الخميس، 10 سبتمبر 2015

تصدير كتاب حامد بشير بالخالفي: أوراق متناثرة من أنامل ساهرة

تصدير:أ.د. عباس أرحيلة


أولا: ما الغاية من نشر (أوراق متناثرة)؟
إنها الرغبة في الانتصار على الزمن، ولو جاء ذلك في المرحلة الأخيرة من العمر!
 والانتصار على التخصُّص الذي غالبا ما ينطمر المتخصص في مجالاته!
أو هو الإحساس بأنَّ التَّجربة جديرة بالتَّسجيل والتَّأمّل لما تحمله من أصداء عن المرحلة المعاصرة من تاريخ المغرب من أواسط القرن العشرين إلى يوم الناس هذا، وما يمتلكه صاحب تلك التجربة من معرفة بما شهدته المرحلة من أحوال وأطوار.
 أو قل هي الأفكار حين يضيق بها الصدر وتريد الانعتاق من سجن الصمت، فلا طاقة لقلم أمام" «نبضات قلب...قطرات جهد... كلمات تصطفُّ...؛ فتنبع منها معانٍ تنقل الأفكار التي كانت سجينة الفكر».
وبالرغم ممَّا تراكم من أمراض جلبها تقادم  العمر، يصيح حامد: « أريد أن أحطِّم القفص الذي يمنع أفكاري من الانعتاق والتَّحليق في عوالم النور... قَدَرُ أفكاري أن تبقى حبيسة داخل القفص الرَّهيب، لكن لا يعني هذا أنها تستسلم وتنهزم وتتبدّد وتُصبح أثراً بعد عَيْن... ».
 أو هو سحر العربيَّة حين يَهَبُ الذَّات الرَّغبة في الكتابة، ويجعلها تلْمَسُ في كيانها استعداداً للتعبير عما يختلج فيها من آلام وآمال، وتحدوها الرغبة  أن تصبح تطلعاتُها سارية في نفوس الأجيال.
تناثرت هذه الأوراق لما ضاق بها صدر مُتْرَع بهموم المرحة التي تعيشها الأمَّة العربيَّة، وترى صاحبها يتساءل بلغة المهندس؛ عمّا حدث للمجتمع العربيّ الحديث؛ قائلا: «مجتمع تعطّل مُوَلِّدُهُ الحيويُّ، وفَقَدَ طاقتَه، وأصبح يستمدّ طاقتَه من مُوَلِّدٍ آخر لا يمُتُّ إليه بصلة...».
وسنرى أنَّ هذه الأوراق نثرتها روح مسكونة بحب الحقيقة التي افتقدتها في تراكمات عالمنا المعاصر.
فلا يريد صاحبُها أن تظلَّ أفكاره، حبيسة القفص حين يكون عبارة عن مُتحف للأفكار ألأثرية التي لم تتحوَّل إلى أعمال. ويقول: « لا بدَّ للأفكار أن تُزرَع وتنبُت وتنمو ويشتَدُّ ساقُها، ثم تتفرّعُ وتنبسِطُ أوراقُها وتُثْمِر وتنضُج ثمارُها؛ لكي يطلع عليها القراء، ويحلِّلها النقاد، ويتدارسها الطُّلَّاب».
ولا نعجب إذا وجدنا الرَّغبة في التَّعبير والتواصل والبوح تتناثر في هذه الأوراق، ونجد صاحبها يرى أنَّ أكبر همّ في الحياة «هو هَمُّ التغلُّب على عقدة الصَّمت؛ تلك العقدة التي سبَّبتها وضعية الإنسان المقهور الذي لا يجد مخرجاً لمحنته، والإنسان المهدور الذي فَقَدَ كرامتَه الإنسانيَّة».
وهكذا أراد صاحبها أن يُخرجها من طي الكتمان ليُصبح ما تحمله من أفكار مجالا للأنظار – والمأمول أن تصير إلى الأفعال – وأن تُستثار بها الهِمَم، وتستنير بها القيم.
 ويرى أن أفكاره «لا تنخدع بمفاتن الدُّنيا، وألاعيب أهل الدُّنيا»، ويقول: «  أفكاري تبحث عن الحقيقة وتعشَقُها، وتهيم في هواها».
وهكذا تناثرت هذه الأوراق وتطايرت في سماء القرَّاء نتيجة تحطيم عقدة الصَّمت. والغاية البعيدة أن تنضُجَ الثمار وتؤْتي أُكُلها...
وإذا كان« التّواصل مع الآخر ضرورة اجتماعيّة»؛ فإنَّ صاحبنا يعتبره في حكم الأعمال؛ يصدق عليه ما يصدق عليها من أحكام؛ بناءً على قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما كان لله دام واتَّصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل».
وتحمل هذه الأوراق في عمقها الأدبيّ  أصداء طفولة بريئة حالمة، يمتدُّ خيالها إلى آفاق بعيدة. نشأت في بيئة دينيَّة داخل أسرة حافظت على فطرتها واستقامت على منهج ربِّها. انحدرت أصولها من قبيلة الرحامنة الجنوبية، في لحظة حرجة من نهاية الاستعمار الفرنسيّ الذي كان جاثماً على المغرب ومقوِّماته وخيراته. ففتح حامد عينيْه على أب دأْبُه الإخلاص والتَّفاني فيه، يسكنه حبُّ الوطن فيصبح منخرطاً في المقاومة بصورة تلقائيَّة.
وانطلقت حياة حامد من الكتاب وهو يحمل لوحه الخشبي أمام فقيه الحيّ، وفي المساء بعد عودة الوالد من المسجد، يقصُّ عليه ما رآه من عجائب وما عاشه من غرائب، مع ما كان يتمتَّع به من براعة السَّرد، أما خالة حامد فلها في قصص من عوالم العفاريت.
 وخاض مراحل التَّعليم إلى أن بلغ منتهاه، وبعد أن قضى سنوات ستّ في الدِّراسات الهندسيَّة تدرَّج في مدارج الهندسة بشكل عمليّ إلى أن  بدأت ملامح الكهولة تعرف طريقها إليه، مع ما استتبعها من أمراض تراكمت عليه، وأصبح بعضها مزمناً. ويبدو أنَّ الأمراض رافقت صاحبنا منذ صرخته الأولى إلا أنَّه ظلَّ مقاوماً لها بإرادة صلبة لا تلين ولا تستكين.
ثانيا: وكان حامد صاحب قضيَّة
تناثرت هذه الأوراق عبر الزمن المغربيّ من بداية النِّصف الأول من القرن العشرين إلى اليوم، وما شهدته هذه المرحلة من تحوُّلات على المستويَيْن العالميّ والمحليّ.
وصاحب هذه (الأوراق المتناثرة)؛ باحث مفكر صاحب قضية، يرى أنَّ الوجود لا يستقيم بغيرها.
 فهذه الأوراق وإن تناثرت، فإنك تجدها مسكونة بروح متوثبة ذاقت حلاوة الإيمان فراحت تنشد الحقَّ، وهاجس المسؤولية يمور في كيانها، في أفق نزوع إصلاحيّ يبدأ من تربية الفرد وتكوينه إلى ضمان السيادة له في الأرض؛ سيادة يستحقُّ بها الاستخلاف بمقتضياته من العزَّة والكرامة.
يقول: « إنَّ الأمم والشعوب لا يستقيم حالها إلا بحركيَّة الإصلاح التي لا تتوقفـ، وبالثَّورة الخلاقة التي تنبع من رحمها».
صاحبنا مسكون بهمٍّ كبير؛ المنطلق فيه بناء الإنسان الصالح؛ صاحب الإرادة القويَّة؛ صاحب الموقف الرَّاسخ؛ الذي« لا بد أن يكون مهموما بقضية تؤرِّقه، ومن أجلها يعيش أو يموت».
وقد وجد أنَّ هموم الناس لا يعرفها من كان غريباً عن معترك حياة الناس؛ فمن لم يولد في رَحِمها، ولم تعجنه الفتَن في قصعتها، ولا صاغته المحن في فرْنِها؛ لا يمكنه أن يدَّعي أنَّه الخبير العارف بهموم الناس، على حدّ تعبيره.
ولصاحبنا طموح في وَضْع منظور لهموم  الأمة« يرتبط بالتَّأصيل الإسلاميّ قرآناً وسنَّةً وسَلَفاً صالحاً»، ويكون عنوان تلك الهموم« هموم العزَّة والكرامة هموم العمل... وهناك علاقة حميميَّة بين هموم الناس وهموم الأمَّة؛ لأنَّ هموم النَّاس هي شبه إفرازات من هموم الأمَّة».
ثالثا: صوت ليس كغيره من الأصوات
صوت التَقَى فيه الطفل بأحلامه وفطرته، وامتزج فيه الشابُّ برومنسيَّته وطموحه، والتقى فيه  الكهل بخبرته وتجربته، اجتمع فيه صوت الباحث في العلوم الحقَّة، بصوت الثَّائر المصلح المناهض لمظاهر الجور والاستبداد، واجتمع فيه صوت عالم الاجتماع المربي الخبير بأحوال النفس البشريَّة، ومعاناتها في صراعها اليوميّ ويتوارى خلف ذلك الحكيم المسلم وهو يرسم للبشرية طريق خلاصها بعودتها إلى المِصَحَّة الربانيَّة أي إلى مصحة الخلاص الإسلاميّ.
لقد جلجل فيما تناثر في هذا القسم من المقالات، صوت يدعو إلى إنقاذ البشرية من الانحراف عن منهج الله، والدعوة إلى الاستقامة على ما يستشعر به الفرد ميثاق الأمَّة التي تحمَّلها الإنسان بإرادته وبها استحقَّ الخلافة في الأرض.
وجَد حامد أنَّ أمَّة التَّوحيد افتقدت قيمها الإسلاميَّة، وخانت ميثاق الأمانة في البيت والمجتمع والدولة؛ واحتدم الصدام فيها بين أهل الحقِّ وأهل الباطل. فَرَانَ عليها الجهلُ ونال منها الظلمُ والاستبدادُ، و« أصبحت الأمة جثَّة هامدة لا علاقة لها بهُوِّيَّتها وبعقيدتها وشريعتها، وأرضها وتاريخها وحضارتها، ولغتها وثقافتها».
ولاحظ أن الرذائل « انتشرت بين النَّاس كالنَّار في الهشيم، وانقلبت الموازين؛ فأصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً».
 لقد ذَكَّرَنَا هذا الصوت بأصوات الرواد الأوائل من عصر النَّهضة العربية الحديثة، حين قرَّر أنَّه لا يمكن لأيِّ مجتمع« أن يتحرَّر من التَّخلُّف والتبعيَّة إلا إذا وضع تخطيطاً استراتيجيّاً لبناء الإنسان الأمين القويّ».
مع ما يتميّز به صاحب هذا المشروع الفكريّ من حسٍّ تاريخي، وإلمام واسع بالتحوُّلات الحضاريَّة التي عرفتها البشرية خلال تاريخها الطويل، مع معرفة واسعة بالوضعية التاريخيَّة للمجتمع العربيّ؛ الذي خرج من الإقطاع والاستبداد والشعوذة ليصبح لقمة سائغة للاستعمار القديم الجديد، كما قال.
لقد تمَّ التَّركيز في هذه الأوراق على أهمِّيَّة القيم في بناء الأمم، وعن البُعد الاجتماعيّ للإنسان ومدى أهمِّيَّة صلاحه، ودور التربية في تنشئته وبلورته داخل بنية اجتماعيَّة حيّة منسجمة ومتكاملة. بنية تعتز بهويتها عقيدةً ولغةً وتراثاً، ولها مقوِّمات الدِّفاع عن أساليب التَّخريب والتَّغريب في البنيات التربويَّة والثقافيَّة في المجتمعات العربيَّة.
 وحمل ذلك الصوت في طياته رؤية إنسانيَّة؛ تتأمل فيما آلت إليه التجربة البشريّة على الأرض، وما جرى فيها من «أحداث حيَّرت خبراء المستقبليَّات فألقوا أقلامهم... بعد فشل النظام العالميّ على كل الأصعدة: فشل في وضع حدٍّ لتلوُّث البِيئة، فشل في وضع حدٍّ للفقر والعوز، فشل في وضع حدٍّ للظلم والعنف، فشل في وضع حد للفتن المحن».
وعن موقفه من مسار الحضارة الغربيَّة؛ لاحظ أنَّها « من حيث العقيدة، أصبحت الفلسفات المادية تهيمن على العقل الغربيّ... أمَّا من النَّاحية الأخلاقيَّة؛ فمنظومة الأخلاق الموروثة مجرد عُقَد نفسيَّة، تعرقل المسار الرَّفيع للحياة».
 ولكن الأمل لديه فيما تشهده البشريَّة من صحوة تُطَلِّقُ فيه « الأيديولوجيَّات وأخواتها»، وتخرج به من « دوامة الأكاذيب والأضاليل وهي معصومة الأعين؛ لتحسس عيونها بشائر النور، وتتلمس فيه القلوب معالم الخير... ».
وأخيراً،
إذا أردتَ معرفة طبيعة هذه الأوراق المتناثرة، فما هي في قول صاحبها غير «  مكنونات متزاحمة داخل كيانه غير آبهة بما قد تعانيه عندما يتفجَّر من جديد بركان الأمراض... ».
أو قوله « إنَّه صبَّ فيها تأمُّلاته المنبثقة من داخل كيانه الذي شيبته آماله وأحلامه»، حين كان بصدد الحديث عن   التربيَّة والتَّكوين.
وما تناثر في هذه الأوراق عبارة عن صوت ينطلق من وضع مغربنا الحديث ليمتدّ عبر الكون في معاناته نتيجة التحوُّلات التي عرفتْها العصور الحديثة.
صوت يوقظ غفلة التَّائهين في دياجير الضياع، ويدعو إلى « الإبداع الذي لا ينقطع في حركة متواصلة؛ مرتكزاتها: الحرِّية والكرامة والأمن والعدالة...».
وهو في كل ذلك يسعى جاهداً أن يُؤصِّل بعض المفاهيم برؤية إسلاميَّة تعيد للإنسان إنسانيَّته، وللفرد كرامته.
أيُّها القارئ... كان هذا ما عنَّ لي من قراءة هذه (الأوراق المتناثرة من أنامل ساهرة) ، أمَّا أنت فأدعوك أن تستجْمِعَ ما تناثر منها، فستكتشف فيها أديبا، ومفكراً، ومربياً، وعالم اجتماع، ورجل إصلاح، وصاحب مبادئ ظلَّ يرتقب الغد الأفضل، وهو في مساره في الحياة يستنير بنور الله؛ مستهدياً بالحقِّ، داعياً غيره إلى الالتزام بمنهج الله، وإلى الاحتكام إلى الكلمة السواء...
زمن الصقيع
كانت فترة صمت ثقيلة؛ فترة خنقتْ ظلمتُها الأنفاس، وزرعت في دنيا النَّاس الرَّصاص... طال الليل وساده سكون، وباتت العواصف الثلجيَّة توقظ الدِّيار بهديرها، وكلما زمجرت الرياح؛ تصاعدت الأنفاس، واشتدّ الانتظار، متى تذوب الثلوج، متى ينتهي الصقيع؟
تُرى ماذا فعل الله بصاحبنا وسط الصقيع؟ هل يغامر فيقتحم الثلوج ويخرج؛ وقد تكتسحه فيضيع في مهبّ الرياح؟ أم يهدأ  وينتظر ذوبان الثلوج ليخرج ويكسر عنه الصمت؟ 
قادت الحكمة  صاحبنا أن يهدأ وينتظر.  وفي عزِّ الصَّقيع قرّر « أن ... ينكمش فترة من الزمن كما ينكمش الدبُّ القطبيّ وقت الصقيع، فإذا كان هذا الحيوان الأصيل لا يتمدد بفطرته السليمة أثناء العواصف الثلجية؛ فصاحبنا المهموم يدرك بوعيه السَّليم وبحكمته الهادئة أن الظرف ليس للرأي والرأي المعاكس... » [ ص132][1].
لم يكن هناك ما يحمي صاحبنا من شراسة الصَّقيع، وقوَّة العواصف وهبوب الرياح. ومتى كانت الرياح تسمح بمعاكستها؟ أو تقبل أن يقف أحد في طريقها، أو يهُبَّ في وجهها...؟
وكانت محاولة للخروج زمن الصقيع
فكّر صاحبنا في إشاعة الدفء والحرارة في محيطه لمواجهة الصقيع؛ عن طريق الاحتكاك الذي يولد الحرارة؛ فتعددت محاولاته لإذابة الثلوج عن طريق حرارة (التواصل) و(الاتصال) و(الحوار)؛  غير أن الثلوج زاد تراكمها، وارتفعت أصوات الرياح، واشتدّت قساوة البرد. وأدرك صاحبنا « بعدما حاول التَّواصل مع كل فئات مجتمعه على اختلاف مشاربها؛ مستعملا كل ما في جعبته من أدوات الحوار والاتصال؛ أنَّ الآذان صمَّاء، وأنَّ كل حزب بما لديهم فرحون، وأنَّ كل قيس يتغنى بليلاه» [ص132].
ذهب ما في الجعبة من أدوات الحوار هَباءً، وعجز احتكاك الأفكار أن يبعث في الجوِّ حرارة؛ وحينئذ أدرك صاحبنا أنَّه كان يصيح في واد عميق تكسوه الثلوج، وأن الذوات البشرية انكفأت على ذواتها، وأقامت الآذان حواجز سميكة ضداً على بواعث الحرارة فيها.  عاش كل واحد – ممن عرفهم - يتغنى بليْلاه... اختار أن يعيش لها وحدها؛ يقتات بخوفه عليها، ويظل سادراً في هواها شأن بني جلدته.
بعد فشل صاحبنا في كسح الثلوج، وذهاب محاولات إثارة الحرارة في النُّفوس، وما ران عليها من تكلّس وجمود، وبعد يأس من تحريك الهِمم بإحكام روابط الاتصال؛ لم يجد بدّاً «من الانفصال ولو لبرهة من الزمن ليلتقط أنفاسه، وتتَّضح له الرؤية بعدما تلبَّدت الغيوم» [ ص132].
فهل يعود صاحبنا إلى الصقيع؟ وإلى متى؟
هل يعود صاحبنا إلى صقيع العزلة؟ هل أيأسه تلبُّد الغيوم في الآفاق؟ أما آن لهذا الصقيع أن يزول؟ هل يصير مصير صاحبنا كومة ثلج تستعصي بدورها على الذوبان، أم يصبح ذَرَّة في (القصعة) التي تكأكأتْ عليها الأمم، أم تُراه يختار مكانه في منصة (الإمَّعات)؟ لكن « هل من حقِّه أن ينعزل إلى أن يرجع مجتمعُه عن غَيِّه؟ وهل من حقِّه أن ينكمش إلى أن يزول الصقيع؟ وهل من حقه أن ينفصل إلى أن تتضح الرؤية؟»[ ص132].
ومتى تتَّضح هذه الرؤية؟
 كانت تلك مأساة صاحبنا. مأساة أجيال، ضاع منها طريق الحقِّ فوجدتْ نفسها « تدور مع الرجال أينما دارُوا»؛ أجيال عاقها الصقيع وافتقدت الحرارة في كيانها؛ فاستكانت تحدِّق في الفراغ وتنتظر.
كان زمن صاحبنا، ينقل أهله من ظلام الجهل إلى ظلام الاستبداد، أجيال طواها النسيان، وتراكمت عليها الثلوج حتى تعودت على برودتها، بل أصبحت تجد الدفء فيها...
من قلب مأساة هذا الجيل، تضاعف الهمُّ  في كيان صاحبنا حتى أمَضَّه وطَرَدَ النومَ من عينيْه؛ « فسهِرت أناملُه»؛ تسكب الهموم شلالا ينثال على «أوراقه» انتثيالا . ومَن أقوى من الهم على طَرْدِ النوم من عيون البشر؟  تُرى ما طبيعة هذا الهمّ الذي ألمّ بصاحبنا؟ وأي همّ هذا الذي جعله في صراع مع نفسه؟
 ضاقت بصاحبنا الأرض بما رحبت، وصاح:
« هذا همٌّ مضاعف والله؛ همٌّ يجعلك تتصارع مع نفسك لكي لا تبتعد عن مدار مجتمعك، فتنجذب إلى مدار أخطر ممَّا أنت مشدود إليه. فما العمل يا ترى»؟
العمل أن يخرج من الصقيع ويعود إلى « المدار»؛ مدار مجتمعه؛ ينفعل به ويتفاعل معه، ولا ينجذب إلى مدار سواه... الخيار صعب، ولا بدَّ مما ليس منه بدٌّ. و« لا بد من صَنْعَا وإن طال السفر ».
وبدأت حرارة الهم تواجه برودة الصقيع.
كان لا بد للدُّبِّ القطبيِّ أن يُغادر الصَّقيع، وكان لابدَّ للغيوم أن تنقشع. بدأت الثلوج في الذوبان شيئاً فشيئاً، وشرعت نسمات الفجر تهب على المروج، وبدأت الحركة تدِبُّ في الدِّيار وتطرد الصَّمت عنها؛ فانبعث ما كان يكمُن من هموم في ثنايا ذلك الصمت، وانعتقت أفكار ظلت «سجينة العقل»، وتناثرت أوراق في الآفاق تبوح بما سطرته « أنامل ساهرة » تحمل بعضاً من هواجس النفس وما ظل يمور فيها  فترة الصقيع وزمن زمجرة الرياح.
ما الهمُّ والهموم في لسان القوم؟ 
إذا كانت هموم أبناء آدم هي الشقاء في دنياهم؛ فهموم الناس « متوالية هندسية... لا حدَّ لها في العمق والانتشار... تشغل النَّاس أفراداً وأُسراً وجماعات على مدار الأيام» [ ص139]. وعلى أبناء آدم أن يبحثوا في دنياهم عن رفع المعاناة عن همومهم خلال تجربتهم على الأرض، وأن يكونوا في مستوى التَّجربة والاختبار والابتلاء. معاناة لا مفرَّ منها، وهي شرط في استمرار الوجود البشريّ.
 ترى ما مفهوم الهمّ في لغة نزل بها آخر وحي إلى أهل الأرض؟ لجأ صاحبنا إلى فقه العربيّة – في (لسان العرب) - « الذي بدونه يصعب التَّعبير عن الأفكار التي تبقى سجينة العقل»[ ص118].
راح يستفتيه عن مفهوم الهمّ. فما الهمُّ يا تُرى؟  قلق يُلهب النفس والعقل ويُسلم صاحبه إلى الحزن؛ فيتهمَّمُ الكائن بما يبعث على الحسرة والنَّدم والترقُّب، ويجد نفسه مهتمّاً ومهموماً واقفاً أمام المهمَّات أي الشدائد المحرقة لمصادر القوة في كيانه؛ تُذيبُ منه طاقة الجسم وطاقة الفكر. وأمام الشدائد المحرقة إمَّا أن يُصبح الكائن الإنسانيّ هُماما ذا همّة عالية، وإمّا أن يُصبح هِمّاً أي شيخاً فانيا يدِبُّ على الأرض أشبه بالهوام؛ يهيم بدون هدف... تلك قصة الهمّ في (لسان العرب)، وقصته في حياة الناس؛ حُزْن وألم يُذيبان الكيان البشريّ فإما أن تعلو الهِمَّة بصاحبها وإما أن تجعله من الزواحف مع بقية هوام الأرض.
وما حقيقة الهموم في حياة الناس؟
إنَّها متاعب الناس في دنيا النّاس، إنها آلامهم التي من أجلها «سالت أبحر من المداد» على ما تناثر من أوراق منذ ظهرت الكتابة على صفحات التّاريخ. وقبل أن تُدوِّنَ تلك الأبحرُ همومَ الناس « دوَّنَها العرَقُ على جبينهم، ودوَّنَها الدَّمُ على صدورهم، ودوّنها الصراخُ والعويلُ على أفواههم، ودوَّنَتْها الدموعُ على خدودهم»[ ص126].
وما تراه في وسائل الاتصال والإعلام إنما هو إعلان وإخبار لسكَّان الأرض بما تعانيه البشريَّة من هموم في معترك وجودها على الأرض. فالنَّاس  يتفرَّجون على هموم الناس. وكل الفنون نيطت بها مهمة  التفرُّج. «وهموم النَّاس تطاردنا في كل مكان شريطة أن نحمل ولو مقدار حَبَّة خردل من ضمير يجعلنا نقترب من سعير هموم الناس» [ ص127].
فمن يعرف هموم الناس ويتهمّمُ بها؟
مَنْ مِن الناس يهتمُّ بهموم الناس، ويجعلها من همومه الخاصَّة؟ من يقترب منها ويلتهب بسعيرها؟  قال صاحبنا: لا يقترب منها مَن لم تُنبتُ لديه حَبَّةُ من خردل من ضمير« شجيرةً تُسقى من هموم النَّاس؛ لكي تصبح شجرة باسقة تطلُّ فروعها من أعيننا وآذاننا وأنوفنا وأفواهنا» [ ص127].
وكيف يعرف هموم الناس من يجهل ما يعانيه الناس منها: وكيف يُحسّ بها مَن لا تقتحم كل حواسه؟ ووجد صاحبنا للهموم معجماً اتسعت ألفاظه في الزمان والمكان، وامتدَّت معانيه في التَّجربة البشريَّة على الأرض؛ معيشيّاً ونفسيّاً. ولا يعرف حقيقة تلك المعاني، وما تنطوي عليه من تجارب معيشيَّة ونفسيَّة؛ « إلا الذين لسعتهم هموم الناس قبل همومهم»، وساروا في سراديبها وأنفاقها، وغاصوا في مهالكها وبراكينها.
« هموم النَّاس لا يعرفها إلا من مرّ من أطوار رَحِمِها، وعجنتْه الفِتَنُ في قَصْعَتِها، وصاغته المحنُ خبزاً في فُرْنها؛ خبزاً مُرّاً يابساً صلباً محجّراً؛ يُحَطِّم أسنان من نشأ في الحِلْيَة فيتعالم بهموم الناس، وهو غريب عن سِرْب الناس، لا يتنفّسُ هواءهم...» [ ص127].
وأعجب ما في دنيا الناس؛ ما رآه صاحبنا من أناس يقتحمون مجالات القول وفنونه عبر الكُتب والصحف والمجلات وعبر الإذاعات والفضائيات؛ يتشدَّقون بهموم الناس ومشاكل الناس، وهم لا علم لهم بحقيقتها؛ فما عجَنَتْهم في قصعتها، ولا خَبَروا « محن الدنيا وفِتَن أهلها ». نسُوا أو تناسَوا أن الهموم لا تعرفها إلا « القلوب المكلومة والعقول المهمومة».
وتتسع دائرة الهموم لتشمل كل الناس
وكيف يتِمُّ تحديدُ هموم النَّاس وهي تمتدّ في دنيا النَّاس امتداد ما عرفه تاريخ البشرية من حضارات تبعاً لمواقعها الجغرافيَّة وظروفها السِّياسيَّة، وما شهدته من تحوُّلات وتطورات، وما عرفته من تدافع وتأثر وتأثير؟ وتظل « العلاقة حميمية بين هموم الناس وهموم الأمَّة»؛ تتأثَّر الهموم بما تمتلكه الأمَّة من قوَّة ومقوِّمات، أو بما تعانيه من ضعف وهوان.
ومع أشكال المعاناة البشريَّة في معترك الوجود؛ تظل الهموم في عمومها مادية، وتظل هناك هموم أخطر منها؛ « لا يستوعبها العقل البسيط، ولا يتحمّلُها إلا من أُعِدَّ لها إعداداً؛ لأنَّها تصدر عن الصراع بين الحقِّ والباطل؛ وهي تحمل هموم الأمَّة؛ هموم العزَّة والكرامة؛ هموم العمل على أن تكون كلمة الله هي العليا»[ ص129].
فما كانت هموم صاحبنا في حياته، وما كان أخطرها ؟
ما الهموم التي كانت وراء وجود صاحبنا في الصقيع؟  وما كان يمور في وجانه حين كانت الرِّيَّاح تزمجر في الربوع؟
وجد نفسه في حلْبة صراع بين الحقِّ والباطل، حلْبة تُهدَر فيها الكرامة الإنسانية؛ تُقهَر وتُذَلُّ، ويعيش فيها الإنسان غريباً بين أهله وذويه « غربةً وجدانيةً بين أحضان المجتمع الأصلي... وغُربة الدار أَعْتى وأمَرُّ من غربة المهجر؛ لأنَّ الذي يشعر بلسعة هذا الهم تنقطع صلته بمجتمعه؛ فيُصبح غريباً في سِرْبِه» [ ص138]
كيف لا يشعر بغربة وجدانية وهو يفتقد « المشاركة الوجدانية » ولا يعيش آمناً في سِرْبِه داخل مجتمعه، و لا يشعر« بالأخوة الإيمانية » في مجتمع إسلاميّ متدهور عاد فيه الإسلام غريباً؟
 أي همّ كان هو الأكبر والأخطر ؟  كان هو«  هم التغلُّب على عقدة الصَّمت؛ تلك العقدة التي سبَّبتها وضعية الإنسان المقهور؛ الذي لا يجد مخرجاً لمحنته، والإنسان المهدور الذي فَقَدَ كرامتَه الإنسانية» [ ص128].
وأخيراً...
ما حكاية صاحبنا مع الصقيع؟ وما هذا الهمُّ الذي أرّقه، وجعل أناملًه ساهرة تنثر هذه الأوراق عبر الأثير؟ ما هذا الهمُّ الذي ظل صاحبه يرفض الصقيع، وينشد العزة والكرامة لأهله؟
همُّ صاحبنا أنَّه يرى الباطل باطلا، ويرفض أن يراه حقّاً، ومن الباطل أن تُهدَر كرامة الإنسان باسم الباطل. ولا كرامة في رحاب إعلاء كلمة الله في الأرض؛ فالهمُّ الأول لصاحبنا أنه أراد أن يدور مع الحق أينما دار، حين وجد الناس يدورون كما يدور الرجال [ص132].
تلك قصة الخروج من الصقيع بحثاً عن الحق والكرامة.
تُرى ما قصة هذا الهم عند صاحبنا؟






[1]  الأرقام الواقعة بين معقوفين تحيل إلى : أوراق متناثرة من أنامل ساهرة، ص 132

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق