الجمعة، 18 سبتمبر 2015

البراعة في إنشاد الشعر لدى الحاج محمد بنبين



                              عباس أرحيلة
                                

أولا: تفاعل مدينة مراكش مع مرحلة: 1930 – 1960م


عرف المغرب خلال هذه المرحلة تسلُّطٌ فرنسيّ، وخنْق لهُوِيَّة، وتطلُّعٌ لتحرُّر وطني، واستعادة كرامة. وكانت مدينة مراكش، شأن بقية الوطن، تدخلُ معترك مرحلة انتقالية تشهدها العصور الحديثة. وبثقلها الحضاري، وشدَّة وطأة المرحلة، كانت المدينة في تفاعلها مع الأحداث تعيش لحظة غليان وترقُّب. وقد عاصر المحتفى به، الحاج محمد بن عبد القادر بنبين، ما كانت تزخر به المدينة من أوضاع وملابسات، وما كانت تتطلَّع إليه من إعادة أمجاد، تستردُّ بها ما ضاع من وهَجِها الثقافيّ، وما كان يمور في حنايا أبنائها من مشاعر تناثرت في منتديات المدينة شعراً، تلاحقت فيه الأصوات وتكاثرت ومع الأيام تعددت وتنوعت.

(1) ازدهار حركة شعريَّة بمدينة مراكش حملت أصداء المرحلة بأحداثها السياسيّة والاجتماعيّة: الظهير البربريّ (1930) – قمع الحركة الوطنية (1937) – الوضعية الاجتماعيّة المزرية بمدينة مراكش نتيجة تفقير المغرب خلال الحرب العالميّة الثانية (1939 - 1944) – تقديم وثيقة الاستقلال (1944) - انطلاق حركة المقاومة، وبداية تحرير المغرب، واسترداد بعض ما ضاع منه ...
(2) ترسيخ القيم التعليميّة الحديثة في المجال المراكشي بإحداث التعليم النظامي بجامع ابن يوسف سنة 1939، وقد تولى تنظيم نظامه جيل من العلماء دخلوا به معترك العصر، وتفانوا من خلاله في الدفاع عن الثقافة الإسلاميّة وعن لغة القرآن. وجلجلت أصواتهم، في الجامع اليوسفي وفي غيره من بقية مساجد المدينة، تُذكر بعزّة الإسلام، وبسمو قيم الإسلام، وبثقافة أهل الإسلام؛ مما أعاد للجامع اليوسفي دوره الإصلاحيّ التاريخيّ الحضاريّ، ولمراكش حضورها في معترك العصر الحديث، ووزنها ضمن حواضر العالم الإسلاميّ.
(3)  استحداث المدارس الحرة التي حافظت على العروبة والإسلام، وغذَّت الحسَّ الوطنيّ في وجدان شبيبة مراكش آنذاك، وبثت روح المقاومة في كيانها، وجعلتها تتناشد أناشيد العزة في منتدياها، وتحفظها فتعطر دروب المدينة بأريجها، وبذلك فتحت المدارس الحرة الأنظار على التحولات التي كانت تعرفها المرحلة.
(4) مراكش تُصبح  قطبا جاذباً لكثير من أعلام المرحلة، فبالرغم من صَلَف المستعمر الفرنسيّ وتضييقه على المثقفين، ورغبته في طمس الهُوِيَّة وفرنسة العقول؛ فإن مدينة مراكش حافظت على كيانها، وبدأ جامعها اليوسفي يستعيد عنفوانه وقوته، وانتشرت الدروس والمحاضرات في جوامع المدينة، فقدم إليها  بعض العلماء، واختارها بعضهم لنشر العلم أو الوظيفة. من أمثال المحدِّث أبي شعيب الدكالي (1939)، والمحدث المدني بن الحَسني، ومحمد المختار السوسيّ.
 (5) قدوم محمد المختار السوسي إلى مراكش سنة 1929، يُعتبر حدثاً هاما في تاريخ مراكش في هذه المرحلة من تاريخ المدينة؛ إذ كان له بالغ الأثر في ازدهار الحركة الثقافيّة، ولفت الأنظار إلى العناية باللغة العربيّة، وتحفيز قرائح شبابها إلى قول الشعر. فقد حوَّل الزَّاوية الدّرقاويّة للوالد إلى مدرسة ومنتدى للثقافة وتدريب المواهب على قول الشعر وإنشاده.
 ( وأثر هذا الرجل في مدينة مراكش يحتاج من أهل هذه المدينة إلى وقفة للذكرى).
    (6) ظهور نخبة من العلماء والأدباء، تنوَّعت اهتماماتها، فمنها من كان من  يُعنى بتدريس العربيّة، ومنها من عمل على إشاعة السنة النبويّة في حلقات المساجد، والتذكير  بِسِيَر رجالات الإسلام، ومعالجة القضايا الفقهيّة، وهناك طائفة انشغلت بإحياء التراث العربيّ القديم بإشاعة شواهده وقيمه في المجالس والمنتديات.
     
 (1) حدثت طفرة في مجال الإبداع الشعري على عهد المحتفى به بمدينة مراكش؛ فقد ازدهرت الحركة الشعريّة، وتعددت ألسنة الشعراء وتنوعت على ذلك العهد. وبدأت القصائد الشعريّة تُلقى في الجلسات الخاصة والعامة، وبدأ التباري في قول الشعر وحفظه وإنشاده.
ومن آثار ازدهار الشعر في هذه المرحلة، تفتح علماء الجامع اليوسفي على الشعر خاصة، وفنّ القول عامة؛ إذ كان العديد منهم شعراء، وخاصة في فترة إقرار النظام.
وتُلتمس آثار ذلك الازدهار فيما شهدته المرحلة من كثرة الدواوين الشعرية، نشير إلى بعض ملامحها في الظواهر الآتية:
أ – ما يكشف عنه (معجم شعراء مراكش في القرن العشرين) ، وهو الكتاب الذي نشره أخيرا أخونا الفاضل الأستاذ أحمد متفكر، وهو معجم تدل محتوياته على عدد الشعراء الذين ازدهت بهم المدينة خلال الحقبة التي تبلورت فيها شخصية الحاج بنبين.
ب – ما طبُع من الدواوين  التي تنتمي إلى المرحلة:
- أحلام الفجر:عبد القادر حسن ( تـ1996 ).
- أشواط من أنماط: أحمد بن المحجوب حلمي ( تـ2001 ).
- نجوم في يدي: محمد الحبيب الفرقاني ( من مواليد 1922).
- سوانح الوجدان، وأشجان وألحان: ديوانان لعمر بوستة (1922) .
- خطرات ونظرات: ديوان المحجوب بن السالك ( من مواليد 1922).
  - أصداء نفس – أصداء شعرية من جراح الماضي وتباشير المستقبل: ديوان إبراهيم الهلالي ( من مواليد 1927).
 - تداعيات في محراب الذات: ديوان محمد بن سليمان أبو القاسم ( من مواليد 1938).
 - الحياة وأنا: محمد السعيدي الرجراجي ( من مواليد 1939).
 - ديوان مولاي الحسن العلوي بدور ( من مواليد 1940)، ذكر الأستاذ أحمد متفكر أن الجزء الأول منه تحت الطبع.
ج - جملة الدواوين التي سهر الأستاذ أحمد المتفكر على توثيقها وإخراجها ( أشرف الأستاذ أحمد متفكر على إخراج  نحو سبعة دواوين لها علاقة مباشرة بالمرحلة – مرتبة حسب ظهورها - : (1) من شعر أحمد النور المراكشي (تـ1945) – (2) من أشعار أحمد بوستة (تـ 1957) – (3) من أشعار أبي بكر الجرموني ( تـ 1989) – (4) ديوان مولاي إبراهيم الحاري (تـ1992) – (5) ديوان مولاي الطيب المريني (تـ1994) – (6) من أشعار أحمد شوقي الدكالي الفحلي (2001) - (7) ديوان عبد الرحمان الدكالي الصديقي ( 1983).
وهذه  دواوين لم تحظ بعد بالدراسات التي تستحقها.
د – ما أشار إليه الأستاذ أحمد متفكر في معجمه إلى الدواوين المخطوطة للشعراء الراحلين، من تلك الدواوين: محمد بن حسن الجبرائيلي ( تـ 1943، مات شابا، وأحرق شعره قبل موته) - ديوان الحسن التناني (تـ 1943) - ديوان التعارجي ( تـ 1959) – ديوان مبارك الغراس ( تـ 1996) –– ديوان السعيد أديوان ( تـ 1988) – ديوان الحسن الهزميري (تـ 2000).
 ومن الدواوين المخطوطة للأحياء  – ديوان مولاي الصديق العلوي
( من مواليد 1919) – ديوان الأستاذ أحمد خلاصة ( من مواليد 1919 - شعر مولاي الحسن عادل ( من مواليد 1925) – الهاشمي بن محمد الهواري ( من مواليد 1931) – ديوان أحمد الدباغ ( من مواليد 1934) – ديوان محمد السميج الأندلسي ( من مواليد 1937) – ديوان أحمد بلحاج بن محمد الشهيدي – ديوان محمد العدناني ( من مواليد 1938) – ديوان التهمامي بن محمد شهَيْد ( من مواليد 1939) -  ديوانان لمحمد بن عبد الله البايك ( من مواليد 1941) –
هـ - بلغت الطفرة الشعرية أوجها مع ظهور شاعر الحمراء، وهو شاعر ترددت أصداؤه في طبقات المجتمع المراكشيّ من ذلك الحين إلى الآن، كما ترددت أصداؤه في بقية بلاد المغرب، وكذا في بعض بلاد المشرق. ونظراَ لمكانة شعره لدى أدباء مدينة مراكش ، فإنه قد أقيم له حفل تكريمي بدار المنبهي سنة 1942. وقد تولى الأستاذ الفاضل أحمد متفكر جمع ذلك  وعلق عليه في كتاب بعنوان: (شاعر الحمراء في ألسنة الشعراء) – الطبعة الأولى سنة 2002. وحظي ديوان شاعر الحمراء بعناية خاصة من لدن المحتفى به، ومن لدن ابنه د: أحمد شوقي بنبين، كما ستتم الإشارة إلى ذلك.
ثالثا: الفقيه الحاج محمد بينن شاعر وراوية
(1) عاصر الحاج محمد بينبن تلك الطفرة الشعرية التي حدثت في مراكش، وكان من فرسان حلباتها، والحاضر في منتدياتها، والطائر الصداح في مجالسها، والعارف بأسرار أهلها، وبأخبار وطرائف شعرائها.
 (2) تعلق بالشعر وأحبه فانكب يحفظ عيونه، وجعله من ملذات حياته، ويبدو أنه أصبح في كثير من لحظات حياته لذته الأولى، يهتز نشوة لإنشاده، ويطرب لحظة إلقائه. كان يأنس به في خلوته، ويفزع إليه في كل شيء يطرأ على حياته.
(3) ومما عمَّق تعلقَه بالشعر صداقته لشاعر الحمراء، منذ أوائل الأربعينيات إلى حين وفاة الشاعر سنة 1954م. وكان شاعر الحمراء في أوج عطائه وشهرته، فارتبط الحاج محمد بنبين بصداقة الشاعر، وشُغف بشعره يحفظه ويرويه في المجالس والمنتديات، وظلت أشعار ابن إبراهيم تمور في وجدان بنبين إلى يوم الناس هذا. وكان المحتفى به ممن عملوا على ذيوع شعر ابن إبراهيم، واتساع شهرته، وانتشار شعره، بل كان ديوان شاعر الحمراء من أسباب التحاق المحتفى به بالقصر الملكي أستاذا وقاضيا ومجالسا للحسن الثاني من سنة 1968 إلى وفاته سنة 1999.
فقد حمل محمد بنبين أصداء شاعر الحمراء إلى مجلس الحسن الثاني، فانبثقت في ذلك المجلس فكرة جمع ديوان الشاعر، وفي بيت المحتفى به جُمع الديوان، واشتركت في جمعه ثلة من أصدقاء الشاعر ومحبيه والعارفين بشعره.
وقد رأيت هذه الثلة من العلماء ببيت المحتفى به منكبة على جمع الديوان سنة 1968م، وقد التحقتُ آنذاك صحبة ابن المحتفى به، أحمد شوقي بنبين بكلية الآداب بفاس، وتشاء عناية الله تعالى، أن يُجمع الديوان، وأن يظل بعيدا عن الأنظار، إلى أن يُصبح أحمد شوقي مديراً للخزانة الملكية فيسهر على مراجعة قصائد الديوان، والتحقق مما زيد فيه وما نُقص منه، وتم له ضبط قصائد الديوان، والتعليق عليها.  وصدر في طبعة ثانية  تزهو بإخراج علمي جدير بالتنويه، وبهذا فتح د. أحمد شوقي للديوان آفاقا جديدة لدراسة شاعرية شاعر الحمراء.
(4) وارتبطت حياة محمد بنبين بالشعر: وصادف تعلُّقه بالشعر ما وهبه الله تعالى من براعة في إنشاد القصيد، حتى شهد له الناس بالملكة في ذلك؛ فظل يصدح بالشعر العربي أينما حل وارتحل، ولم تزده الأيام إلا تألقا في منتديات الشعر، فكان غرة المجالس، ممن تلذ الأسماع بما يأتيه من أحاديث ومرويات، وممن تسحر طريقتُه في الإلقاء مشاعرَ جلسائه.
رابعا: رصيد جماليات اللسان العربي في التراث الإسلامي
 (1) رصيد لغة القرآن: شاءت عناية الله تعالى أن تكون آخر حلقة في سلسلة الوحي بلسان عربي مبين، وتكون أمة بني يعرب آخر من يستقبل وحي السماء. ولمَّا كانت هذه الأمة قد  خصَّها الله تعالى بالبيان بين بقية الأمم كان التحدي بمعاجزتها فيما تميزت به. وبتحمُّل العربية لكلام رب العزة، أضحت لغة كونية لها قوتها وأسرارها ونفوذها في الوجود. وكل مساس بها هو مساس بالناطقين ها.
وتعددت القراءات القرآنية وتنوعت، وجودتها القرائح والأصوات، منذ شع الوحي في الكون، وسارت في موكب علوم القرآن تعمل على تقريب معجزة الإسلام من الأذهان.
وجماليات الأداء في أساليب القرآن الكريم، جعلت العرب حين نزول الوحي، يتوهمون أن ما يسمعونه من القرآن هو من قبيل الشعر، يقولون هذا وهم أعرف الناس بحقيقة الشعر!
 (2) ارتباط حياة العرب بالشعر: ظل الشعر متنفسَ العرب في الوجود على امتداد تاريخهم؛ فصار مستودع علمهم. ويوم جاء الإسلام أُنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتناشده أصحابُه ين يديه. ووُضع في المسجد منبرٌ لحسان بن ثابت، شاعر الرسول، يُنافح فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) والأصل في الشعر العربي أن يُنشد في المحافل، ويُلقى بصوت مرتفع، فلا يُقال في لغة العرب إلا أنشد الشعر، وما النشيد في لسان العرب إلا الشعرُ المتناشَدُ بين القوم يَنشدُه بعضهم بعضاً إنشاداً، فالنشيد رفعُ الصوت بالشعر. وكل من رفع صوته ووالاه فصوتُه عند العرب غناء. وبإنشاد الشعر تبرز غنائيتُه ، وتنكشف جمالياته في التراكيب والإيقاعات، كما قال حسان بن ثابت، شاعر الرسول، صلى الله عليه وسلم:
تَغنَّ بالشِّعْرٍ، إمَّا كنْتَ قائِلَهُ،     إنَّ الغِناءَ بهذا الشِّعرِ مِضمارُ
 و الشعر العربي – كما هو معروف - يعتمد في بنائه الوزن والقافية، وأشكال التنغيم فيهما تأتي تبعاً لأبنيته ونظم مواده وصوره لتأدية المعاني. إلى جانب ما تحمله حروف العربية، كل على حدة، من أنغام وإيحاءات، وما تتميز به الحروف عندما تتقارب أو تتباعد في المخارج.
رصيد الفصاحة في بلاغة العرب: الأصل أن مبحث الفصاحة ظل حاضراً في تاريخ بلاغتها على امتدادا تاريخها إلى يوم الناس هذا. ومنذ أن تقرر قول الجاحظ في أذهان أهل البلاغة: " وأجود الشعر ما رأيتَه متلاحمَ الأجزاء، سهلَ المخارج، فتعلمُ بذلك أنه قد أُفرغَ إفراغاً واحداً، وسُبِك سبْكاً واحداً؛ فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" [ البيان والتبيين:1/ 67].
خامسا: ومحمد بنبين أنشد فأطرب وأمتع
(1) كانت المرحلة (1930 – 1960م) تعمها الأميّة، وتكبِّلها اللهجات المحلية، وتحاصرها اللغة الفرنسيّة، وتسعى الحماية أن تحجب عنها أصداء الثقافة المشرقيّة؛ فتحركت قرائح الشعراء المغاربة لإدانة سلبيات المرحلة، وانطلقت حناجر شعراء مراكش لتشخيص ذوات مكلومة، وتعرية أوضاع من العزة محرومة، وتتطلع ليوم تُستعاد فيه الكرامة المهضومة. وكان لسان المحتفى به يصدح بالقريض في المجالس والمنتديات. وأخبرني الأستاذ الكريم أحمد متفكر أن الأستاذ محمد بنبين كان يتناشد الشعر مع أحمد الشرقاوي إقبال، رحمه الله تعالى، وانهما كانا يلتقيان ليعرض كل منهما محفوظه على الآخر.
(3) كنتُ  صحبةَ شوقي ( ابن المحتفى به)، سنة 1968م، قد بدأنا ندرس الأدب العربي في فاس، وكنا أثناء العطل نجتمع للمراجعة، وكنا نحظى بالجلوس إلى المحتفى به،  ومما أثار انتباهي تلك الطريقة التي كان يُلقي بها بعض القصائد من الشعر العربي. كنت وأنا أسمع الشعر، وكأنه حين ينثال على لسان الأستاذ محمد بنبين  يأتي من عهود أهل الفصاحة.
كان الشعر ينهمر على لسانه انهمارا، وكانت ذاكرته تُسعفة بعفوية وتلقائية. جهارة صوته، وإتقان مخارج حروفه، وفصاحة لسانه؛ أشعرتني في تلك اللحظة بأثر علم التجويد في لسان محمد بنبين، وكأنه تمرس به حتى أتقن شروط الأداء فيه. ولم أعرف لسماع الشعر العربي طعما إلا يوم استمعت إلى المحتفى به وهو يُنشد الشعر، كما لم أعرف للشعر تنغيما خاصا إلا على لسان أستاذ الأجيال د. أمجد الطرابلسي، رحمة الله عليه، كما أني لم أعرف عذوبة إنشاد الشعر إلا يوم استمعت إلى أحمد الشرقاوي إقبال، رحمة اله تعالى. وتحدثت كتب النقد القديم عن أحسن الناس إنشاداً، وعن أبغض الناس إنشاداً ( كما كان هو شأن البحتري).
(4) وعلى امتداد ما أسعفني الحظ بالحضور إلى مجلسه، كان لسانه يزداد فصاحةً وحسنَ بيان، وكأن أعنة البيان بيمينه، يُحركها كيف شاء. ولعلي حين فكرت في الكلمة التي أقولها بهذه المناسبة، تذكرت كيف استمعت إليه وهو يُنشدنا قافية الأعشى بصوت تتوالى فيه القافات وكأنها تتهاوى وتتلاحق على لسانه، مع قدرة تنغيمها مع الحروف التي تواكبها في الإيقاعات. ولا أنسى دالية  شاعر لبنان المرحوم رشيد المصوبع في باشا مراكش، وهي قصيدة يرجع تاريخها إلى سنة 1923، وهي تقع في مائتين وثلاثة وثلاثين بيتا ( طبعت بمصر سنة 1937).
                          دَعْ كلَّ شعرٍ غابرٍ وعتيدِ      وخُذِ البَدائعَ مِنْ يَرَاعِ رَشِيدِ
(5) وبراعة الحاج محمد بنبين لا تتوقف عند طلاقة لسانه، ونطقه الصحيح وإخراجه للحروف طبقا لأداء قواعد النطق السليم، بل تراه يجعل الأصوات تتماثل مع المعاني، وتتعانق لتصبح من وسائل الفهم والإفهام. وفي فورة الإلقاء، يُجلجل الصوت، فيذكرك بجمالية لسان العرب وقوته وشموخه، وجمالية الشعر العربي وروعته وتدفقه، وما يحمله من قيم إنسانية تجعله من التراث الإنساني العالمي؛ فيحبب إليك العربية ويُقربك من سموها، ويُشعرك بضرورة الاعتزاز بها، وضرورة التفاني في حبها والتعلق بها. وصوته، حين يعلو ويندفع، وحين يرق ويخفت، تجده يُشيع في الجو غنائية الشعر العربي، وجمال اللسان العربي.
(6) ومما يلاحظ أن مجلسه كان يضم أحيانا من لا يُحسن العربية ، وممن لا علاقة لهم بالشعر، فتراهم  يقبلون على الاستماع وكأنهم يفهمون كل ما يتفوه به. كانت طلاقة لسان الفقيه تشد انتباههم، وجرس الحروف وتناغم الألفاظ يدعوانِهم إلى فهم ما يسمعون، وقد يوحي انتباهُهم أنه لما يقوله يَفهمون، وبمعانيه عارفون. ويُصبح إلقاء الفقيه يحمل إثارة للمزيد من سماع الشعر، وكأن ذلك الإنشاد يُحقق متعة تحمل تعلما وترفيها، وتنطوي على سحر للكلمة لا يُعرف أصلُه. وكأن غاية محمد بنبين من الإنشاد أن يُذوب القصيدة في وجدان من يسمعها، وأن يحفرها في ذاكرته.
(7) ولعل براعة إنشاد الشعر في المنتديات في تلك المرحلة من لدن طائفة من أمثال محمد بنبين، لم تكن غايتها أن يُقبل الناس على قراءة الشعر العربي، وأن يندفعوا إلى حبه وتذوقه؛ بل كانت أصواتهم تنساب في الأثير لإحياء اللغة العربية، والتذكير بأمجادها في هذه الربوع. إن طُرُق هذه الطائفة من الشعراء في الإنشاد لم تكن غايتها الدعوة إلى العناية بلغة القرآن وبقيم الثقافة العربية فحسب، بل كانت تهدف في العمق إلى الدفاع عن العربية في وجه فرنسة اللسان والعقل والوجدان. كانت دعوة إلى حماية العربية، وما كان يحمله العصر من دعاوى تهدف إلى إقصاء العربية من معترك العصور الحديثة.
أما من كان من أهل الأدب في مجلسه فإنه يستقبل الشعر منه وكأنه من محفوظه.
 (8) والمثير في إلقائه أنه ينساب من خلال حافظته، وينساب من بين شفتيه وكأنه يقرأه من صحيفة، وبتنغيمه لما يُنشده كأنما يستحضر معانيه لتنعكس في مسامع جليسه، فيتأثر بها، ويُشارك المنشد في تذوقها والالتذاذ بها والاستمتاع بها. وقدرته على تمثله لمعاني لما يُلقيه من شعر، تجعل المستمع إليه وكأنه يُشاركه في تذوق معانيها، وكأنه يحفظ ما يُلقى عليه.
وفي نهاية هذه الكلمة أقول إن ما يتمتع به الفقيه من براعة إنشاد الشعر، جاء نتيجة  نشأته في مناخ شعري كانت تزدهي به مدينة مراكش في أواسط القرن العشرين، وجاء نتيجة حبه للشعر العربي وتعلقه به، وحفظ الكثير من عيونه، وإلى كثرة سماعه للشعر وحضور مجالسه وتعلقه بشاعرية شاعر الحمراء، وصداقته له، ونتيجة جهوده في قرض الشعر، وجاء، كذلك، نتيجة ملكة وهبه الله إياها في إنشاد الشعر. ولا ننسى أن للرجل مشاركات في نضم القريض لم تحظ بعدُ بالجمع والتدوين إلى هذه اللحظة، ولعل هذه المناسبة تجعل المشرفين على تنظيم هذا اللقاء يضمون أشعار المحتفى به إلى مجمل الكلمات والشهادات التي ألقيت وستلقى بمناسبة هذا التكريم.
ومن المحزن اليوم أن براعة إنشاد الشعر مثل ما نجده لدى الحاج محمد بنبين، ولدى طائفة من جيله، ما عدنا نجدها في منتديات الشعر بنفس المستوى، فما عادت للقراءات الشعرية جاذبية إلا في أصوات قليلة مثل ما نجده في إنشاد أحمد آيت وارهام؛ أحد أعلام الشعر في العالم العربي.
وإن كان لي من شهادة فإني أقول إن الحاج محمد بنبين كان الصوت المدافع عن مدينة مراكش في قصر الحسن الثاني لمدة تقرب من ثلث قرن، فكم كان له من فضل في توجيه النظر إلى ما ينفع المدينة، ويرفع من شأن بعض سكانها.
وفي الأخير أدعو  للمحتفي به؛ الحاج محمد بينبن بالصحة والعافية، وأقول له لقد عطرت الرحاب بأريج القريض، وأنشدت فعلمت الحاضرين كيف يكون الإنشاد و النشيد. وكنت نموذج الرجل المراكشي على امتداد حياتك بين مراكش والرباط. أهنئك بهذا التكريم، وأهنئ أسرتك الكريمة، وأهنئ أنجالك، أهنئ الأستاذ الفاضل نجيب بنبين نابغة العلوم السياسية، وأخي الأستاذ الفاضل أحمد شوقي بنبين، نابغة علم المكتبات، مدير الخزانة الملكية، الذي ظل محل تقدير ومحبة من أهل مراكش، ولم تزده الأيام – بفضل الله تعالى- إلا تألقاً وإنتاجا في مجالات البحث العلميّ.
                                              والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
ملاحظة:
(ألقيت هذه الكلمة بمناسبة تكريم الفقيه الحاج محمد بنبين بمؤسسة البشير بمراكش، سنة 2005م، ونشرت ضمن كتاب يحمل عنوان: أعمال مهداة إلى العلامة محمد بنبين – ط1[ المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2005م]. اللجنة التنظيميّة:  عبد العزيز التوري – مصطفى الشابي – أحمد شحلان – أحمد متفكر).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق