الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

موقف الجاحظ من الكُتّاب


عباس أرحيلة
تمهيد:
وضع الجاحظ (255هـ) رسالته (في ذم أخلاق الكُتّاب)؛ للكشف عن أخلاق هذه الفئة واغترارها باقترابها من السلطة العبّاسيّة، وما كان لها من محاولات لتحريف هُوِيَّة الثقافة العربيّة عن مسارها؛ فكان الجاحظ سدّاً منيعاً أمام ما ظهر من انحرافات هذه الفئة.

أولا: لمحة عن الوضع الحضاريّ العام
موقف الجاحظ هذا في ذمه لأخلاق الكُتّاب؛ نابع من وضعية الكُتَّاب في القرن الهجريّ الثالث، وهي مرحلة بدأت تتعقد فيها شروط الحضارة، وتبرز فيها ضرورة التّواصل بين الأمصار التي استقرَّ بها الإسلام، وإنشاء الدواوين لمواكبة تطورات الوقائع والأحداث في المجتمعات العربيّة.
مرحلة بدأ فيها صوت الكاتب يرتفع في البلاطات؛ يتولَّى فيها شؤون التسيير والتوجيه، ويَنْقُله قلمُه إلى السلطة والسيف، فيقترب من المناصب الوزاريّة. و قد أصبحت الكتابة - كما قال: علي بن خلف الكاتب(ق5ه‍) « من الصنائع الظَّاهرة الشرف، الحائزة للسِّيادة والنَّبالة» ([1]).
والمرحلة وإن شهدت تعدُّد الأجناس، وتعايشها في الحواضر العباسيّة، وبداية تراجع العنصر العربيّ، وحدة الاختلاف المذهبيّ والصدام مع الثقافات الوافدة والتفاعل بينها؛ فإن هذه المرحلة عرفت ترسيخ الهُويّة الثقافيّة للعرب عامة  وللمسلمين خاصة.
ثانيا: حاجة الدولة إلى الكُتّاب
ويمكن القول إن هذه الرسالة انبثقت من حاجة الدولة العباسيّة إلى الكُتَّاب، أي إلى موظفين يتولون مرافق الدولة ويسهرون على تسيير شؤونها. ولكن هؤلاء الموظفين في حاجة إلى توجيه وتكوين  بموجبه يصبحون مؤهَّلين للقيام بمهامهم الديوانية. وهذا التوجيه وطبيعة التكوين تقدمه هذه الرسالة، كما يُقدمه غيرها إنْ وُجِدَ.
فمركز السلطة تنوّعت مهامه، وزادت حاجته إلى الكُتَّاب، وبدأت تتحدّد لديه المواصفات التي ينبغي أن تتوافر في الكاتب؛ أي ما يجب أن يكون عليه الكاتب في شكله وتكوينه ووجاهته. وهذا الأخير بدأ يسعى بدوره جاهداً إلى معرفة تلك المواصفات ليحظى بشرف الكتابة والدخول في علية القوم، أصحاب الحل والعقد. وبهذا ارتفع صوت الكاتب في دوائر المسؤولية في عصر الجاحظ.
ثالثا: شيوع الإعجاب بالكُتّاب في المجتمع العبّاسيّ
يبدو أن الكتابة في الدواوين أخذت لها مسارات منحرفة، واندست فيها عناصر مشبوهة، وأن الكتاب أصبحوا يمثلون ظاهرة في المجتمع العباسيّ، لها مواضعاتها، أزياؤها، وأهميتها في  التسيير والتوجيه لشؤون الأمة. وهذا ما يكشف عنه موقف الجاحظ (255ه‍) وابن قتيبة (276ه‍) من كُتَّاب القرن الثالث.
وعن سبب وضعه لرسالته ( في ذم أخلاق الكتاب)؛ كتَبَ أحدُهم إليه يمدَح أخلاقَ الكُتَّابِ وأفعالَهم، ويصف فضائلَهم؛ فردّ الجاحظ قائلا:
 « فقد رأيتُكَ أطنبتَ بإحمادِ هذا الصِّنْفِ من الناس، وحكمتَ بفضيلةِ هذه الطبقة من الخلْقِ؛ فعلمتُ أن فرْطَ الإعجابِ من القائل متىَ وافقَ صناعةَ المدْحِ؛ رَسَخَ في التركيب هَواهُ ()، وكان حكمُه في صعوبة فَسْخِهِ، وتَعَذَّرَ دفعُه حكمَ الإجماعِ إذا لاقَى مُحْكَمَ التنزيل» ([2]).
وهكذا يبدو أن مكانة الكُتَّاب أصبحت راسخةً في القلوب والعقول، وأن الإجماع حولهم قد تقرَّرَ فلا خلافَ حوله.
رابعا: الكشف عن حقيقة كُتّاب زمانه
وأمام هذا الوضع راح الجاحظ يكشف، بعمقه المعهود، عن الأوضاع النفسيِّة والاجتماعيَّة والثقافيِّة للكُتَّاب فيقول عن كاتب زمانه:
« ثم هو مع ذلك في الذِّرْوَةِ القُصوى من الصَّلَفِ، والسنامِ الأعلى من البَذْخِ، وفي البحر الطامي من التِّيهِ والسَّرَفِ. يَتَوَهَّمُ الواحدُ منهم إذا عرَّضَ جُبَّتَهُ، وطوَّل ذيلَه، وعقَصَ على خديْه صُدْغَهُ (...) أنه المتبوعُ ليس التابعَ، والمليكُ فوق المالكِ.
ثم الناشئُ فيهم إذا وَطِئَ مَقْعَدَ الرِّياسَةَ، وحفِظَ من الكلام فَتِيقَهُ، ومن العلم مُلَحَهُ، وروى لبُزْرُجُمِهْر[3] أمثالَه، ولأَرْدَشِيرَ عهدَه، ولعبد الحميد رسائلَه، ولابن المقفع أدبَه، وصَيَّر كِتَابَ مَزْدَك مَعْدِنَ عِلْمِهِ، ودَفْتَرَ كليلةَ ودمنة َكَنْزَ حِكمتِه؛ ظنَّ أنه الفاروقُ الأكبرُ في التدبير، وابنُ عباس في العلم بالتأويل، ومُعاذُ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، وعليُّ بنُ أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام... ».
خامسا: من أخطار الكُتّاب على مسار الثقافة
فما عسى أن تكون أخطار هذه التوجهات على مسار الثقافة العربيّة؟ وعلى النّصّيْن المؤسِّسيْن للثقافة الإسلاميّة؟ وما المنتظر من مواقف الكاتب؟ يتابع الجاحظ القول:
« فيكونُ أولُ بَدْوِهِ الطعنَ على القرآن في تأليفه، والقضاءَ عليه بتناقضه، ثم يُظهرُ ظَرْفَه بتكذيب الأخبار، وتهَجينِ مَنْ نَقَلَ الآثارَ. فإن استُرْجِعَ عنده أحدُ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتَلَ عند ذكرهم شِدْقَهُ ... » ([4]).
إلى أن يقول: « فإن ألقيتَ عليهم الإخلاصَ وجدتَهم كالزَّبَدِ يَذهب جُفاء (...)؛ لا يَستندون من العلم إلى وَثيقة، ولا يَدينون بحقيقة، أخفرُ الخلق لأماناتهم، وأشراهُم بالثَّمَنِ الخسيس لعهودهم؛ الويلُ لهم مما كتبتْ أيديهم، وويلٌ لهم مما يكسبون»([5]).
سادسا: إحساس ابن قتيبة بضرورة الإدانة والتوجيه
وقد أحس ابن قتيبة بدوره، بعد الجاحظ، بضرورة تقديم ما يفتقر إليه كتاب الدواوين في القرن الثالث؛ من معاني الألفاظ والاشتقاقات والتراكيب؛ فوضع  لهم كتابه  أدب الكاتب.
فقد عاصر شأن الجاحظ انتقال الثقافات الأجنبيّة إلى الثقافة العربيّة، واستاء من انخفاض المستوى العلمي للكُتاب. فالكاتب في زمن ابن قتيبة أصبح أبعد غاياته « في كتابته أن يكون حسنَ الخط»، وتسمو درجاته حين « يُطالع شيئا من تقويم الكواكب، وينظرُ في شيء من القضاء وحَدِّ المنطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناهُ، وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب وهو لا يَدري مَن نَقَلَهُ»([6]).
وخلاصة القول إن الجاحظ كشف عن أخلاق كُتّاب الدواوين وخطرهم على الثقافة الإسلاميّة من خلال مرجعيتهم الثقافيّة، وجاء ابن قتيبة ليُنبِّه إلى ذلك، ويحدٍّد لهم خصائص الكتابة الفنيّة التي تضعهم في موكب السلطة.




([1])  مواد البيان، ص31. 
([2])  رسائل الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون: 2/188.
[3]  بُزْرُجُمِهْر: بضم الباء وسكون الزاي وضم الراء والجيم وكسر الميم وسكون الهاء، كما في: خير الكلام في التقصّي عن أغلاط العوام لعليّ بن بَالي القسنطيني 992هـ، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، ط 1987م، ص20.
([4])  رسائل الجاحظ: 2/191-192.
([5])  نفسه: 2/199.
([6]) أدب الكاتب، ص 5.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق