الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

قراءة في كتاب «هويتنا والعولمة» للدكتور عباس الجرَّاري


                                                         عباس أرحيلة
تمهيد:
     هذه كلمة عن د. عباس الجرَّاري المفكر في قضايا الفكر الإسلاميّ الحديث وعن رؤيته للإسلام  في مواجهة العولمة؛ وذلك ضمن اهتمامات أستاذنا بمعاناة أهل الإسلام في معترك اللحظة الراهنة في مسار تصادمهم بالحداثة الغربية والعولمة واللائكية وظاهرة الإرهاب، وهيمنة القطب الواحد على مصائر الشعوب، وتخلف أهل الإسلام أن تكون لهم الشهادة على ما يجري في الأرض.

     ومما تجدر ملاحظته هنا أن المرحلة الأولى من الحياة الجامعية للدكتور عباس الجرَّاري، والتي تمتد من سنة 1966 إلى سنة 1970م، كان من جملة القضايا التي تناولها في محاضراته أدب الدعوة الإسلامية، وقد نشرت هذه المحاضرات بدار الثقافة بالبيضاء سنة 1974م. وقد تفضل بإهدائي مجموعة من كتبه ( ظهرت ما بين سنة 2000 و2005 ضمن منشورات النادي الجرَّاري، بمطبعة الأمنية بالرباط)، وقد ضمنها تحليلاته لمعاناة الهوية الإسلامية في معترك  الهجمة الشرسة على الإسلام، وحدد من خلالها رؤيته لما ينبغي أن تكون عليه الدولة في الإسلام، والكيفية التي ينبغي أن تواجه بها الهُوِيَّة الإسلاميّة طغيان العولمة، وفي كتابه الإسلام واللائكية، رسم كيفية التعرف على الإسلام، وقدم دفاعاً عن الإسلام نافيا عنه ما ألصق به من تطرف وإرهاب، وفي كتابه الخامس حدد الإصلاح المنشود الذي يضمن سبل الخروج مما يتخبط العرب والمسلمون في اللحظة الراهنة. وهذه هي الكتب حسب تواريخ نشرها:
(1)          هويتنا والعولمة – 18 – سنة 2000م.
(2)          الإسلام واللائكية، معرفة الإسلام: - 26 – سنة 2003م.
(3)          لا تطرف ولا إرهاب في الإسلام – 30 – 2004م.
(4)          الدولة في الإسلام – رؤية عصرية – 27 – 2004م.
(5)          الإصلاح المنشود – 33 – 2005م.
وسأكتفي هنا بكلمة حول المشروع الفكري للدكتور عباس الجرَّاري من خلال كتابه (هويتنا والعولمة). وهذه وقفة مع بعض قضايا هذا الكتاب أسوقها على الشكل الآتي:

(1)         تحديد رؤية مستقبلية
وضع د. عباس الجرَّاري في عنوان كتابه الهُوِيَّة الإسلاميّة في ومواجهة العولمة؛ سعيا منه لإدراك طبيعة الصدام في واقع المسلمين، وإدراك ضرورة الانخراط في العولمة بهوية إسلاميّة. 
        ويحدد الكتاب كيفية هذا الانخراط، دون ذوبان العرب والمسلمين في عولمة اللحظة الراهنة من التاريخ المعاصر. ويرى أن الانخراط في العولمة مع الحفاظ على الهوية يقتضي توافر بعد مستقبلي مرتهن بتحقق ثلاثة منطلقات:
   المنطلق الأول: الدفع بالواقع المحلي الإقليمي نحو تطور علمي وازدهار اقتصادي وترسيخ حقوقي ( العلم، المال، الإنسان).
   المنطلق الثاني: الدفع بالواقع العربيّ الإسلاميّ إلى التكتل الاقتصاديّ الثقافيّ في ضوء هُوِيّة إسلاميّة عقيدةً ولغة وتراثاً (وحدة ثقافية اقتصادية).
   المنطلق الثالث: مواجهة العولمة برؤية نابعة من مقومات العربية الإسلامية ( انخراط في العولمة من منطلق الهُوِيّة).

(2)         مواجهة إشكال حضاري
في لحظة ترخي فيها العولمة ظلالها على المعمور، وتجتاح الحداثة مسامّ الهُوِية العربيّة الإسلاميّة، ويصطف العالم بنزوع صليبيّ مدمر خلف القطب الواحد؛ لمحاربة الإسلام باسم الإرهاب؛ يقع العالم العربي الإسلامي ضحية هذا كله فريسة التمزّق والتخلّف والتبعية العمياء.
وفي ضوء هذا يطرح د. عباس الجرَّاري الإشكال الآتي: كيف السبيل إلى الخروج من هذا النفق المظلم؟ كيف نتوسل بأسباب تفوق العولمة دون أن نستسلم لجبروتها والانبهار بها، ودون أن ننخدع ببريق حداثتها إلى حد الذوبان والتلاشي؟ هل نستطيع أن نُنشئ توازنا بين هويتنا، وما تعانيه من تمزقات وتراجعات وتخبط في متاهات، وما تقتضيه المرحلة الحالية من تكتلات، وقدرة على الصمود في المواجهات، بأساليب نابعة من هوية لها طاقات؛ لم يُحدِّدْ بعدُ أهلُها ما لها من إمكانات؟
     فالهُوِيَّة الإسلاميَّة بأبعادها الأربعة: الوطن، اللغة، التراث، الإسلام؛ لا تتحققُ كينونتُها، ولا تتحدَّدُ وحدتُها، ولا تتهيأ قوتهُا، ويترسّخُ صمودُها، وتعلو عزتُها؛ إلا إذا تقرر لديها أن عليها مسؤولية أن تكون لها الشاهدة على غيرها في الدنيا قبل الآخرة! إن الهوية الإسلامية معرضة اليوم لاجتياح نظام العولمة الذي يتم من خلاله تسويق السلع والقيم والمناهج؛«ليصل في النهاية إلى فرض هيمنته وسيادته. وهو بهذا يُشبه الاستعمار إن لم يكن يُمثل أعلى درجاته ومراحله» [ص33].
(3)         كيف نندمج دون أن نفقد هويتَنا؟
يدعو د. عباس الجرَّاري الأمة أن يكون لها استعداد للاندماج في العولمة بالكيفية التي لا تتناقض فيها مع مقومات هويتها وحقيقتها، وأن تتأهل «للتبادل والتنافس في نطاق كيانات أو كيان قوي ومتماسك ومشدود بعُرَى هُوِيَّة لها مقومات راسخة وإمكانات إبداعية تجديدية» [ص34].
     ولاحظ د. عباس الجرَّاري أن العالَم الأوربي يتمسك بهويته في زمن العولمة شأن العالَم الأسيوي، وأن العالم الإسلاميّ بإمكانه أن يُشارك في مسار العولمة؛ إذا استثمر ما لديه من طاقات مادية وبشرية، ولم يستسلم لهيمنة العولمة، واندمج في معتركها «إنتاجاً، وتسويقاً، وتوسلا بالوسائل التقنية التي تتخذها لذلك»[ص39].

(4)          استثمار البعد الثقافيّ في الهُوِيّة الإسلاميّة
يلاحظ د. عباس الجرَّاري أن البعد الثقافيّ في الهُوِيّة الإسلاميّة هو سبيل المواجهة للعولمة؛ وذلك للارتباط الحتمي بين الهُوية وبعدها الثقافيّ. فالثقافة هي روح كل هوية، من خلالها تتطور وتتجدد، والاجتهاد شرط وجود في مسار الثقافة في حضارة الإسلام. فالاجتهاد – في نظر د. عباس الجرَّاري – يُشكِّل أساسا منهجيا لضبط مسار حركة الحياة، وذلك بتوسيع آفاق المعرفة الدينية بربط نهج الشريعة بالحياة؛« في احتواءٍ لأي واقع كيفما كان، أي لأي زمان ومكان بمنظور مستقبليّ يهدف إلى تجديد المعرفة؛ كي تبقى حية وقادرة على مواكبة مختلف الظروف والأحوال»[ص45].
ويدعو د. عباس الجرَّاري إلى استثمار ما تعرفه الثقافة اليوم من سهولة انتشار وسيولة تبادل، وإلى إزالة العوائق النفسيّة والمادية التي تحول دون الاندماج في العصر. فهو يرى أن على ثقافتنا اليوم أن تكون « قادرة على الصمود وفرض الذات على العولمة نفسها؛ أي بانخراط فيها لا يكون قائما على الانقياد والتبعية العمياء»[ص50]. ثقافة تساير حركة العولمة؛ أخذاً وعطاءً، وتتبادل معها آلية التأثر والتأثير، من خلال ما توافر في العالم المعاصر من آليات إلكترونية، وأساليب حديثة في تطوير الإعلام.
     وهذا الفكر المغربيّ بعد خمسة عقود من الاستقلال، لم يتمكن من مواجهة القضايا الحقيقية لرفع تحديات التخلف، وظل منشغلا بـ«مناقشات جدالية تجزيئية ورؤى ضيقة محدودة في الغالب»[ص56]. وقد أدى هذا الوضع بالفكر المغربيّ إلى التخبط في خيارات متناقضة أبعدته عن روح المواطنة، وعن الانخراط في الحياة الديمقراطية، وإن كان الكل يزعم أن متشبث بهويته!
(5) عجز العولمة عن نسف الهُوِيَّة الإسلاميَّة
تسعى العولمة بكل وسائلها إلى نسف خصوصية الهُوية الإسلاميّة، وإلغاء عالميّة الإسلام والحد من انتشاره بإلصاق تهمة الإرهاب به، وباعتباره خطراً يُهدد الغرب. ومن هنا يرى الغرب ضرورة محاصرة الإسلام وتشويهه عند الأمم، وإبعاد أهله عنه بشتى الوسائل. وما تناساه دهاقنة الغرب أن  لا وجود لهوية بدون دين، وأن هذا الغرب لم يتمكن بأنماط حداثته التي زرعها في ديار المسلمين عامة، وفي عقول مفكريه خاصة، منذ عهوده الاستعمارية الأولى؛ أن يقتلع هويتهم، وأن يحد من انتشار الإسلام في ديارهم، وأن يخترق حياتهم الخاصة بخصوصياته! وما تغافل عنه القوم أن العداء للإسلام يزرع كراهية العولمة في نفوس المسلمين.
(6)  الموقف من الذات والآخر
يضعنا د. عباس الجرَّاري في مواجهة أن نكون أو لا نكون. هل لنا موقف واضح من ذاتنا ومما يجري حولنا؟ كيف نواجه العولمة دون أن نصبح سلعة في أسواقها، ودون أن نتشيّأ ونتلاشى في عولمتها؟
يُطرح السؤال: ما السر الكامن وراء العولمة؟ إنه العلم. ومتى كان العلم وَقْفاً على قوم دون قوم؟ وكيف غاب العلم عن قوم خاطبهم الله عز وجل بـ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق؟
تراجع العلم في ديارنا حين رضينا بالهوان، وحين هَجَّرْنا خبرةَ عقولنا إلى غيرنا، وبقين – كما يقول د. عباس الجرَّاري – « منبهرين بالتقدم الذي أدركه الغرب»، ومنخدعين بادعاء وجود فجوة بيننا وبينهم. وللخروج من هذا القلق الحضاري الذي تعاني منه الهوية الإسلامية، يقترح د. عباس الجرَّاري الإجراءات الآتية:
-  الإيمان بالذات هو أول ما نحتاج إليه «لتجاوز احتكار التقدم واستغلال آلياته»[ص72].
– ضرورة مواكبة العولمة والتعايش مع أهلها، مع الاعتراف« بأننا نعاني أزمة مع ذاتنا، وأزمة مع غيرنا»[ص76].
– استثمار المشترك في الميادين العلميّة، وفي المجالات التكنولوجيّة والاقتصاديّة خاصة.
– تطوير اقتصادنا« وجعله قادرا على المواكبة والمنافسة والاندماج في دواليب الاقتصاد العالمية»[ ص74].
- البحث عن عوامل الالتقاء بين الطرفين، وتحديد ما لا يتصادم مع الآخر.
- استغلال الثقافة الإلكترونية للحد من ثقافة العولمة، وإحلال الثقافة الوطنيّة مكانتها من الهوية الإسلامية.

(7) الانخراط في العولمة وسبيل الوصول
وإلى جانب الإجراءات السابقة، يلح د. عباس الجرَّاري على تحديد أساليب الانخراط في العولمة مع الحفاظ على صفاء الهُوية الإسلاميّة في معترك هذه المرحلة.
(أ) التخلص من عقدة التخلف الثاوية في نفوسنا، وذلك يكون بتشخيص الأزمة التي نتردّى فيها، وإيجاد القدرة على تجاوزها.
(ب) الدخول إلى معترك العولمة ونحن على بيِّنة من هُويتنا الإسلامية؛ دون استلاب، أو انبهار، أو تبعية.
(ج) التماس ما يُعيد للأمة الإسلامية« وحدتَها وقوتها وخيريتَها»، في ضوء وسطيتها وسماحتها واستيعابها لكل جديد يتلاءم مع ثوابتها.
ويمكن القول إن د. عباس الجرَّاري يراهن في مشروعه الفكري هذا على ضرورة استعادة الأمة لوحدتها من منطلق هويتها، فـ«الإسلام وحده القادر على لمِّ الشتات»[ص88].
فعلى الأمة أن تغالب واقعها المتأزم لتُحقق وحدتها. فـ« الطريق الموصل إلى النجاح والفلاح هو طريق الاتصال والاجتماع المُفضي إلى الألفة والوحدة»[ص93]. أي حين يصبح !﴿ المؤمنون إخوة، ويكونون !﴿ رحماء بينهم. فالباحث لا يرى مخرجاً للمسلمين من هذا المأزق إلا بالتوحُّد والتشبث بهويتهم.
يقول:« وقد أثبت الفكر السليم، وأكدت جميع المذاهب والنظريات، وبرهن التاريخ والواقع؛ أن القوة بالنسبة للشعوب والأمم؛ تكون في التكتل والتجمع والاتحاد، وأن عكسها – وهو الضعف – يكون في التفرقة والتمزق والتشتت»[ص94]. 
فما هو ملاحظ « أن العرب والمسلمين يتحركون فرادى بانفعالات ذاتية؛ في حين أن العالم يريد أن يتعامل مع دول مجتمعة وموحَّدة؛ أي مع تجمعات وليس مع دول متفرقة»[ص104].
ومن هذا المنطلق نجده يدعو إلى مواجهة الخلافات السياسية والمذهبية، والتغلب على التناقضات والصراعات، ومواجهة مظاهر الجمود وما تفرزه العولمة من تحديات، وكل ذلك من منطلق هويتنا، وما تُمليه علينا عقيدتنا. ونجد د. عباس الجرَّاري يقرر أن سبيل الوصول يكون بتمسك الأمة بهُويتها وتحقيق وحدتها، وفتح باب الاجتهاد لديها، واستثمار طاقات أبنائها في شتى مجالات المعرفة، وتأصيل الحداثة لديها بمنظورها.
     وخلاصة رأي أستاذنا في قضية «هويتنا والعولمة» ما يلي:
أولا: علينا أن ننخرط في العولمة وأن نعمل على خلق التوازن داخلها، وبصورة تجعلنا «قادرين على تعديلها»، وإنقاذ الإنسانية من طغيانها.
ثانيا: إن مواجهة القضايا والمشكلات التي طرحتها العولمة على هويتنا «رهينة بمغالبة هذا الواقع وإعادة تأمل أمل الوحدة، بواقعية وعقلانية»[ص95].
وإذا لم نُعد تأملَ أمل الوحدة، فسننتظر الذي يأتي ولا يأتي، وسيردد أصحاب الهُوية الإسلاميّة مع د. عباس الجرَّاري قوله في خاتمة كتابه:
«هانت علينا نفوسُنا وقِيَمُنا ومقوِّماتُنا ومُقدساتُنا؛ فهُنَّا على خصومنا المتربصين بنا، ففعلوا بنا، ويفعلون ما يشاؤون»[ص103].
فكيف رضيت أمة العزة بالهوان؟ وكيف يقبل الهوان من حُمِّلوا الشهادة على غيرهم بحراسة منهج الله في الأرض إلى نهاية الساعة؟ أيرضون أن يظلوا يُحدقون في الفراغ ببلاهة؟
ملاحظة:

مقالة كتبتُها سنة 2008، ولم تعرف طريقها إلى النشر إلا هنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق