عباس أرحيلة
تمهيد:
النص القرآنيّ منهج محروس بمعجزة بيانيّة، لا تُدرك
مقاصدُها وأبعادُها إلى بمعرفة أسرار الأداء البيانيّ فيها. ومن ثم كان القول
بالأعجاز لخصائص في نظم القرآن أهمّ المناهج عند المفسرين والبلاغيِّين ودارسي
الأعجاز. واحتل النصُّ القرآنيّ القيمة الفنِّيَّة الأولى في اللغة العربيَّة،
وظلت قضية الأعجاز تقوم في جوهرها على تمثل المناحي الجماليّة في ذلك النصّ
المعجز.
وفي العصر الحديث دعا الأستاذ أمين الخولي وجماعة من
تلامذته ومريديه إلى بلورة اتجاه في التفسير الأدبيّ للقرآن الكريم.
فماذا عن هذا المشروع ؟ وماذا عن منهجه وآثاره؟
أولا: استمرار الرؤية الفنيَّة
للنصِّ القرآنيِّ في التاريخ
مقاصد الخطاب في النصِّ القرآنيِّ لا تدرك إلاّ
بمعرفة لغة القرآن وطرائقه في الأداء البيانيّ. ونزول النصّ باللسان العربيّ
المبين اقتضى أن تدرك حقيقة الوحي فيه من خلال لغته. ودُعِيَ المسلمون من أول فترة
من نزوله إلى تدبره باعتباره آخر رسالات السماء إلى الأرض. والمصدر الأول للحقيقة
في الإسلام فضلَّ القرآنُ مَحَطَّ أنظار المسلمين وعنايتهم؛ يتدارسونه ويتعمقون
قضاياه. وقد اهتمَّ علماء العربيّة بجماليات النصّ القرآنيّ، فتتبَّعوا أسرار
بلاغته فيه وكشفوا عما يتميز به أسلوبه من ثراء وخصوبة في مناحي القول، مما جعل
منه منبعاً متجدِّداً ينفذ إلى أعماق النفس فيشيع فيها حركة الحياة.
فقد استمرَّت العناية بالبلاغة القرآنيَّة في
التاريخ الإسلاميّ، ولم تنقطع يوماً، وقد تخفت حينا في بعض كتب التفسير، غير أنها
ظلت متوهِّجة في التراث البلاغيّ وكتب الإعجاز خاصة. وإن المتتبع للدراسات
النقديّة والبلاغيّة في التراث العربيّ يجد أن دراسة الخصائص الأسلوبيّة للنصّ
القرآنيّ، قد أفادت تلك الدراسات وأثْرَتْها بنظراتها وتأملاتها. وأرى أن محاولة
أدراك المعجز في العبارة القرآنيّة قد هيأت الأذواق والأفهام لتقويم التجربة
الفنيّة الإنسانيّة. وتعدَّدت قراءات النصّ القرآنيّ في العصر الحديث وتنوَّعت
ألوان تفسيره في ضوء قضايا العصر، وما يضطرب فيه من مشاكل، وما يحفل به من قضايا،
وارتبطت حركات التجديد في عصر النهضة العربيَّة بالقرآن.
فقد دعا الشيخ محمد عبده (1849 – 1905م) إلى العودة
إلى البيان العربيّ في مصادره الأولى، حتى يتمكن الإنسان المعاصر من تحصيل الدقة
اللازمة في فهم القرآن الكريم، وبادر الشيخ الإمام إلى تدريس كتابيْ « دلائل
الإعجاز» و « أسرار البلاغة» لعبد القاهر الجرجاني (471هـ) بعد عودته
من منفاه في الشام سنة (1888م)، ثم قام بنشر الكتابيْن.
وإذا كان النصّ القرآنيّ قد تقاسمته اهتمامات عديدة
في ضوء ما شاهدته العصور الحديثة من تحولات؛ فإنَّ العناية بالجانب الأدبيّ فيه،
قد أخذتْ حظّها. وقد اعتبر د. عفت الشرقاوي الاتجاه في التفسير الأدبيّ «أوسعَ
آفاقاً، وأعمقَ تأمُّلاً، وأكثرَ صلةً بالفكر الحديث، وأغزرَ إضافةً إلى التراث
التفسيري»[2].
وهو اتجاه حاول أصحابُه أن يكشفوا وجوه الإعجاز
البيانيّ في القرآن الكريم، وحاول تطبيق تحليل النصوص الأدبيّة على النصّ القرآني،
مع مراعاة ما يتميز به القرآن الكريم.
ثانيا: مدرسة الأمناء أو مدرسة
التَّفسير الأدبيّ للنص القرآنيّ
في مطلع عشرينيات القرن الماضي، ظهرتْ «جماعة
الديوان» على الساحة الأدبيّة والنقديّة ( مدرسة العقاد والمازني وعبد الرحمن
شكري)، ودعت إلى تجديد الأدب العربيّ عن طريق وصله بالآداب الأجنبيّة؛ حتى
يُعبِّرَ عن مظاهر النهضة الحديثة فكريّاً وفنِّيّاً.
وفي ثلاثينيات ذلك القرن، ظهرت جماعة «أبُّولو»
( اسم المجلة الشعرية التي أنشأها أحمد زكي أبو شادي)؛ التي أسهمتْ في نهضة الفنِّ
الشعريِّ في عالمنا العربيِّ.
أما في الأربعينيات منه، فقد ظهرتْ «جماعة الأمناء»،
وهي جماعة أنشأها أمين الخولي (1895 – 1966م)، وتمَّ تكوينُها سنة 1943م، وساهم
بعض أعضائها في تأسيس مدرسة التفسير الأدبيّ للنص القرآنيّ.
وقد تزعَّم أمين الخولي هذه المدرسة، وكان متأثّراً
بمدرسة محمد عبده (1905م) في تجديد حياة التفسير القرآنيّ. وتولَّى دراسة البلاغة
والأدب حين كان أستاذاً في الجامعة المصريّة من سنة 1929 إلى سنة 1952م، وكانت له
آراء تجديدية ضَمَّنَها كتابَه «مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب»
( ط1، دار المعرفة، 1961م).
وقد دعا أمين الخولي إلى اعتماد المنهج الأدبي في
التفسير، ورأى أن أوَّلَ ما ينبغي القيامُ به هو النظر إلى القرآن من حيث هو كتاب
العربيّة الأكبر، وأثرها الأدبيّ الأعظم[3].
وقد حدد قواعد المنهج الأدبي في «مادة التفسير»
في (دائرة المعارف الإسلامية) الجزء الخامس، مادة تفسير، ص 365 – 374 (
وأعيد نشره ضمن كتابه ( مناهج تجديد...)، وهو يرى أن دراسة النصّ القرآنيّ
ينبغي أن تتناول ما يلي:
أ – التأمُّلُ في الظروف العامّة التي أحاطت بالنصّ
القرآني، أي الانفتاح على علوم القرآن (وكانت المرحلة متأثرة بالمنهج التاريخيّ).
ب – تحليلُ النصِّ بالنظر في مفرداته وتتبع أصولها
ومعانيها في العصر الذي نزل فيه القرآن، مع القيام باستقراء لتلك المعاني، بمختلف
استعمالاتها في القرآن.
ج – الدِّراسة الأسلوبيَّة: أي الاستعانة
بالصَّنْعَة النحويَّة قصد بيان المعنى وتحديده، والنظر فيما تطرحه القراءات من
أنظار مختلفة للآيات.
د – النظرة البلاغية: والمراد بها تلك « النظرة
الأدبيَّة الفنيَّة التي تتمثل الجمال القولي في الأسلوب القرآنيّ، وتستبين معارف
هذا الجمال، وتستجلي قسماته في ذوق بارع قد يستشف خصائص التراكيب العربيّة لمعرفة
المزايا الخاصة بها بين آثار العربيّة»[4].
وبعد أن يرسُم الخطوط العريضة للمنهج الذي يقترحه
للتفسير الأدبيّ للقرآن؛ يؤكد أن التفسير هو الدراسة الأدبيّة الصحيحة المنهج،
الكاملة، المتسقة التوزيع. ويرى أن المقصد الأول للتفسير اليوم، أدبيٌّ محضٌ،
صِرْفٌ، غيرُ متأثر بأي اعتبار وراء ذلك.
وقد تناول تلامذتُه هذا المنهج بالتوضيح، وعملوا على
تطبيقه في بحوثهم، وفيما يلي أتناول أربعة نماذج تمثل هذا الاتجاه:
ثالثا: شكري محمد عياد: «يوم الدين
الحساب» (1948م).
كان شكري محمد عياد من أوائل المطبِّقين لمنهج
أستاذه الخولي في رسالته للماجستير، وكان موضوعها« من وصف القرآن ليوم الدين
والحساب»، وقد نوقشت الرسالة في نهاية الأربعينيات، ولم تُطبع إلا في سنة
1980م، بعنوان « يوم الدين والحساب».
بدأ الباحث بقوله:« هذا بحثٌ سطرْتُه منذ نيف
وثلاثين سنة، وكانت (مدرسة التفسير الأدبيّ)، تحاول شقَّ طريقِها في حياتنا
الجامعيَّة والثقافيَّة، وسط أعاصير من سوء الفهم، وضيق الأفق»[5].
وذكر أنه حاول في جهده هذا « أن يُفسِّر كتاب
العربيَّة الأكبر طبقا لـ ( منهج ) يُستمَدُّ من علوم اللغة والأدب كما يُستَمَدُّ
من كتب التفسير المنقول والمعقول، ويرفد الدرس الأدبيّ بثقافة نفسيّة واجتماعيّة،
ويبذل غاية الجهد في استقصاء الوقائع ومقارنة النصوص قبل أن يقدم على إبداء الرأي»[6].
وتناول في مقدمة بحثه المنهج الأدبيّ في التفسير
فاستعرض مقالة الأستاذ الخولي عن التفسير، وحدد من خلالها منهج التفسير الأدبيّ في
مجاليْن:
أ – دراسة حول القرآن.
ب – دراسة في القرآن.
وقد طبَّق أصول هذا المنهج
الأدبي في التفسير جين حاول أن يدرس الوصف القرآنيّ ليوم الدين والحساب، وقسَّمَ
بحثَه إلى ثلاثة أبواب: المفردات – الأساليب – المرامي.
وقد استنبط المرامي من قول
أستاذه في مقالته حين ذكر أنَّ للقرآن معانيَ ومراميَ إنسانيةً واجتماعيةً بعيدةَ
الهدف أبديةَ العمر، فقد قال شكري محمد عياد إن البحث في المرامي الإنسانيّة
والاجتماعيّة للقرآن « من صميم التفسير
الأدبيّ، إذا أردنا أن ندرس القرآن درساً أدبيّاً، كما تدرس الأمم المختلفة عيون
آداب اللغات المختلفة، فليس يكفي الباحث حين يتصدّى لدراسة كتاب من عيون الأدب أن
يُبيّن معانيَ ألفاظه، ووجوهَ البلاغة في تغبيره؛ إذا لم يُفرغ جهده في بيان قيمته
الإنسانية بإبراز ما يُضيفُه إلى النفس الإنسانيَّة من وعي جديد بذاتها، وإدراك
دقيق لما حولها»[7].
وهكذا حاول إدراك مدلولات
الألفاظ القرآنيَّة كما تداولتها، وتجاوز الدلالات الصريحة للألفاظ إلى دلالاتها
الضمنية، أو ظلال المعاني باعتبارها عاملا هامّاً من عوامل التعبير الأدبيّ مع
إبراز قيمتها في التلوين الوجدانيّ.
والأساليب عنده تتمثل في
الطريقة التي تأتلفُ بها المعني الجزئيَّة لتؤديَ غرضَ الأدب، وهو التعبير عن التجربة
الوجدانيّة.
« والمعنى الأدبيّ هو نتيجة
لتفاعل النفس الإنسانيّة، بكل ما فيها من قوى إدراكيّة، ودفعات غريزيّة وعواطف
ومطامح، وميول ونزعات، مع مجالي الطبيعة التي يُلابسها المرء، والقوة التي يُحس
بوجدانه أنها تُهيمن على هذه الطبيعة، أو تجول فيها وتضطرب بين ثناياها»[8].
أما الباب الثالث فقد
خصَّصَهُ للمرامي الإنسانيّة والاجتماعيّة التي انطوت عليها الأساليب وتشكلتْ من
خلالها. وغايته استخراجُ المعاني الكبرى التي تقوم عليها أوصاف القرآن الكريم.
رابعا: د.
أحمد أحمد بدوي: «من بلاغة القرآن» (1950م)
هذا كتاب حدّد فيه صاحبُه
المنهج الأدبيّ في دراسة النصّ القرآني بدقَّة ووضوح في مقدمته؛ فرأى أن دراسة
النصّ تتطلب:
أ – الوقوف عند مفردات
النص؛ لتبيُّن مدى الإصابة في اختيارها، ومدى تمكّنها في موضعها من جملتها، وقوة
ربطها بأخواتها.
ب – دراسة الجملة في النص
لإدراك سرّ قوتها، وهنا المجال فسيح لتطبيق علم المعاني في البلاغة الاصطلاحية.
ج – دراسة النص باعتباره
وحدة متصلة الأجزاء يتحقق فيها الترابط والوضوح والتأثير.
د – قراءة المعاني التي
اشتمل عليها النصّ، من حيث قوتُها وضعفُها وأصالتُها، وأثرُها في تكوين الصورة، مع
ملاحظة ما بين اللفظ والمعنى من تآخ وتناسب يؤثران في الفكر والوجدان.
وقد قسم د. أحمد أحمد بدوي
كتابه إلى قسميْن: خصص الأول منهما بدراسة البلاغة القرآنية في اللفظ والأسلوب،
وخصص الثاني بدراسة المعاني.
يقول:« والقرآن أُمَّةٌ
وحدَه في البلاغة العربيَّة، فأرادت أن أتبيَّن أسرار سموِّه، عسايَ أدركُ ما كان
له من تأثير في النفوس وسلطان على القلوب، وقد سرتُ في دراستي على المنهج الذي
تحدثتُ عنه»[9].
ويمهد الباحث لعمله بمقدمات
تناول فيها ماهية العمل الأدبيّ، ومجال الأدب بين مظاهر الشعور، وعلوم البلاغة
والنقد الأدبيّ، ويتناول القراءة الأدبيّة باعتبارها استحضاراً لتجربة المُبدع في
نفس القارئ.
فالمنهج يتَّجه عنده إلى
إثارة وجدان القارئ إثارةً روحيَّةً رفيعةً. وقد جعل د. أحمد أحمد بدوي القراءة
ألواناً ثلاثة: قراءة متذوقة، وقراءة ناقدة، وقراءة حاكمة. في القراءة المتذوقة
يتعايش القارئ مع تجربة المبدع، وفي القراءة الناقدة يدرس القارئ شكل النصّ
ومضمونه، وينقد ما يكون قد اشتمل عليه من معان وآراء. وحينئذ تأتي القراءة الحاكمة
لتقويت التجربة والحكم عليها بالخطأ أو الصواب.
والحق أن كتاب «من بلاغة
القرآن» كان من أوائل الكتب التي رسمت خطةً لدراسة البلاغة القرآنيَّة في
أواسط القرن العشرين، وألمت بالمنهج الأدبيّ في تحليل النصوص، فاستفاد الدرس
الأدبيّ من تأملاته في أسلوب القرآن. وأسهم هذا الكتاب في تنمية النقد الأدبيّ؛ إذ
هيّأ له التربة الصالحة لنموه وإثماره، وجعل له هدفا يتمثل في تربية الذوق الصالح السليم.
خامسا:
محمد أحمد خلف الله« الفن القصصي في القرآن الكريم»(1953م)
قدم محمد أحمد خلف الله رسالته بالعنوان أعلاه
للحصول على درجة الدكتوراه تحت إشراف أمين الخولي، وأثارتْ رسالتُه هذه زوابع في
مرحلتها. وكان خلف الله أحد تلامذة مدرسة التفسير الأدبيّ للنصّ القرآنيّ. وذكر أن
من بين الأسباب التي جعلتْه يُعنى بالدراسة الأدبية، وأن يجعل من القرآن ميدان
أبحاثه؛ ما تركتْه دروسُ أستاذه الخولي في نفسه، عن المنهج الأدبيّ في فهم القرآن
وتفسيره.
ووجد الباحث أن القصص
القرآني يُحقق غرضا منهجيّاً في الدراسة الأدبيّة، وأحسَّ بحاجة ملحة إلى الاطلاع
على ما يفعله الغربيُّون حين يدرسون الأدب وتاريخَه؛ فاطلع على الأبحاث
الإنجليزيَّة التي أخرجتها جامعة أكسفورد، وعلى ذلك البحث الذي كتبه عن المنهج «لانسون»
وعرَّبه محمد مندور. يقول محمد أحمد خلف الله:« قرأتُ هذه الكتب فانتهتْ بي
القراءة إلى الإحساس بالمفارقة العجيبة التي توجد بين ما تصوَّرْتُه للدراسة
الأدبيّة من منهج وما عليه تسير»[10].
ورأى أن القصص القرآني لم يُدرس من قبل على هذا الأساس الأدبيّ الذي يكشف سر قوته
وإعجازه.
وقد حدّد خطوات هذا المنهج
في :
-
جمع النصوص وتحديدها.
-
ترتيبُها تاريخيا قصد ربطها ومعرفة تطورها.
-
فهْمُها فهماً يقوم على مستويين:
أولهما: يقوم على دراسة
الألفاظ والتراكيب والجمل، وعلى توضيح العلاقات الغامضة والإشارات التاريخيّة.
أما المستوى الثاني من
الفهم فهو « يقوم على تحديد ما في النصّ من صور وآراء، وتبحث عما خلف هذه الصورة
وهذه الآراء من معان أخرى لم يشعر صاحب النصّ بالحاجة إلى التعبير عنها؛ إما لأنه
كان يفهمها في نفسه، وإما لأن المعاصرين له كانوا يفهمونها عنه»[11].
وقال في خاتمة بحثه إنه
انتهى بالقارئ إلى درس أدبيّ أو بلاغيّ فنّيّ للقصة القرآنية؛ وهو درس يكشف عن بعض
أسرار الإعجاز.
سادسا:
عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ (التفسير البيانيّ للقرآن الكريم): (1962م)
لاحظت الباحثة أن أصحاب الدرس الأدبيّ قد شُغلوا
بالمأثور الشعريّ والنثريّ في التراث القديم، عن الاتجاه إلى القرآن الكريم؛ وهو«
الذي لا جدال في أنه كتاب العربيّة الأكبر، ومعجزتُها البيانية الخالدة، ومَثَلُها
العالي الذي يجب أن يتصل به كل ذي عروبة أراد أن يكسب ذوقها، ويدرك حسَّها
ومزاجها، ويستشفّ أسرارها من التعبير والأداة؛ مُسْلِماً كان أو غير مُسْلِمٍ».
وترى الباحثة أن الدرس
التفسيريّ ظلَّ تقليديّاً أثريّاً إلى نحو قرن من الزمان حتى الشيخ الأمام الأستاذ
أمين الخولي «فخرج به عن ذلك النمط التقليديّ، وتناوله نصّاً أدبيّاً على منهج
أصَّلَه، وتلقَّاه عنه تلامذُته، وأنا منهم». إلى أن قالت:« ومنذ سنين وأنا أقوم
بهذه المحاولة في دراسة القرآن الكريم باعتباره نصّاً أدبيّاً، تطبيقاً للمنهج
الذي تلقيته»[12].
وقد لخَّصتْ هذا المنهج في
مقدمة كتابها وجعلته:
- في التناول الموضوعيّ لما
يُراد فهمه من كتاب الإسلام.
- في فهم ما حَوْل النص من
ظروف وملابسات.
- وفي فهم دلالات الألفاظ
في استعمالاتها المختلفة.
- وفي فهم أسرار التعبير
القرآني.
وهكذا قدمت الباحثة دراستها
التطبيقيّة على مجموعة من السور القصار، مؤكدة أن فهم مفردات القرآن وأساليبه
يقومان أساسا على الدرس الأدبيّ الدقيق، المتذوق للأقصى ما يقدمه إيحاء التعبير.
وقد تمسَّكتْ الباحثة
بالكلمة القرآنيّة في ضوء دلالتها السياقية وما توحيه من ظلال وأبعاد في النفس
والفكر. كما تناولت الظواهر الأسلوبيَّة بمنهج استقرائيّ يراعي السياق الخاصّ في
الآية والسورة، والسياق العام في القرآن كله.
خلاصة وملاحظات
اتضحت ملامح التفسير
الأدبيّ للنصّ القرآنيّ في أواسط القرن العشرين، وحاول الأمناء أن يتميزوا بمنهج
في تحليل النصّ القرآنيّ غير أن جهودهم بقيت محدودة، ولم يخل بعضها من ادعاءات
وانحرافات، كمن حاول تطبيق نظرية الرواية التاريخية على القصة القرآنية أو من ادعى
أنه اكتشف ما لم تعرفه الأوائل.
وما يحسب لهؤلاء الأمناء
أنهم اتخذوا المستوى الفنِّي في النصّ القرآنيّ المقصد الأول في الدرس. ولكن
أعمالهم جميعا تظل من حيث التطبيق ضئيلة أمام مجهود سيد قطب (1906-1966م)، فهو خير
من تناول الجانب الفني في القرآن في هذا العصر، وجعل التصوير الفني منبع السحر في
القرآن ودعامة إعجازه. وكانت أعمال سيد قطب رائدة: التصوير الفني، (ط1-1944)
مشاهدة القيامة (ط1-1946)- في ظلال القرآن (ط1-1952) ود. شكري عياد، انتقد منهج
سيد قطب في التصوير الفني، خاصة وأنه قد سبقه إلى أسلوب القرآن في وصف يوم
القيامة، فقال د. شكري عياد:
« فقد فُتن بعض المعاصرين
بما زعموه أساس التعبير الأدبيّ، بل الإعجاز القرآنيّ من مقدرة اللفظ على أن يثير
في ذهن السامع صورا حسيَّة، مقدرة يسمونها تارة تصويراً وتارة تجسيماً، وتارة
تخيُّلاً»[13]،
وادعى أن سيد قطب استوحى طريقته من كتب البلاغة المدرسيَّة، وإلى ما أفاض بعض نقاد
الغرب من البحث في «الصور».
وأنكر د. شكري عياد أن يكون
صنيع سيد قطب هو أصل العمل الأدبيّ ولبابه. ويسميه صاحب (التصوير الحسي)[14]؛
ذلك أن سيد قطب يرى أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، والقاعدة
الأولى فيه للبيان.
[1] نشر هذا المقال في مجلة كلية الآداب والعلوم
الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش، عدد مزدوج (16 – 17 )، 2001 – 2002 م، ص25 –
33.
[2] الفكر الدينيّ في مواجهة العصر، دراسة تحليليّة
لاتجاهات التفسير في العصر الحديث: محمد عفت الشرقاوي، ص296 – ط2[ بيروت، دار
العودة، 1979م].
[12] التفسير البيانيّ للقرآن الكريم: د. عائشة عبد
الرحمن، ص13 – 14 – ط3 [ القاهرة، دار المعارف، 1968م].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق