السبت، 31 أكتوبر 2015

صفات القائد عند شاعر جاهلي[1]


                                                                                                                      

                                                                                                                      عباس أرحيلة
   

أولا: لقيط بن يَعْمُر وقصيدتُه العينيّة
1 – الشاعر:
         لقيط بن يَعمُر الإيّادي، شاعر جاهليّ مُقلّ. وهو من إيّاد – قبيلة نزار تتفرع إلى ربيعة ومضر وأنمار وإياد -  كانت لقبيلته حروبٌ مع الفرس. وقد نزلتْ  إيّاد  نواحي العراق. وانتشرتْ على ضفّة الفرات. وقيل إن هذا الشاعر كان كاتباً في ديوان كسرى – تولّى كسرى أنو شروان الملك بين 531 و579م -، وقيل إنه كان مترجماً وكاتباً للمراسلات في الديوان.

          وهذا الشاعر يُمثِّل إلى جانب زهير بن جناب الكلبيّ، وأبي داود الإيّاديّ، وعمرو بن قميئة المدرسةَ الشعريّةَ التي تَرَسَّمَ خُطاها امرؤ القيس؛ أشهر شعراء الجاهليّة.
          وهو لقيط بن معمر عند الجاحظ 255 هـ، وابن قتيبة 276 هـ، وابن دريد 322 هـ، والآمدي 371 هـ، وابن منظور 711 هـ.
         ولقيط بن يعمر عند البكري 487 هـ، وابن الشَّجري 542 هـ، وياقوت الحمويّ 626 هـ، وما ورد في نسخة ديوانه، واختاره المرصفي والزركلي ورضا كحالة.
2 – شعره:
         لا يتجاوز قصيدةً واحدةً وبضعةَ أبيات. وهذا محتوى ديوانه الذي حققه د.عبد المعيد خان سنة 1971. وقصيدته تُعتبر من أقدم القصائد الجاهليّة التي ضمّتْ خصائص الشعر العربي في بداية توهُّجه؛ وتُعرَفُ بالقصيدة العينية. أورد منها صاحب الأغاني ثمانية عشر بيتاً، وأوردها ابن الشجري كاملة، وجعلها أولى مختاراته – مختارات شعراء العرب – وعدد أبياتها عنده ستة وخمسون بيتا. وفي الديوان أربعة وأربعون بيتاً مع أبيات مُلحقة تصل بها إلى ستين بيتاً.
3 – مع العينيّة:
         لعل شهرة هذه القصيدة ترجع إلى اعتبارها أولَ صيْحةٍ عربيّةٍ لمواجهة المدّ الفارسيّ. وأوّل دعوة للتمرد قصد إثبات الصُّمود العربيّ، ودعوة الأمة إلى الأخذ بأسباب القوة.
 وقيل إن سببَ نظم هذه القصيدة، أن الشاعر كان يعمل بديوان كسرى، فلما رأى إجماعَ الفرس على غزو قبيلة إياد بادر بكتابة هذه القصيدة يستنهض قبيلة إياد، فوقعت بيد كسرى فقطعَ لسانَه وقتله.
         القصيدة مكوَّنة من ثلاثة أقسام، من بحر البسيط:
         - مقدِّمة غزلية من سبعة أبيات.
         - تحذير لقبيلته، ودعوتُها لمواجهة الزحف الفارسي، ومقاومة نفوذه.
         - تحديد صفات القائد الذي يكون في مستوى الحدث.
مطلع القصيدة:
         يا دارَ عَمْرَةَ من مُحْتَلِّـهَا الجَرَعَا      هاجَتْ لِيَ الهَمَّ والأحزان والوَجَعَا
ومن أبيات القسم الثاني من القصيدة، أذكرُ هذه الأبيات التي يدعو فيها قومَه إلى التماسُكِ والوحدةِ والصمودِ.
         يا لَهْفَ نفْسي أنْ كانَتْ أُمُورُكُمُ           شَتَّى وأُبْرِمَ أمْرُ الناسِ فاجْـتَمـَعَا
         أحْرارُ فارسَ أبناءُ الملوكِ لَهُــمْ          من الجُموعِ جمُوعٌ تَزْدَهي القَلَـعَا
إلى أن قال:
         هوَ الجلاءُ الذي يجـْتَثُّ أصلَكُمُ      فمَنْ رأَى مثلَ ذا رأْياً ومَنْ سمِعَا
وفي رواية ابن الشّجري:
         هو البلاءُ الذي يبغـي مّذَلَّتَكُمْ         إن طارَ طائرُكُمْ يوماً وإنْ وَقَعَا
4 –  الأبيات الواردة في صفات القائد:
فَقَلِّدُوا أمْــرَكُم - لله ذرُّكمُ -               رَحْبَ الذِّراعِ بأمرِ الحَرْبِ مُضْطَلِعا
لا مٌتْرفاُ إنْ رُخاءُ العيشِ ساعَدَه               ولا إذا عَضَّ مكْـــروهٌ به خشَعَا
        لا يَطْعــَمُ النوْمَ إلاَّ ريْثَ يبْعَثُهُ                   هَمٌّ يكـادُ شَباهُ يَقْصــِمُ الضِّـلَعا
مُسَهِّدَ النومِ تَعْـــنيهِ ثُغورُكُمُ                   يرومُ مِنْـها إلى الأعـداءِ مُطَّلِـعا
ما انفَكَّ يحْلـُبُ دَرَّ الدهْرِ أشْطُرَه                  يكون مُتَّبَــعاً طــوْراً ومُتـَّبِعا
           وليسَ يَشْغَـــلُهُ مالٌ يُثَمِّـِرُهُ                        عنْـكمْ ولا ولَدٌ يبغـي لهُ الرَّفَعـا
 حتى استمرَّتْ على شزْرٍ سريرَتُه                مٌستحْكَمُ السِّنِّ لا قمْحاً ولا ضَرَعا
إذْ عابَهُ عائبٌ يوماُ فقــال له                    دَمِّثْ لجنبكَ قبلَ الليل مُضْطـَجَعا
فساوَروهُ فاَلْفـــَوْهُ أخا عَلَلٍ                        في الحرْبِ يَحْتَبــِلُ الرِّئبالَ والسَّبُعا
عَبْلُ الذِّراعِ أبيّاً ذا مُـــزابَنَةٍ                     في الحربِ لا عاجزاً نِكْساً ولا وَرَعا
مُستنجِداً يتحدَّى الناسَ كلَّهُمُ                  لو قارَعَ الناسَ عن أحـسابِهم قَرَعا
ثانيا: صفات القائد
سأكتفي بتحديد صفات القائد في هذه الأبيات:
1 – قائد صامد مُتمرِّسٌ بالشدائد:
في استعمال فعل الأمر:« فَقَلِّدوا»؛ تَنْبيهٌ لضرورة الوحدة وعدم الانقسام؛ إذِ الفُرقة أخطَرُ ما تُعاني منه الأمم.
والشاعر يدعو قومَه أن يُقلدوا أمرَهم قائداً له مواصفات خاصة:
أ - أن يكون متمرساً بالشدائد
فهو يدعوهم أن يُسندوا أمرَهم لرجل حنَّكَتْه التجارب، وعرف تقلُّباتِ الأيام؛ «ما انفَكَّ يحْلـُبُ دَرَّ الدهْرِ أشْطُرَه »، هو جرّبَ الشدائد وخَيَرها، وما انفكَّ يعيش في معاناتها. تراه لا يتأَثَّرُ بالشدائد، ولا يَضْعُفُ أمامها.« ولا إذا عَضَّ مكْـــروهٌ به خشَعَا». وشعاره:« دَمِّثْ لجنْبِكَ قبلَ الليل مُضْطَجَعا»؛ أي تهيَّأْ للأمر قبل وقوعه، وكُنْ على استعداد دائم للحرب.
ب - أن يكون شجاعاً، خبيراً بالحرب
له استعدادٌ للحرب:« رَحبَ الذِّراع بأمرِ الحَرْبِ مُضْطَـلِعا»؛ تمتدُّ قوتُه بامتداد ما تفرضه الحروب من تبعات، وكأنَّ الحربَ خمرٌ ينهل منها المرة تِلْوَ الأخرى، فهو « أخا عَلَلٍ في الحرب»، له مِراسٌ بها وشدة فيها « ذا مُزابَنَةٍ في الحرب»،  ويخوضُها ببسالة وحماس « لا عاجِزاً نِكْساً ولا ورعا»؛ دون عجز أو ضعف أو فشل، وقوتُه لا تقف عند مواجهة الرجال في الحروب وإنما تتعداها إلى مواجهة الأسود وغيرها من الضواري؛ فهو « يحْتبِلَ الرئبالَ والسَّبُعا»
- والرئبال: من أسماء الأسد والذئب -.
ج - قائد قويٌّ في جسمه ونفسه وشخصه
فجسمُه مُحكَمُ البناء، فُتِلَ فتْلاً شديداً « استمَرَّتْ على شَزْرٍ مَريرَتُه»، ويجده الناظرُ « عبْل الدِّراع»، أمَّا بالنسبة لعُمْره فهو « مُسْتَحْكَم السِّنِّ»؛ بعيد عن الهَرَم والضعف والوَهَن والجبن « لا قَمْحاً ولا ضَرِعا»؛ ولهذا كان « يتحدّى الناسَ كلَّهم»، ويواجهُ الأهوال والشدائد بإرادة قوية.
وسرُّ قوته تماسكه النفسي، وحفاظه على كرمته وعزة نفسه، وقوة رجولته؛ فهو لا ينهار لأول مكروه يعترضُه، وإذا أقبلت عليه النعمة لا يُفسدُهُ البذخ والترف؛ فتراه «لا مٌتْرفاُ إنْ رُخاءُ العيشِ ساعَدَه »، وما أن يستكين إلى الراحة والنوم حتى توقظَه الهموم.
لا يَطْعــَمُ النوْمَ إلاَّ ريْثَ يبْعَثُهُ              هَمٌّ يكـادُ شَباهُ يَقْصــِمُ الضِّـلَعا
فليس مِن همِّه جمعُ المال وتكديسه، ولا هو مَن يشغله استثمار أمواله؛ فيَركَنُ إلى ترف يُفتِّتُ عزيمَتَه، ويهتمُّ بأولاده؛ يُريد لهم الرفعة، وليستْ له أسرةٌ تستغلُّ نفوذَهُ، ولو كان ذلك على حساب الآخرين.
وليسَ يَشْغَـــلُهُ مالٌ يُثَمِّـِرُهُ               عنْـكمْ ولا ولَدٌ يبغـي لهُ الرَّفَعـا
د - قائد وهَبَ نفسَه لقومه
فهو منشغل بهموم أمته؛ يسهر ليلَه لحمايتهم؛
«مُسَهِّدَ النومِ تَعْـــنيهِ ثُغورُكُمُ              يرومُ مِنْـها إلى الأعـداءِ مُطَّلِـعا»
وفي رواية:« تعنيه أُمورُكم»؛ فهموم قومه تُؤرِّقُه، وتراه قرياً من قومه؛ يحتكم إلى الشورى في اتخاذ مواقفه، ولا يتعالى عليهم في اتخاذ القرارات؛ « يكونُ مُتَّبَعاً طوراً متّبِعا». وخبرتُه بالحياة إذ « ما انفكَّ يحلُبُ دَرَّ الدهر أشطره»؛ جعلتْه يعرف متى يعتمد رأيه ومتى يكون لرأي قومِه مُتَّبِعاً؛ رغبةً منه في توحيد كلمتهم.
هذه كلمة عن هذه الأبيات من عينية لقيط بن يعمر. حدَّدَ فيها الصفات الجسمية النفسية والتكوينية والاجتماعية؛ حتى يتمكَّن من قيادة أمته في مواجهة كل قوة خارجية...












[1]  نشر هذا المقال بمجلة الدراسة والإعلام –  القوات المسلحة الملكية – رقم 277، سنة 1994، ص39 – 42

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق