الأستاذ أحمد متفكر
عباس أرحيلة
تمهيــد:
الأستاذ أحمد متفكر، ذلك الإنسان الوديع، صاحب القلب
الذي يسع مدينة مراكش بأحوالها وتقلباتها، ذلك الباحث الهادئ، الذي شغفه حبها
فتناسى ما عداها؛ فظل في مناجاتها؛ يتغنى بأمجادها، يحمل همومها، ويعمل في صمت من
أجلها...
أولا: أحمد متفكر الإنسان
ينحدر الأستاذ أحمد متفكر من أسرة فيلالية لها عراقتها
بمدينة مراكش، وبالرغم من ولادته ونشأته بهذه المدينة ظلت الطبيعة الفيلالية بادية
في شكله وفي سحنته، وظلت لهجته شاهدة على أن اللهجة المراكشية متأثرة باللهجة
الفيلاليّة، ويبدو أن لهجته تأثرت بلهجة والده أحمد الفيلالي، ولا أدري نصيب
الوالدة من ذلك. ومن آثار فيلاليته طويته السليمة وحبه للعمل في صمت دون ادعاء أو
افتعال، وتفانيه في حب العلم وخدمة أهله والمداومة على زيارتهم ومجالستهم، إلى
جانب ما يتسم به شخصه من تواضع وعمق إنساني، وطبيعة هادئة، وروح مرحة مع انشراح
دائم شأن من يتحمل أعباء الحياة بصبر وإيمان.
ومما تميز به الأستاذ أحمد متفكر أنه ظل طيلة حياته
حريصاً على استقلاله الشخصيّ، حرّاً في تفكيره، بعيداً عن الحزبية الضيِّقة، وعن
الإيديولوجيات التي تنامت في مدينة مراكش في فترة السبعينيات من القرن الماضي من
تاريخها؛ فظل بعيداً عنها، وتعامل مع أصحابها، ظاهريا، بفطرته المعهودة، وفي العمق
كانت له رؤيته العميقة لمسار الفكر المغربيّ الحديث.
ورأيت فيه إنساناً يعمل في صمت، بالرغم من معرفته
الدقيقة بكل ما يجري حوله في مدينة مراكش. ومن خلال معاشرتي له وجدته يحسن السكوت،
ويحسن الاستماع، بل تجده أحيانا من أهل بلاغة الصمت! أما حين تدعو الحاجة إلى
الكلام، من أجل إبداء رأي، أو المشاركة في نقاش، أو تصحيح معلومة؛ فإنك تراه ينطلق
متحدثا وكأنه لم يعرف الصمت طريقا إليه!
أما أسلوبه في الكشف عن بعض الحقائق التي تثار في بعض
المجالس؛ فإنه يبرهن عما يراه هو الصواب من خلال خبرته الخاصة بالموضوع، وحين يبدي
رأيه في قضية ما، أو يصحح فكرة ما؛ يشير إلى ذلك دون أن يشعر من يخالفه الرأي
بوجهة نظر تناقض ما ذهب إليه صاحبه؛ إلا إذا كان صاحب الرأي ممن ألف معهم الحديث
في موضوعات شتى تتعلق بالقضايا الفكريّة والتاريخيّة والاجتماعيّة، وخاصة ما يتعلق
منها بمدينة مراكش.
ورأيت كثيرا من المراكشيين يعرفونه، ويسلمون عليه باحترام
وتقدير، ويتحدث إليه بعضهم وكأنه من أفراد أسرته.
وحين عرفت الأستاذ أحمد متفكر، وجدته هادئا في طبعه،
صادقا في مشاعره، محبا للعلم وأهله، وفيا في مودته، مخلصا لما هو مقتنع به، لا
يبخل على جلسائه بمعلوماته وبما يحمله في ذاكرته من مواقف وطرائف وملاحظات، وما
خبره من تجربته الطويلة، ووجدته يسوق ملاحظاته وانطباعاته وتعليقات بإيجاز ودقة
وحيوية.
ثانيا: أحمد متفكر العاشق لمدينة مراكش
يبدو أن تعلق الأستاذ أحمد متفكر بمدينة مراكش كان منذ
صغره، وأنه خبر أحوالها منذ نشأته الأولى، فهو يستحضر تلك الأحوال وكأنها جزء من
كيانه، وكأنها ما تزال تتخايل وتتراقص بين عينيه.
وفي حديثه عن مدينة مراكش تحسُّ وكأن الرجل يريد أن
يشعرك أن حبه لمدينة مراكش لا يضاهى، أو قل لا يضاهيه فيه أحد إلا قلة من ساكنة
المدينة، وقليل ما هم اليوم. وينكشف عشقه هذا من خلال خدمته التي لا تنقطع لهذه
المدينة. ولم أجد من أهل مراكش أحدا أوقف جهوده للتعريف بالحاضرة المراكشية ماضياً
وحاضراً إلا التعارجي وأحمد متفكر!
فهو يحب مراكش، ويدافع عنها، ولا يقبل أن يقال فيها ما
ليس منها، ويتألم لما لحق بها من مسخ لتراثها وقيمها وما لحق معالمها التاريخية من
آثار عمرانية ومن رياضات ومنتزهات...
ودفاعا عن أمجادها؛ أرخ لها في كتاب جمع فيه ما قيل فيها
من أشعار( مراكش في الشعر العربي)، 1993، ووضع كتابه (شاعر الحمراء في
ألسنة الشعراء)، 2002، وكتابه( معجم شعراء مراكش في القرن العشرين)،
2004، وله: (نظم القوافي في الباشا الكلاوي)، 2007. كما أنه جمع دواوين
أكثر شعراء مراكش في العصر الحديث.
وعرف بمساجدها في كتابه: (مساجد مراكش) طبعتان:
(2004،2005)، وتناول قضاتها في كتابه ( من قضاة مراكش من العصر المرابطي إلى
الاستقلال)، وتناول خطباءها في كتابه:( من خطباء الجمعة بمراكش من
العصر المرابطي إلى الاستقلال)، وشارك د. حسن جلاب في تحقيق كتاب (السعادة
الأبدية في التعريف برجال الحضرة المراكشية)، 2002.
وعرف بالجامعة اليوسفية العريقة، وترجم لشيوخها في كتاب (علماء
جامعة ابن يوسف في القرن العشرين) -2006- وجمع (مقالات ومحاضرات الرحالي
الفاروق) -2000،2098-؛ رئيس الجامعة اليوسفية.
ولما كانت جهود الرجل قد أوقفها على التعريف بمدينة
مراكش؛ فإنه بذل قصارى جهده في حديثه عنها من وجوه كثيرة في مجالات عديدة، منها:
ما كتبه في الموسوعات: - موسوعة أعلام علماء العرب التي
تشرف عليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومعجم البابطين، ومعلمة
المغرب.
وما كتبه من مقالات في كتب مشتركة، وما جاء في المجلات
والصحف.
وفي المجال الإعلامي المسموع، نجد الأستاذ أحمد متفكر قد
أسهم في المجال الإذاعي بحيويته وخبرته المعهودتين في كثير من البرامج الإذاعيّة
الوطنيّة والدوليّة، في تقديم مراكش في حلة من أمجادها العلمية والثقافيّة، وكان
في مجمل تلك البرامج الصوت الذي يمثل مدينة مراكش ماضياً وحاضراً.
وما تزال إذاعة مراكش في ذاكرتها إسهاماته في الكشف عن
مآثر المدينة من خلال تراثها المعماري، وتراثها الأدبي الفني. والإذاعة الوطنية
وكذا إذاعة طنجة تشهد كل واحدة منهما بما أمتع به المستمعين وما قدم لهم من إفادات
تاريخية وفكرية حول مراكش ورجالاتها.
أما في المجال المرئي، فإلى جانب التلفزة المغربية، حملت
فضائيات شرقية متعددة برامج من تاريخ مراكش ماضيا وحاضرا، كان القول فيها للأستاذ
أحمد متفكر. وقد عرف المراكشيون خاصة والمغاربة عامة الأستاذ أحمد متفكر من خلال
برنامج (ذاكرة المدن) في التلفزة المغربية -15 حلقة -.
ثالثا: أحمد متفكر ذاكرة مراكشية متحركة
نتيجة عشقه لمدينة مراكش صار هذا الرجل خبيرا بالنسيج
الاجتماعي لمدينة مراكش، عارفا بأوضاعها وما عرفته أسرها القديمة من تحولات في
السنين الأخيرة: تحولات في بنياتها وتطوراتها الداخلية وتفرقها في الأحياء الجديدة
خارج أسوار المدينة القديمة!
إذا ذكرت أسرة في مجلس من مجالس أهل مراكش، وكان أحمد
متفكر من جلسائه؛ تحس كأن الرجل يحمل التاريخ الاجتماعي لمدينة مراكش على امتداد
العصر الحديث، أما خبرته بتسلسل الأسر على امتداد مراحل فهو ما يدعو إلى الإعجاب
بذاكرة هذا الرجل، فتراه يقف معك عند الشخص الواحد فيذكر لك أصوله وفروعه على
طريقة علماء النسب. وأنا أعتبره نسّابة مدينة مراكش. فلا غرابة أن يكون له ولع
بموضوع التراجم عامة، وتراجم رجالات مراكش من القضاة وخطباء المساجد والمتصوفة
والزهاد، مع عنايته الخاصة بعلماء المدينة وشيوخ الجامعة اليوسفية. وقد أضاف إلى
كتاب (الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام) للتعارجي، ما يقارب 500
ترجمة لأعلام حلوا بمدينة مراكش، وهو عمل لم ير النور بعد. وستنكشف من خلال عمله
أسماء الأعلام الذين عرفتهم رحاب مدينة مراكش في ملابسات خاصة ولأسباب مختلفة.
فالأستاذ أحمد متفكر ذاكرة مراكشية تتحرك، وإليه تتجه
الأنظار حين تدعو الحاجة إلى الحديث عن قضية ما تخص مدينة مراكش، وهو من خيرة من
يتصدون لقضايا تاريخ مراكش ورجالاتها وعاداتها القديمة والحديثة بخبرته المعهودة،
وتجده حين يتحدث عنها يعرض لها بشكل مباشر، وبصورة تلقائية ووضوح دون ادعاء.
وللرجل اطلاع واسع على الحركة العلمية بالمدينة، وعلى
معرفة برجالاتها، وما شاع بينهم من اجتهادات ومواقف في ظروفهم التاريخية.
رابعا: أحمد متفكر مؤسسة بمفرده
كان من خيرة الباحثين الذين عرفوا بالحركة العلمية
بمراكش، ومن خيرة من كانت لها عناية بوثائقها، وممن يعملون على جمعها وتدوينها،
وتقديمها إلى الباحثين عنها. وهو يدأب على جمع المخطوطات والوثائق الحديثة، ويعمل
بصبر على صيانتها من الضياع.
فقد رأينا كيف أنه جمع الأشعار التي تتغنى بجمال مراكش،
وعني بجمع دواوين شعراء مراكش، وتحمل في ذلك ما تحمل من عناء، وتماطل وتسويف من
أصحاب الوثائق، ولولاه ما عرف القراء تلك الآثار!
من كان يعرف شرف أحمد النور المراكشي -1990- وأشعار أبي
بكر الجرموني -1996- وديوان مولاي إبراهيم الحاري -1998- وديوان مولاي الطيب
المريني -2000- ...؟
وبفضل هذا الرجل تمت صيانة كثير من الآثار من الاندثار
والضياع. وبفضله نشرت أعمال ما كانت لترى النور لو تولت نشرها مؤسسة ما! ويمكن أن
أقول إن الأستاذ أحمد متفكر مؤسسة بمفرده في مدينة مراكش!
وبدون أمثال أحمد متفكر لا تستطيع مدينة مراكش أن تحتفظ
بشيء من ذاكرتها!
ولن ينسى التاريخ ما قدمته المطبعة والوراقة الوطنية،
بالحي المحمدي – الداوديات- من مساعدات في طبع هذه الأعمال، وما كان لصاحبها الحاج
محمّد بنمنصور من جهود وأفضال في نشر التراث المراكشي.
ماذا أقول في ختام هذه الكلمة؛
أحمد متفكر ريحانة مدينة مراكش، ذاكرتها، طبيعتها
وحيويتها. روح سارية في وجدان المدينة؛ شعارها التضحية وحب الناس، وإخراج ما يمكن
إخراجه من تراثها... ومن المؤسف أن الأعمال التي قدمها لم تنل ما تستحقه من عناية
في أعمال جامعيّة...
كان ممن أسعدني الحظ بمعرفته في مدينة مراكش؛ وممن
استفدت من أعماله ومواقفه؛ كان نعم الأخ، ونعم الصديق؛ شجعني على نشر أعمالي، وكان
بجانبي لحظات طبعها، وقضيت معه ساعات من حياتي كانت كلها إفادات وذكريات.
عشتَ أخي أحمد
ذلك النموذج من المثقفين الوطنيين الدؤوبين على البحث، هنيئا لمدينة مراكش بك. دمت
خيِّراً، فاضلا، صافيَ الروح...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق