بســم الله الرحمــن الرحـيم
والصلاة والسلام على رسوله الكريم
بقلم صديق عمره أحمد زيادي
قال الله تعالى في محكم التنزيل:
﴿"تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين﴾ ( القصص: 83)
أيتها
السيدات، أيها السادة
كما اجتمعنا من قبل حول صديقنا الكبير
الأستاذ محمد الصبري مستمتعين بكلامه الصادق، مستمعين لتحليله العميق للأحداث،
متتبعين معه خيوطها التاريخية والاجتماعية والسياسية المتشابكة، وكما اجتمعنا
بالأمس القريب حول جثمانه الطاهر مودعين وداعين له بالرحمة والمغفرة، ولأهله
ولأنفسنا بالصبر والسلوان، وحسن العزاء، ها نحن نجتمع اليوم لتأبينه مجمعين على
حبه لما اجتمع في شخصه الكريم من خصال وطنية صادقة، ومزايا إنسانية نادرة قلما
تجتمع في غيره، ومجمعين على الاعتراف بالألم العميق، والأسى البالغ على القيم
الأخلاقية والمهنية والإنسانية التي فقدناها بفقده.
هذا الاجتماع وهذا الإجماع ما كانا ليتما
بهذه العفوية والصدقية، وهذه اللحمة والحميمية لولا ما اتسم به فقيدنا العزيز ب(كارزمية)
فذة، ظاهرها البساطة والفطرية، والعفوية، وباطنها مكونات أصيلة انصهرت في شخصيته
كما تنصهر عناصر الأحجار الكريمة في بوتقة التفاعلات.
ولقد مر هذا الانصهار بمراحل امتدت من عتبات
الطفولة إلى مراتب الرجولة، وإني لأوجز ما عرفته منها في النقط التالية:
1ــ
النشأة الشعبية في المدينة الجديدة، وهي بالرغم من أنها نشأة حضرية فإنها لم تكن
مقطوعة الصلة بأصول الأسرة البدوية في كل من الشاوية ودكالة.
2ــ
النشأة الوطنية في المدارس الحرة، من مدرسة السنة بدرب الكرلوطي، وصاحبها الفقيه
عبد الرحمن النتيفي، إلى مدرسة الاتحاد الأخوي بدرب الكبير، وصاحبها المعلم
والمسرحي المعروف محمد مشعل المذكوري، التي التحق بها الفقيد سنة1957 ليتابع دروسه في المتوسط الأول، وفيه
تعمقت صداقتنا بعدما كنا نلتقي لقاءات عابرة وعادية أثناء الاستسقاء من سِقاية
الحي العمومية، وفي هذه المدرسة الصغيرة المتواضعة التي كانت أيضا مقرا لفرقة
مسرحية تحمل الاسم نفسه، تعرفنا على جوانب من النشاط المسرحي في الدار البيضاء،
وعلى بعض نصوصه، وعلى العديد من رجاله ونسائه الذين كانوا يترددون على المدرسة قصد
حفظ الأدوار أو التدريب عليها، بل إن المدير أتاح لنا المشاركة في كورال بعض
المسرحيات التاريخية التي أذكر منها مسرحية (أوديب) التي عرضت بالمسرح البلدي.
ومما
عرفته من أنشطة الفقيد وهواياته في هذه المرحلة وما بعدها أنه كان لاعبا لكرة
القدم موهوبا، وقلب هجوم مرموقا في فرقة الحي. وكان يهوى سماع الموسيقى والأغاني
الشائعة وقتئذ من بعض التلاميذ الذين كانوا يجيدون تقليدها. وأن ميله العام إلى
العمل الجمعوي قاده إلى الانخراط في جمعية الوعي (جمعية نادي الوعي فيما بعد) التي
حضر جمعها التأسيسي في إحدى دور الشباب بالحي المحمدي سنة1958، ثم اتسعت فأسست لها فروعا في الرباط
ومراكش ومكناس وفاس، وما لبثت أفكار أعضائها ومواقفهم أن تعمقت، ووسائل تحليلهم أن
تطورت في الستينيات؛ فتبلورت في مبادئ أساس ذات ركائز وطنية، وأبعاد قومية، تمحورت
حولها كل أنشطة الجمعية الخِدمية والتربوية والكشفية والتعارفية والاجتماعية
والثقافية والاقتصادية والسياسية، وهي أنشطة كانت محاور ندوات ومحاضرات ولقاءات
أنجزتها الجمعية بفاعلية ، ومن أهم تلك المبادئ:
ــ
إن الاهتمام بالقضايا العربية من أقدس الواجبات الوطنية والقومية الملقاة على
عواتق المثقفين والسياسيين الوطنيين
ــ
إن مفتاح معالجة القضايا العربية هو حل القضية الفلسطينية
ــ
إن الوعي المنهجي والموضوعي بجميع ملابسات المعركة العربية، القادمة لا محالة، هو
أهم سلاح ينبغي إعداده لخوض غمارها.
ــ
إن تضافر الجهود البناءة شيء ضروري لتوجيه الزحف العربي نحو الهدف المنشود.
ــ
إن استكمال الوحدة الترابية المغربية باسترجاع الأقاليم المغتصبة في الجنوب،
والمناطق المحتلة في الشمال، من أهم الضرورات التي ينبغي أن يتجند لها المغاربة
قاطبة، وهي حلقة أساس، وخطوة رائدة في سبيل تحرير ما تبقى من مناطق الأوطان
العربية تحت الاحتلال.
ــ
إن الجمعية حريصة على توعية الجماهير العربية بأهم قضايا أمتهم، ولا سيما القضية
الفلسطينية.
3ــ
النشأة الوطنية ذات الصبغة الحزبية غير المباشرة في ثانوية (الارميطاج) الحرة،
وذلك ما بين (1959و1963)، وقد كان أغلب
أساتذتها من أطر البعثة التعليمية العربية، التي نمت قدراتنا الأدبية واللغوية،
وغذت ميولنا القومية، وصقلت مواهبنا الفنية .
ومن أهم التحولات التي طرأت على الفقيد في
هذه المرحلة، التي سيكون لها تأثير في اختياراته السياسية بوجه عام، استقطابه من
قبل بعض التلاميذ المنضوين إلى خلايا الوداديات المدرسية التابعة للاتحاد الوطني
للقوات الشعبية.
بعد نيل الشهادة الثانوية (البروفي) سنة 1962، عزمنا على متابعة دراستنا الثانوية
في الشعبة العلمية بالمعهد المصري بالرباط، وكان ذلك بتدبير وإلحاح من الفقيد الذي
كانت ميوله الرياضية، ومواهبه في معالجة مسائل الجبر قد تفتقت في تلك المرحلة.
لكننا فشلنا في الحصول على سكن في متناولنا، فلجأنا إلى الخيريات والملاجئ ملتمسين
فيهما قبول إيوائنا، ولما خاب مسعانا فيهما أيضا، عدنا إلى ثانوية (الارميطاج)،
فتابعنا دراستنا بالسنة الرابعة (الأولى ثانوي حاليا).
التكوين
في علوم التربية، وعلم نفس الطفل، وطرائق التدريس، بمدرسة المعلمين، والحق أنه لم
يكن يدور في خلدنا من قبل الالتحاق بها، لذلك حرمنا أنفسنا من منحة كنا في حاجة
إليها بالرغم من بساطتها، كانت تسلم لمن يعلن عن نيته في ذلك .
في هذه المحطة من مسيرتنا التعليمية المهنية
حدثت بعض الأحداث، منها ما هو بسيط في ظاهره، ومنها ما هو عميق يؤشر لتحولات جذرية
في حياة الفقيد.
أما البسيط فيتمثل في تردده في آخر
لحظة في الالتحاق بمدرسة المعلمين، مما فوت عليه فرصة التسجيل الرسمي، فسجل في
لائحة الانتظار، ثم ألحق بلائحة الطلبة الممنوحين.
وأما العميق فيتمثل في نشره قصة في العدد
الأول من نشرة المدرسة المسماة (الحزم)، سنة1963، سماها (ارحمني يا أبت)، ورواها
بضمير المتكلم، انطلق فيها الراوي أو السارد من وصف الواقع البئيس الذي كانت عليه
أسرته ، ثم قدم والده الذي" كان يلوح من قسمات وجهه تاريخ محمل بالمآسي
والنكبات." وقال عن نفسه:"يكاد الإملاق يُنطق عينيه اللتين أضناهما ظلام
الليل من جراء المذاكرات على ذلك الضوء الخافت، ضوء الشمع.". لينتهي إلى
الكشف عن مرمى القصة، فقال على لسان والده:" فما أجمل اليوم الأبيض الذي
يزداد فيه بصري، وتشع فيه روحي، يوم أراك متوجها صوب الجامعة بخطوات ثابتة ، محرزا
على مقعدك في كلية الحقوق، نعم كلية الحقوق."
وشيئا فشيئا بدأت الفوارق بين القاص من جهة،
والراوي من جهة ثانية تتلاشى. وبدأ الصراع النفسي الدائر بين الاختيار الإذعاني
الخاص المرضي لإرادة والد الراوي، والاختيار الذاتي المثقل بعبء الواجب الاجتماعي،
الذي يمثله الراوي، بدأ يطفو على سطح السرد ليتجاوز السارد إلى القاص نفسه ، ويكشف
لنا عن العوامل الكامنة وراء طروء الحدث البسيط المشار إليه سابقا، وأعني به تردد
الفقيد بين الانخراط رسميا في سلك التدريس، وبين الاستمرار في دراسته الثانوية إلى
غاية الحصول على شهادة البكالوريا، التي لم يكن قد بقي بينه وبين اجتيازها آنذاك
إلا سنتان. وإن فلتة اسم (المعهد) لتؤكد هذا التطابق بين الذاتي والموضوعي في هذا
المنحى من القصة.
وأستسمحكم هنا في استطراد مفيد في إضاءة هذا
المقطع من القصة؛ فقد عرض علي الفقيد بعد نشر القصة بحوالي شهر مشروع الترشح الحر
معا لاجتياز شهادة البكالوريا، فاعتذرت له مخافة أن يشغلني الاستعداد لها، عن
الاستعداد النظري والعملي لامتحان التخرج. ووعدته بالعمل على تحقيق هذا الهدف في
السنة الموالية. وهكذا أقدم الفقيد على المغامرة فنجح في التخرج والبكالوريا
جميعا.
ويبلغ التطابق مداه حين تولى القاص بنفسه،
وفي نفسه مناقشة والده في ما كان يدعوه إليه دون اعتبار لرأيه الشخصي:" يا
أبت إني أنظر إلى الحياة بمنظار، وأنت تنظر إليها بمنظار آخر؛ فكم يؤلمني، حين
أحمل محفظتي متجها إلى المعهد، تلك النظرات المنبعثة من أناس الحي، أشعر بها
وكأنها سهام تخترق أضلعي، وتنفذ إلى كبدي قائلة: هلا تنقذ أباك من (ويلاته)
ومأساته بهذا القسط من الثقافة الذي يخول لك الحصول على لقمة العيش، ألا يؤلمك
منظر أبيك والشرطة تطارده بين أزقة الحي، وهو حائر في ما عساه فاعله: أيترك الأسرة
تموت جوعا؟ أم يتحمل ذل الأنظار المتجهة إليه وهو يحمل بين يديه تلك الحفنات من
البرتقال؟ نعم يحملها ويحمل آماله وآلامه."
استيقظ الوالد المحطم على سماع صوت ابنه
الحائر المتردد، وقد ارتفع، فقاطعه قائلا: "يا بني فرضاي متوقف على تحقيقك
أملي."
وأمام إصرار الوالد على وجوب تحقيق رغبته
الخاصة، ألح الولد على معرفة السر الكامن وراء ذلك، فحكى الوالد مأساته التي رأى
أنها ابتدأت بما يريد ابنه القيام به، أي بانفصاله عن الدراسة، وذلك ليعول نفسه
وأسرته، فاشتغل عاملا، لكن القدر لم يمهله، إذ حيكت ضدا عليه مكيدة اتهم فيها
بالسرقة، وشهد عليه فيها بعض العمال زورا. وقال: " ولولا ذلك النور الذي بعثه
الله إليَّ لينقذني من أعماق السجون لما وُجدْتَ أنت، نعم أنت، إنه ذلك المحامي
صديق الصبا والمدرسة، ولذا أهيب بك (إلى) مواصلة الكفاح."
هكذا تنكشف مطامح الفقيد الثقافية،
وتتحدد ميوله واقتناعاته النضالية المبكرة، وهو ابن الثامنة عشرة، تلك المطامح
والميول التي تشبعت بإيمانه العميق بأن أي فرد من أفراد المجتمع يتعرض للظلم أو
الإهانة فإنه يكون بمثابة أقرب الناس إليه، وأنه يتوجب عليه أن يقف إلى جانبه
مناصرا له، ومدافعا عنه.
وإذا كان ما تقدم من مقاطع هذه القصة يلامس
تارة جوانب من واقع حياة الفقيد الأسرية، ويطابقها تارة أخرى في جوانب من شؤونه
الشخصية كما عرفناها بالمعاشرة ، فإن خاتمتها استشرفت مستقبله الشخصي استشرافا
جفريا، كان بمثابة وعد صادق، أو قرار جازم أخذه الراوي على نفسه، في ذروة التطابق،
وعمل الفقيد، معادله الموضوعي، على تحقيقه في ما بعد.
هكذا يقول الراوي في خاتمة القصة، وكأنه
يتحدث عن سيرة القاص الذاتية والمهنية التي يعرفها أصدقاؤه المقربون، وزملاؤه في
المهنة، وذلك قبل حدوثها الفعلي بحوالي ثلاثة عقود:
" مرت الأيام، وحصل الابن على
البكالوريا، ثم الليسانس، وتعاطى مهنة المحاماة، فلم ينس قصة أبيه، واشتهر بدفاعه
عن الأبرياء والطبقات الشعبية المحرومة من سعادة الحياة، بل حتى من حقوقها في
الحياة."
فمن
أين استقى القاص/الراوي هذا الاستشراف العجيب؟ وهذا التوقع الخارق لحجب الزمن
البعيد؟
لاشك أن لعوامل النشأة الأسرية والبيئية
أثرا قويا في تنمية الميول الروحية والصوفية في شخصية فقيدنا؛ فقد كان والده رحمه
الله ينحدر من قبيلة (الفقرا) ، ولا تخفى الدلالات الصوفية التي يحملها اسمها، وهي
فرع من أولاد حريز الكبرى، الذين يعدون من أتباع الولي عمرو بن الحسن، وكانوا
يقيمون له موسما سنويا مشهودا، في نواحي منطقة (بزو)، تشد إليه العائلات الرحال
بكبارها وصغارها ويروون عنه مشاهدات وبركات هي من العجائب الغريبة. وكان بيت أسرة
الفقيد مزارا لمريدات هذا الولي المدعوات ب(الكنبوشيات)، أوبنات مولاي عمرو.
وقد كان الفقيد يصدر في الكثير من أقواله
وأفعاله عن صوفية دفينة، وعفوية أصيلة، وفراسة صادقة، نعلم أنها كثيرا ما أرشدته
إبان العديد من الامتحانات إلى تخمين موضوعات الاختبار بصيغ أقرب ما تكون إلى
الصيغ التي ستطرح بها فعليا، وأنها وجهته، حين عزم على إعداد رسالة لنيل دبلوم
الدراسات العليا في الآداب، في أواسط السبعينيات، إلى اختيار موضوع حول صوفية
الشيخ محمد الحراق، والفقيد آنذاك في أوج النضال السياسي اليساري.
وبالعودة إلى القصة، نجد أن القاص يأبى إلا
أن يختمها بحدث يحمل الكثير من الإشارات والدلالات على أن الراوي كان ضمير القاص،
والناطق باسمه، والشاهد الذي يرسم بإرادته هوية شخصيته المستقبلية، ويحفظ
التزاماته الوطنية أما المجتمع، يقول:
" ذات يوم دخل عليه صديق من أصحاب
المهنة حاملا معه نبأ زلزل مسامعه، وكاد يُفقده وعيَه، نبأ اعتقال منقذ أبيه،
وتذكر قصة والده المحزنة، والدور الذي لعبه السجين المحامي فيها. فشمر على ساعده
لواجب مقدس، ودين عليه.
دارت عجلات الزمن، وطال الدفاع المرير، وزهق
الباطل، ثم التقى الرجلان على مسرح الحياة."
وأهم ما يستوقفنا في هذه الخاتمة المركزة،
ما بثه القاص/الراوي في صياغتها من عبارات حبلى بالدلالات على خصال حميدة يتحلى
بها بطل القصة، وهي في الوقت نفسه خصال يُجمع كل من يعرف الفقيد أنها من أبرز
القيم التي تحكم تصرفاته، ومن أظهر الشيم التي تميز معاملاته، وهي:
ــ
اعتباره مهنة الدفاع عن المظلومين واجبا مقدسا، ودينا في عنقه.
ــ
الوفاء لمن أسدى إليه، أو إلى أهله، أو إلى المجتمع خدمة ترفع ظلما، أو تقر حقا.
ــ
تفاعله وجدانيا واجتماعيا مع القضايا التي يوكل فيها، وعدم الاكتفاء بالنظر فيها
قانونيا.
ــ
التعامل مع كل القضايا المعروضة عليه بجدية فائقة، حتى ولو كانت لا تتطلب إلا جهدا
يسيرا، وهذه الخصلة خبرناها في الفقيد منذ الدراسة الابتدائية؛ إذ لم يكن يكفيه،
رحمه الله، في الدروس جميعا مجرد الاطلاع والفهم والتلخيص، بل كان يلزم نفسه
إلزاما بحفظها عن ظهر قلب.
ــ
الصبر على السير البطيء لماجريات الدعاوى، والإعداد لمواصلة الدفاع بحسب
ما
تقتضيه درجات التقاضي، ولو كتب لنصوص القضايا المتنوعة التي دافع فيها أن تجمع
وتنشر لكانت أبحاثا قضائية تتسم بالاجتهاد والتحليل القانوني، والمناقشة الفقهية،
والتوسع في القياس والتكييف والاستنباط، ونفض الغبار عن كثير من نصوص الأحكام التي
ترقى إلى مستوى القواعد والمرجعيات القانونية القابلة للتوظيف والتفعيل
والاستشهاد.
أيتها السيدات، أيها السادة
غير خفي عنكم أنه ما كان يمكن لفقيدنا
العزيز أن يكون في شبه تفرغ للنضال السياسي والنقابي والحقوقي والاجتماعي، والدفاع
المستميت عن المظلومين من مختلف طبقات الأمة، ومناصرة القضايا الوطنية والقومية
والإنسانية، لولا أن الله سخر له زوجا فاضلة شريفة، عرفت قيمة رسالته النضالية،
وخبرت ما فيها من غيرة وطنية صادقة، غير مشوبة بأي مطمح شخصي، أو دافع ذاتي، وذلك
منذ سنوات الدراسة الجامعية في فاس، فقررت أن تشاركه شرف مساعدته؛ فهيأت له
الظروف، وأتاحت له الأسباب لأدائها على أكمل وجه، وصرفت همتها للجمع بين أداء
رسالتها التربوية والتعليمية، ورسالتها الأسرية التي من شأنها شغل زوجها عن النهوض
بمسؤولياته الثقيلة، أو التفريط فيها، فحمت ظهره وأسندته، وتولت قضاء ما قصر عنه
جهده، وضاق عنه وقته، وقوت عزيمته، وشدت أزره حين ألم البلاء، واشتد الخطب، ووفرت
له السعادة حين ضاقت سبلها، وأضاءت له بارقات الآمال حين تكدرت سماؤها، وعاشرته
بالحسنى والمودة واللطف والمعروف، وكانت له نعم السكن، ونعم اللباس، ونعم الأليف،
وكانت مضرب الأمثال في الصبر والرحمة والإخلاص، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين قال:" الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة." (رواه مسلم.)
أيتها السيدات، أيها السادة
في نهاية هذه الكلمة، يطيب لي أن أقتبس
عبارة لـ(ألبير لوندر) الصحافي والباحث في تاريخ الملاحة في البحر الأبيض المتوسط،
وصف بها مكانة منارة البحر في إرشاد السفن ليلا، لأقولها في حق فقيدنا العزيز،
قال:" إذا رأيت المنارة قل في سرك إن هذه المنارة يتحدث عنها الناس أينما
كانوا، وفي كل الأوقات، وحتى إن لم يتحدثوا عنها فهم يفكرون فيها." ذاك حال
فقيدنا الكبير السي محمد الصبري تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله
ومحبيه الصبر والسلوان، و" إنا لله وإنا إليه راجعون." والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته.
أحــــمــــد زيــــــأدي. الدار
البيضاء في:12ربيع الأول1437/ 24 دجنبر2015.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق