الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

الجاحظ روحٌ سارية في العصور


عباس أرحيلة

ترددت أصداء الجاحظ في النفوس والعقول على امتداد تاريخ الثقافة الإسلامية العربية. وكان من أسباب ذلك قدرتُه على الإبداع في كل كتُبه ورسائله، فالتقت عنده كثير من الميول، وتعلقت به النفوس، وانتشرت كتبه في الآفاق. وأصبح طالب العلم يشرُفُ عند ملوك الأندلس بلقاء الجاحظ (1).

يقول د. طه الحاجري إن الجاحظ» ظل معروفاً - على وجه ما – في خلال العصور المختلفة، وظل مصدراً ينهل منه ويصدر عنه كثير من الأدباء، حتى في أحلك تلك العصور ظلمةً، وأبعدها عن الروح الأدبية الصحيحة، كما كان الأمر في أثناء الحكم العثماني في البلاد العربية (2).
ولاحظ أنه منذ اتجهت الأنظار إلى إحياء الآثار العربية القديمة في النهضة العربية الحديثة، أخذ الجاحظ مكانه في هذه النهضة. »فالاتجاه إلى استحياء الجاحظ بنشر بعض آثاره صدر أول ما صدر عن روح النهضة المصرية الحديثة، وحركة الإحياء الأدبي التي كانت مظهرا من مظاهرها« (3).
لقد رسم الجاحظ بمواقفه وآثاره ملامح مثقف متميز من القرن الثالث للهجرة؛ ينفتح بصورة فعّالة وإيجابية على الثقافات الوافدة على المناخ الإسلامي العربي، وينماز بمتابعة ما يجري في الساحة الثقافية من حوله، وبالإسهام فيما يخوض فيه الناس من قضايا فكرية؛ خاصة أنه عاصر تشييد بيت الحكمة، وعاشر كثيراً من التراجمة، وتفاعل مع كثير من الثقافات الوافدة، إلى جانب شيوع مظاهر الحضارة الفارسية في المدن العباسية. وذهب د.شوقي ضيف، إلى أن الجاحظ هو الكاتب الوحيد الذي فرض نفسه على عصره والعصور التالية، خلال تاريخنا الثقافي(4).
وأثَر الجاحظ بارزٌ في ثقافة العرب عامة، ولا يختلف اثنان في حضور نزعته الإنسانية فيما بقِيَ بين أيدينا من كتبه ورسائله وأخباره.

وقال أستاذ الأجيال في المغرب د. أمجد الطرابلسي - رحمة الله تعالى عليه - إن الجاحظ» استطاع بأسلوبه الدافئ الحي الوثاب أن يجعل آثاره تنبض حياةً على مر العصور«  (5).

ويرى ميشال عاصي أن الجاحظ» يختصر العبقرية العربية في الفكر والأدب والإبداع« (6).
وقال د. محمود محمد الطَّنَاحي: »وقراءة الجاحظ فوق أنها تُمتع الوجدان، تُحرِّك العقل، وتفتح أبواباً من النظر، وتستثير دفائنَ من النظر. والكاتب العظيم – فوق إمتاعه – يستخرج من قارئه أشياء تظل حبيسة، هي من صميم الموضوع الذي يُعالجُه الكاتب« (7) .
ويقول أيضاً - رحمه الله تعال »وقراءة الجاحظ إذا أخذت بحقها قادت إلى المكتبة العربية كلِّها، بفنونها وعلومها المختلفة؛ إذ كان الجاحظ كثيرَ الإلمام بالعلوم العربية، لا يكاد يشذ عنه منها شيء« (8).
لقد فَرَضَ الجاحظ نفسه على العصور، وظلت مدرستُه البيانية مُشِعَّةً، حاملة لواء البيان. وظل الجاحظ نُسخةً فريدة في تاريخ الثقافة العربية، سعى المحققون أن يعثروا على ثانيةً لها، فما وقَفوا على شيء، منذ كان البحث في تراث العرب. وقد وجدوا مَن حاول أن يتشبه به أسلوباً ومنهجاً، ولكن عند المقارنة، اختفت المماثلة، فقيل: هيهات.
ويبدو أن طريقة الجاحظ في التأليف قد أصبحت راسخة في مناهج التأليف عند العرب، فهذا ابن النديم يقول عن ابن خلاد الرامهرمزي (الحسن ين عبد الرحمن 360هـ) إنه كان »حسن التأليف مليح التصنيف يسلك طريقة الجاحظ « ويقول عن الآمدي ( الحسن بن بشر371هـ) إنه كان»مليح التصنيف جيد التأليف متعاطي مذهب الجاحظ«(9).
وأكتفي هنا بقولين: أولهما لأبي حيان التوحيدي، وثانيهما لـلمستشرق الفرنسي: شارل بيلا.
أما قول أبي حيان في الجاحظ، فإن كلَّ عالم أو مثقف في التاريخ يتمنَّى أن يصدُق عليه، ويُقال فيه. قال أبو حيان التوحيدي:  » إنّ مذهبَ الجاحظ مُدَبَّرٌ بأشياء لا تلتقي عند كلِّ إنسان، ولا تجتمِعُ في صدر كلِّ أحد: بالطبع والمنشأ والعِلم والأصول والعادة والعُمر والفراغ والعِشق [ للكتابة ] والمنافسة والبلوغ؛ وهذه مفاتح قلَّما يملكُها واحدٌ، وسواها مغالق قلَّما ينفكُّ منها واحد  (10) «.
أما رأي شارل بيلا، فيدعو فيه الباحثين أن يُعوِّلوا في أبحاثهم على آثار الجاحظ، ويقول لهم» : ... على جميع الباحثين أن يُعوِّلوا عليه، ويرجعوا إليه عندما يشرعون في دراسة موضوع من الموضوعات، مهما كان جنسُه وشكله، حتى قلتُ مرة إني لو دُعيتُ إلى القول في تربية النحل، أو تحديد النسل، لما استغنيتُ عن الاعتماد عليه، والإشادة بذكره، لقد فهمتهم آنذاك الشخص الفريد والكاتب الفذ ليس إلا صديقي العزيز أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ « (11).

هوامش:
(1)                           معجم الأدباء: تحقيق: د. إحسان عباس، 5/2117.
(2)                         الجاحظ حياته وآثاره: د. طه الحاجري، ص63.
(3)                           نفسه، 7.
(4)                         العصر العباسي الثاني: د. شوقي ضيف، ص 610.
(5)                         نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب في اللغة والأدب: د. أمجد الطرابلسي، ص، 137 .
(6)                         مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ : د. ميشال عاصي – ط1 [ بيروت، دار العلم للملايين، 1974]، ص5.
(7)                         مقالات العلامة د. محمود محمد الطَّنَاحي صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب: 1/260.
(8)                         نفسه: 1/261.
(9)                         الفهرست: ص249.
(10)                   الإمتاع والمؤانسة: أبو حيان التوحيدي ( علي بن محمد 414هـ)، تحقيق: أحمد أمين – أحمد الزين : 1/66.
(11)                   الرسالة الهزلية من أبي عثمان إلى أبي الوليد: شارل بيلا، (ضمن: الكتاب: مجلة شهرية يصدرها اتحاد المؤلفين والكتاب العراقيين، عدد خاص بالذكرى الألفية لميلاد ابن زيدون ) العددان: 11 - 12، السنة التاسعة، تشرين الثاني– كانون الأول 1975، ص126.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق