال الغموض بسبب ذلك، وأصبح كثير مما ينشر ويحسب على عالم الشعر
يفتقد عنصر التفاعل معه، والانفعال به. وحدثت أزمة في الشعر العربيّ الحديث، كما
حدثت أزمة في نقده والتنظير له.
ويبدو
أنَّ صاحبنا علال ظل بُحتريَّ الهوى، غنائيَّ الطبع؛ يمتح من شعر الرومنسيّين عامة
ومن أشعار المهجريِّين خاصة. وظلت الصُّور الشعرية لديْه وليدة تجربته الخاصّة،
وعمق خبرته بالشعر القديم، متأثِّرةً بقراءاته، محافظةً على صفائها ووضوحها
وغنائيتها، وظلت لغته الشِّعريَّة حافلة بأناقتها، مضمّخة بعبير بيانيَّها
وأصالتها، وظلَّت رمزيتها شفَّافة تهزُّ النفس وتطرب لها الأذن.
ويبدو أنَّ شعره صار في موكب القصيدة المغربيّة من مطلع القرن العشرين إلى نهايته،
أو قل منذ أن نشر قصيدته الأولى في جريدة العلم سنة 1949م، إلى
تاريخ وفاته في مطلع القرن الواحد والعشرين.
وفي بحثه
للصورة الشعريَّة عند الخياريّ، ذهب د. حسن ينظر في العناصر البانية للغته
الشعريّة؛ معجماً، وتركيباً، وإيقاعاً، ورمزاً، وأسطورة... ساعياً من وراء ذلك إلى
اختبار الكيفية التي تمّت بها إعادة تشكيل الواقع
الذي عاشه الخياريّ في تجربته الشعريّة.
وفي ضوء ذلك، كشف د. حسن في بحثه
هذا أنَّ الجوهر الذي تقاس به ملكة الشعر
يُختبر داخل اللغة الشعريَّة لدى الشاعر؛ فينظر إلى طاقة الإبداع لديه من خلال
تعامل الشاعر مع تلك اللغة، حين تحمل أصداء النفس وخطرات الفكر، وهي تتراكم
لتقدِّم رؤية للوجود كما أحسَّها الشاعر وعبّر عنها.
وأوضح الباحث أنَّ مكمن الإبداع في
العملية الشعريّة، يتوسّطها عمق النظر في كيفية بناء الصورة الشعريّة، وعلى قدر
تمكّن الشاعر في كيفية ذلك البناء؛ تظهر قيمة الشعر وينكشف التفاوت والاختلاف بين
الشعراء عامة. وليس بغريب أن تقاس حقيقة السرقات الأدبية في الشعر، لدى النقد
القدامى، بالسطو على جانب الأخيلة في صوغ المعاني.
وأرى أنَّ د. حسن بتناوله لطبيعة الصورة في شعر
علال الهاشميّ الخياريّ؛ حقق غايتيْن:
أولاهما أنَّه رصد
حقيقة الصُّورة الشعريّة لدى شاعر مغربيّ، بحكم مرحلته التاريخيّة وموقعه من خريطة
الشعر المغربيّ؛ كان يمثل مرحلة انتقال من شعر الإحياء الذي عرفه الشرق في نهضته
إلى معايشة الحداثة الشعريّة، وما تميّز به هذا الانتقال من نُزوع قوميّ وطنيّ
يطبعه حسٌّ رومنسيّ حالم، مشبوب بالرغبة في التحرر والانعتاق من التخلف، والتطلع
إلى الإصلاح في كل مجالات الحياة، وإلى غد أفضل. مع رغبة لدى د. حسن في الكشف عن
فرادة الصورة الشعريّة لدى الخياريّ، وبيان ما تتميّز به عن غيره.
ويمكن القول إنَّ شعر علال الخياريّ
كان صدىً لكثير من التحوّلات التي عرفها الشعر العربيّ الحديث والمعاصر في المغرب،
ومدى تفاعله مع أصداء الحركات النقديّة في ضوء قراءاته للكتابات الشرقيّة
والغربيّة على السواء.
الغاية الثانية، وهي الأهمّ، أنَّه
أخذ عدّته العلميَّة من خلال بحثه هذا؛ للنظر في قضايا الشعريّة العربيّة، والدخول
في تخوم نظرية الأدب، وقضايا النقد الأدبيّ.
وآمل أن تمتدّ قراءات د. حسن حول
اللغة الشعريّة، وحول قضايا التخييل وما دار حولها من بحوث ودراسات باللغات
العربيّة والأجنبية؛ فإن من شأن ذلك أن يُوجِد بيننا منظِّراً لقضايا الشعريّة
العربيّة، وناقداً من طراز خاص.
ومن الغريب حقا، أن لا نجد ديوان الخياري مطبوعاً ضمن دواوين
الشعر المغربي الحديث والمعاصر، ولعل انشغالات الشاعر كانت وراء ما حدث لديوانه من
تأخير.
ويصبح على عاتق د. حسن إخراج هذا الديوان، بعد الاتصال بأسرته،
واستكمال جمع القصائد وتوثيقها وترتيبها، وأن يضمّ إليه قصائده ومقطوعاته المغناة.
زادك الله ابني حسن، سداداً وتوفيقا، وتولاك بعنايته ورحمته.
مراكش، المغرب، الثلاثاء 17 رمضان
1435هـ/15 يوليوز 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق