حين تصبح التربية ثقافة
وموقفا
عباس أرحيلة
تمهيد:
تحية تقدير وإكبار للمشرفين على أنشطة جمعية متقاعدي
التعليم بولاية مراكش، وتحية إلى كل أعضائها. أهنئكم على هذه الالتفاتة الطيبة
لتكريم واحد من رواد التربية والتعليم، وأحد رجالاتها ممن تفخر بهم مدينة مراكش،
وممن تركوا بصمات في مسارها التاريخي، وخاصة في اللحظات الحرجة من تأسيس رؤيتها
التربوية. وستكون مشاركتي بكلمتيْن الأولى حول المحتفى به، والثانية حول الفكر
التربوي عنده.
كلمة عن المحتفى به
الأستاذ محمد أبو قاسم، المكرَّم المحتفى به، من الظواهر
المثيرة للانتباه في مسار رجالات التربية والتعليم بمدينة مراكش، منذ استقلال
المغرب إلى يومنا هذا؛ بسبب حضوره الفعال في منتديات التربية، ومشاركاته القيمة في
اللقاءات العلميّة، وبسبب ما نشره من أعمال، وما هو في طريقه إلى النشر، بما ينمّ
عن كون شاعراً ومؤرخاً ومفكراً إسلاميا، وصاحب رؤية في مجالات التربية والاجتماع
والسياسة.
وأجد في كل ما
قرأت له رجلا صاحب رأي وصاحب موقف، يحمل هموم فكر مناضل أصيل يتسم بنزعة إصلاحية لشؤون المغرب وقضاياه
المعاصرة، ويتميّز بالوضوح والصفاء وبالغوص من الروح المغربية الوطنية في أنقى
تجلياتها، وفي كل أبعادها الإسلاميّة العربيّة في معترك حياتنا المعاصرة.
المحتفى به المكرم هو الأستاذ المربي الشامخ
بحضوره؛ تنظيراً وتطبيقاً، المثقف الذي دلت أعماله على سياحة في الفكر الإنساني
عامة، وفي أحوال المغرب خاصة، بنظر ثاقب وروح متوثبة نحو الإصلاح، ونزوع نحو
معانقة قضايا العصر وهمومه.
المحتفى به أبو
قاسم باحث له اطلاع واسع، ورؤية خاصّة لمسار الحضارة الإسلاميّة، باحث متمكِّن من
أدواته في مواجهة أحوال العصر سياسيّاً واجتماعيّاً وتربويّاً؛ كما هو واضح من
خلال كتُبِه الآتية: الأمة العربية والألفية الثالثة (2002م) وفي الفكر والسياسة
(2008م). وموقف المثقّف.
أولا: محمد أبو قاسم الشاعر: هو بحر يمور شاعرية
ًمسكونةً بعمق تجربة هاجسُها المعاني السامية في الوجود البشريّ، ومن ورائها خزّان
ذاكرة حافظة لعيون الشعر العربيّ. الأستاذ أبو قاسم تجربة شعريّة آمل أن تنال حظها
من الدراسة، من خلال ديوانيْه: تداعيات في محراب الذات، وأوراق الخريف
(وستظهر إن شاء الله تعالى خلال شهر رمضان المقبل، تجربة نجد فيها المحتفى به شاعراً وباحثاً ومحقِّقاً).
ثانيا: محمد أبو قاسم صاحب رؤية في البحث التاريخي؛ لها
مظاهرُ ثلاثة؛ أولُها: رصْدُه للتجربة التاريخيّة للمغرب عَبْر تتبعه لأحوال الجيش
المغربي في تفاعلاته داخل المغرب وخارجه، من خلال كتابه الرائد في مجاله: (التنظيم
العسكري في الدولة المغربيّة).
وتجلّى مظهرها
الثاني في محاولة المحتفى به لمقاربة رائدة لأحوال المقاومة المغربيّة وما تنطوي
عليه من أسرار، في كتاب بعنوان: (الحركة الوطنية في المغرب نقط على الحروف)،
وندعو الله عز وجل أن يبارك في صحته حتى
يخرج هذا العمل إلى النور، في أقرب الآجال.
ويتمثّل المظهر
الثالث والحاسمة من هذا المنحى التاريخي في فكر صاحبنا المكرَّم؛ في مشروع طموح
جدّاً يريد من خلاله أن يرصد الأبعاد الاجتماعية للتاريخ الإسلاميّ من خلال التراث
بمناحيه المختلفة؛ وهو عمل ظل يؤرِّق صاحبنا منذ زمن طويل، وأنجز منه ما أنجز، وإن
ْكُتِبَ لهذا العمل أن يرى النور فستكون له الريادة في بابه، ويكون نسيجَ وحدِه في
تاريخ التأليف في الثقافة العربيّة. أمّا العمل في ذاته، فمما لا تستطيع اقتحامَه
المؤسساتُ ذات الأرصدة.
ثالثا: محمد أبو قاسم صاحب رؤية إسلامية بثها في
كتابيْه: مفهوم الوسطيّة في الإسلام، والإسلام هذا الدين المفترى عليه.
رابعا: محمد أبو قاسم صاحب رؤية سياسية حملتها كتُبُه
الثلاثة: في الثقافة السياسية تحديد المصطلح، وفي الفكر السياسي، والأمة العربية
والألفية الثالثة.
وكل جانب من هذه الجوانب الأربعة يحتاج إلى وقفة من
الباحثين في فكر هذا الرجل، أمّا ما تختزن ذاكرة المحتفى به من معلومات وإفادات عن
مدينة مراكش وبيوتاتها بخلفياتها الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية؛ فممّا لا
يمكن النفاذ إليه، وسيكون مصيره الضياع.
كلمة عن مفهوم المكرّم
للفكر التربويّ
ورد مفهومه للفكر التتربويّ في تناوله لـ(لفكر التربوي
للمختار السوسي) ضمن كتابه ( في الفكر السياسي)[1].
ومنطلقه في تحديد المفهوم أنَّ التوجيهَ التربويَّ أساسُ كلِّ إصلاح في حياة
الإنسان. فعن قناعة بما يؤمن به يقول أبو قاسم:" إن التربية هي البنية الأساس
لتكوين إبستمولوجي وسوسيولوجي", وبخضوع قضية التربية في الفكر الإنسانيّ للدراسة السيكلوجية والبيداغوجيّة،
وانسياقِها في إطار التجربة والقياس؛ يرى أبو قاسم، أنه لا يمكن للتربية أن تتسم
بالنِّسبيَّة، أو تقبَلَ بأنصاف الحلول؛ إذ التربية قضية مصيرية ترتبط وجوداً
وعدماً بالتجربة البشريّة على الأرض.
وبحثا عن تطوّر تلك التجربة في التاريخ البشريّ، كانت
حصيلة فطرة الله التي فطر الناس عليها، في نزوعها الاجتماعيّ، وما رافقه من نموّ
في مدارك الإنسان ورغبته في تنظيم السلوك البشري وتوطينه نحو القيم، مع الإحساس
بضرورة توجيهِ ذلك السلوك نحو الأفضل والأحسن، وحمايتِه من الانحراف وتقنينه في
ضوء مقتضيات ما جدّ من علم ومعرفة.
ولاحظ أبو قاسم أن البشرية في ضوء مخزونها المعرفي، وما
أنشأته من أعراف وتقاليد؛ رأت ضرورة الالتزام بالحفاظ عليها؛ فسنّت القوانين
لحمايتها؛ "وكان الباعثُ – يقول أبو قاسم - على ذلك الشعورَ بإمكانية التطوّر
نحو الأحسن، وإمكانيةِ الحفاظ على المكتسبات والاستفادة منها مستقبلا. وصحِب
الإحساسَ بتحقيق النتائج إصرارٌ على الحفاظ على هذا الفكر"[2].
من هنا يصبح الفكرُ التربويُّ حقيقةً تاريخيّةً عرفت
مساراً تطوريّاً في معترك التجربة الإنسانيّة، ولأهمية ما راكمه ذلك الفكر من
تجارب؛ تولّد ذلك الإصرار على الحفاظ عليه، حسب تعبير المكرَّم.
ولمَّا كان الفكر التربوي ممّا أسهمت البشرية قاطبة في
إنشائه وبلورته والدفع به قُدُماً؛ وجد أبو قاسم أنّ لكل أمة وِجهةً مخصوصة في
رؤيتها التربويّة؛ تبَعاً لطبيعتها ولوضعها الحضاريّ؛ يونانية كانت أم صينية أم
هندية، أم غير ذلك.
وهنا أثار الباحث المكرّم قضية جديرة بالتقدير والنظر،
حول ما يمكن أن يقع في الفكر التربويّ من تغييرات نتيجة ما قد تشهده ظروف أيِّ عصر
من تحولات وتطورات.
يقول محمد أبو قاسم: "ومن الملاحظ أن الفكرَ
التربويَّ ينمو ويتطوّر في الفترات التي يقع فيها تغييرٌ اجتماعيٌّ أو نهضةٌ
اقتصاديّةٌ أو انقلابٌ صناعيٌّ، أو حتّى أزمةٌ سياسيّةٌ؛ لأن المؤثِّرَ فيه هو
توجُّهاتُ الأمّة أو الجماعة. ومن أكبر الموجِّهات أيضاً التوجُّه الدينيُّ أو
الأيديولوجيُّ، وكذا الأمانيُّ القوميّةُ أو الوطنيّةُ؛ فهذه في الغالب هي التي
تحدِّد مستوى الأهداف المتوخاة"[3].
وتقديراً منه لدور سلطة المربي في الفكر التربوي،
والعمليّة التربويّة؛ جعل منه القائد الذي يتولّى التحكُّم في مسار التوجيه،
والبوصلة في تقويم السلوك، وتحديد القيم السامية في المجتمعات الناهضة. وتأكيداً
منه على مسؤولية الفرد في توجيه الجماعة؛ حمّله الإحساسَ بالهدف من الفكر التربويّ
"بترسيخه في نفوس من يتعهّدهم، وتطبيقِه من قِبَلِ مَن يوجِّههم"؛
منبِّهاً إلى أن تلك الفردانية لا تعني وسم الفكر التربوي بالانغمار في ذاتية
الفرد والوقوع في فوضى النظر؛ إذ "عملت الأمم على التنسيق بين وجهات النظر،
واتخاذ الرأي المحقق للأهداف"[4]، حسب
تعبير المحتفى به.
وبالرغم من أهمية التنسيق بين وجهات النظر في القضايا
التربوية؛ إلا أن المكرّم يرى أهمية الرؤية الفردانية في هذا المجال، كما تمثلت في
نُظَّار الفكر التربويّ على امتداد التاريخ. يقول الأستاذ محمد أبو قاسم:"
لكن الذي تجب معرفتُه هو أن الثروة المعرفية في مجاله هي خلاصة تجارب فردية،
ونظريات هي نتاجُ مخاض، وبحثٌ نظريٍّ قام به رجال وُهِبوا من القدرة والملاحظة
والاستنتاج قدْراً جعلهم يتميّزون عن العامّة، ومكّنهم من طرح وجهات نظر برهنت عن
نجاعتها بعد التطبيق؛ فعلوم التربية من أول عهدها هي خلاصة فكري فرديٍّ
ابتداءً"[5]
ويعتبر الأستاذ محمد أبو قاسم أن ما شهدته الإنسانية من
تطورات؛ كان نتيجة اهتمامها بالفكر التربويّ، وتزايد عنايتها بالعلوم ذات الارتباط
بالكائن الإنساني، من كل جوانبه البيولوجية والنفسية والعقلية والاجتماعية وغيرها
وأتمنى في الأخير أن تكون من بركات هذا التكريم انطلاقةُ
جمعيتِكم الثقافية والتربوية للقيام بوضع معجم بأسماء رجالات التربية والتعليم في
هذه المدينة العتيدة؛ وفاءً وتخليداً لأعلامها.
ملاحظة:
كلمة بمناسبة تكريم محمد أبو قاسم بتاريخ 17 يونيو 2014م
بكلية اللغة العربيّة من لدن جمعية متقاعدي التعليم بولاية مراكش.
[1] - الفكر
التربوي للمختار السوسي، ضمن كتاب: في الفكر السياسي، تأليف: محمد أبو قاسم
- ط1[ المكتبة والوراقة الوطنية، مراكش،
2008م] ص 187 - 210 ، مشاركة له مؤرّخة بـ 01/11/1997م - (ملحوظة: من فضائل المؤلف
وكرمه أنه ظل ينشر كتبه بالمجّان).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق