تـصديــر
: أ. د. عباس أرحيلة
رواية
مغربية حتى النُّخاع، طبَعها صاحبها بطابع الشخصيَّة المغربيَّة؛ فهي تستقي
أحداثها من داخل أسرة مغربيَّة متوسِّطة الحال، متعدِّدة الأفراد والعلاقات. رواية
تناولت مأساة أسرة من مدينة الدّار البيضاء؛ وعَبَرَتْ فنِّيّاً من خلال مشكلاتها
إلى مأساة مرحلة، إلى مأساة وطن.
رواية
جعلها د. زيادي شاهدة على مرحلة، وأداة تعرية لجوانب من المجتمع المغربيّ في مرحلة
ما اعْتُبِرَ استقلالا سياسيّاً. وتشكّلت مفاصل الرواية من ثمانية عشر عنوانا؛ كل
عنوان منها يروي مُنحنى من تضاريسها؛ فيأتي المُنحنى الأول منها بعنوان (الغائب)
لتنتهي الرواية بـ(وجود بلا عنوان) وبـ(ذو القبريْن).
أسرة
حُرم كمال، أحد أبنائها، من التَّسجيل في شعبة علم الاجتماع التي مُنع فتحُها
يومئذ؛ فرحل نحو أوربا ليُحرم من دفء الاجتماع داخل الأسرة بالبيضاء؛ فيعيش تيه
الغربة هناك، وتعيش الأسرة مرارة الانتظار هنا؛
إلى أن يعاد به يوماً عودة تبحث لها عن عنوان.
ويوم
انقطعت رسائله ومكالماته أحسّت الأم شامة« إحساسا قويّاً كاليقين بأن كمالا قد ضاع» [ص7].
قد
يبدو من أوَّل وهلة أنَّ الهجرة هي موضوع الرواية؛ وأرى أنّ د.زيادي اتخذ من هجرة
كمال وغربته إطاراً فنِّيّاً صبَّ فيه غربة جيل؛ ضاقت به أرضه فتاه في أرض الغربة؛
جيل فَقَدَ كلّ ما عاش من أجله؛ بل فَقَدَ حتى ملامحه الخاصَّة وأصبح عبارة عن صور
وأشباه صور...
يضيع
كمال هناك، وبداخل الوطن تموت أخته إكرام، وتعيش ذكراها في (صندوق).
كان
وداع كمال، يوم رحل، حارّا وهو يبكي « لتأخِّره في السفر... وقد بقيت الأسرة كلَّها تتذكَّر نزول كمال
باكياً من الحافلة، وقد أوشكت على الانطلاق، ليعانق أخته الصغيرة إكرام ويحملها،
ويضمَّها إليه بحنان، ويَعِدَها بأن يبعث إليها بالشكولاته والدُّمَى البلجيكيَّة
الكبيرة. ولم يُنـزلها أرضاً إلا حينما تعالت أصوات منبِّه الحافلة مختلطة
باحتجاجات بعض المسافرين».
تُرى ما يُبكي كمالا؟ ولماذا
هذا التعلُّق بأخته الصغيرة إكرام؟ ولِمَ «لم يُنـزلها أرضاً إلا حينما تعالت أصوات
منبه الحافلة لم يُنـزلها أرضا إلا حينما
تعالت أصوات منبِّه الحافلة »؟
ومتى
رحل كمال إلى ديار الغربة؟
كان
ذلك في يوم « تلبَّدت
فيه السماء بالغيوم، وهبَّت الرِّياح محمَّلة بالأتربة والهشيم منذرة بطلائع
الخريف». رحل في لحظة حلَّ فيها خريف الاستقلال في بلده، يوم تلبَّدت فيه
سماء الحرِّية بالغيوم، وصار النضال من أجل الاستقلال ذكرى.
أهو
الخريف حلّ بالبيضاء؟
« لاحظ أنَّ الهرم بدأ يدِبُّ إلى العمارات القديمة، وأنَّ السُّوس
أنشب أظافره وأنيابه في أصول أشجار الزِّينة القليلة المتبقِّية من عمليات توسيع
الأزقَّة، وتضييق الأرصفة. وتردَّدت في خاطره وهو يعبر الزُّقاق عبارة كالصَّدى:
- ما أسرع ما تشيخ الأمكنة وتتغير في عين
من يهجرها» [ص38].
كان الكمال مأمولا في اسم كمال تفاؤلا،
وحين غاب ما عاد يُرجى منه حتى مقابل اسمه. ويوم كان تلميذاً في الثانوية كان بين كتبه ودفاتره منشورات
الجبهة الشعبيّة الفلسطينيّة، وأثناء غيبته قيل إنه صار ضمن فصيل تلك الجبهة؛ وإنه
مات شهيداً فكانت « نهاية مشرقة لسفر طويل نحو المجهول».
توارى د. زيادي بذكاء ومهارة داخل
كواليس الرِّواية، وجعلها تختزل تجربة الاستقلال؛ غير أنَّ شاعريته انفجرت لحظة
موت إكرام في صورة مرثية أصبحت تسكن (الصندوق) ، كلما سمعتها الأم انفجرت تبكي بل «تنخرط في عويل وتعداد»، من غير فهم حقيقيّ لما
تسمعه. وأعجبُ من ذلك أنَّ عثمان صغير الأسرة يُردّد تلك المرثية على مسامعها وهو
يتمتم.
وإذا
سألتني لماذا خرج د. زيادي في هذه اللحظة من الكواليس، وترك شاعريته تتدفق بتلك
القوة في تلك المرثية؛ فإني أقول لك إنَّ الموت لم يكن موت إكرام؛ بل هو موت
كرامة، نعم موت الكرامة... « ماتتْ وهي ملاك».
رحلتْ
«وهي في السَّنة النِّهائيَّة
من المرحلة الإعدادية».
وإذا أردت أن تستجمع اللقطة فنِّيّاً؛ فما عليك إلا أن تضم اسم إكرام؛ إلى لفظيْ (نهائية) و(إعدادية)، وتستحضر روعة مرثية يُلقيها طفل "تمتام"،
وتسمعها أمٌّ باكية لا تفهم حقيقة ما ورد فيها. « أمل أدبر... معلَّقٌ على مشجب الذكرى، يصارع البلى... نداء بلا
رجع، بسمة بغير شفاه... » [ص24]. إنها نهاية عبثية.
لم
يستطع د. زيادي أن يتوارى في الكواليس أيضا لحظة الحديث عن (الأبيض والأسود)؛ أي
لحظة ما آلت إليه الصحافة الوطنيَّة؛ لأنه عاصر بياضها وسوادها، وأسهم في توهُّجها
يوم كانت بيضاء، وراقب بحسرة ما
لحقها من انكسار وسواد.
"ثم
إن الجريدة التي يدعونني إلى الكتابة فيها لم تعد تنشر مثل ما كنت كتبته فيها من
قبل؛ فقد تنكرت له.. لم تعد لها تلك الصولة، ولا ذلك الدور الخطير في مقاومة
التجاوزات والتعسفات الإدارية، ومحاربة الشطط في استعمال السلطة، وفضح لوبيات
الفساد، والدفاع عن المهمشين، والاستجابة لتظلمات المواطنين...
« »"بل أقول أكثر من ذلك إن الصحافة الحزبية عامة لم يبق لها إلا
اليسير من المصداقية؛ لأنها حينما تكون في المعارضة لا تنشر إلا الأسود؛ تملقا
للمسحوقين، وحينما تكون في السُّلطة لا تنشر إلا الأبيض؛ تملقا للمترفين..
وتنكرها
للأحلام الورديَّة التي ما فتئت تزرعها في جفون المحرومين والضَّائعين والمظلومين
والعاطلين من أصحاب السَّواعد المنتجة، والشهادات الجامعيَّة العليا على السواء» [ص62 – 63].
وتوارى
د. زيادي بسخرية مريرة أثناء الحديث عن المغادرة الطوعية التي كانت استهانة بتجربة
مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب المعاصر، وقدَّمتها الرِّواية بصورة حيَّة على ألسنة
المغادرين وغير المغادرين، والتقى في حوارهم الجد بالهزل.
« لقد أجمع الموظَّفون المخلصون على أنَّ حركة المغادرة الطوعية
إجراء جائر كان وقْعُه عليهم بمثابة طلاق الخُلْع الذي تفتدي فيه المرأة من زوجها
الكارهة له بمال تدفعه له ليتخلَّى عنها، فيقبل الفداء على مضض... » [ص38].
إذا
كنا قد عرفنا حال أمّ إكرام؛ ومآل إكرام؛ فما هو حال أبي إكرام؟ رجل متقاعد مريض، «تكسَّرت في معترك حياته
النِّصال على النِّصال، وتحطَّمت في سواحل صبره الموجة تلو الموجة، إحباط في
الانتماءات الحزبيّة والنَّقابيَّة، والاختيارات السياسيَّة، فجائعُ بفقْد
الأولاد، وفشل في الآمال والطموحات، وخيبة أمل في الأصدقاء والمقربين ورفاق
النضال، واهتزاز في الكثير من الثوابت، وتآكل في العزيمة، وتصدع في الإرادة. وقد
كانتا سلاحه الذي لا يفل في هدِّ الصخر، وتحطيم العراقيل، ومقاومة الخصوم».
ومن
خلال تجربته وحواراته مع أصدقائه ومعارفه على امتداد الرّواية، انكشفت في منعرجات
الأحداث ما آلت إليه السياسات والأحزاب والنقابات والإضرابات، وما أصبحت عليه
أنواع من الاستغلال وأشكال من الاستثمارات، وكيف انتشرت في الربوع العصابات وترويج
المخدرات، وما كان لظاهرة الهجرة من آثار على أخلاق البنين والبنات، وكيف دُفنت الأحلام
والآمال والرغبات... صُحف أصابها البوار وتكلّست فيها النضالات، يوم صمتت عن فضح
التجاوزات والتعسُّفات، وتغافلت أو سكتت عن فساد اللوبيات... بقايا سينمات، تسهر
فيها الجرذان، ويُصرف على صنع أفلامها المليارات... وفي البيوت وغيرها تحاصر
الأبصار المسلسلات على عشرات الشاشات، وقبل هذا كان مسلسل (رأفت الهجان) يبيع
وهْمَ الانتصار على إسرائيل عبر الجاسوسيات...
« واهِمٌ من يعتقد اليوم خاصة أنه في منجى من الوقوع ضحية في يد
المحتالين والنَّصابين، الذين صاروا يتفننون كل يوم في نصب شباكهم، وتطوير
أساليبهم الاحتيالية»
[ص36].
لا
تسألني عن لحظات التوهُّج في هذه الرِّواية، ولا كيف أخفت أسرارها الفنِّية في
حناياها؟ فهذا ما ستكتشفه في هذه الرواية، حين تسمع - مثلا – والد كمال يقول عن فقيده: « فمن يكون ابني كمال من بين كل هؤلاء الكمالين؟ [67]...
هل هو هو؟ هل يمكن الجزم القاطع بحقيقته»؟ [ ص70].
وحين يعاد بـ(ذي القبرين) فلا يجد له عنوانا؛
إذ « ظلت السِّفارة منذ قرابة شهر تتصل يوميّاً بالعمالة تسأل عن العنوان»؛ نتيجة ما أحدثته الانتخابات من تقسيم إداري للعمالات
والمقاطعات.
وحين تُصرُّ الأمُّ على إطلاع الجثمان إلى الشقَّة التي
وُلد فيها؛ ليخرج منها إلى مثواه الأخير؛ غير أن رغبتها تُقابل بالرفض؛ « فالسُّلَّم ضيِّق وملتوٍ
ولا يسمح للتَّابوت المحمول بالصعود به».
ولحظة ختْم الرواية، تحتضن الأم وليدها وهو في الأربع
والخمسين من عمره... إذْ « لا فارق في عاطفة الأمومة بين وليد وكهل.. بين وليد في خرقة
القماط والعفن، وبين متوفى في ثوب الطَّهارة والكفن، لا فارق في الإحساس بالوجد
والفقد وتمثلهما بين كبد في المهد، وجسد في اللحد...».
أمّا
إذا أردت أن تعرف ما فعلت كتابة هذه الرِّواية بصاحبها؛ لحظة بلوغها في نفسه أوج
التوهُّج والنُّضج الفنيِّ؛ فاقرأ معي هذا المقطع:
« مرَّة أخرى تتهاوى دعائم الحكاية التي ظللنا
نقيم هيكلها على لبنات غير متجانسة من الأخبار والروايات، ونملأ فراغاتها بتصوُّرات
وتأويلات متنافرة نمطِّطها لتسع الثغرات حتى نكاد نمزُّقها. مرَّة أخرى تتناسخ
هوية ولد ما كدنا نفرح به حتى فقدناه، وحين لمعت بارقة أمل لاسترداده تمثل لنا في
صور وأشباه حتى تعذر علينا الاهتداء الراشد إليه، والجزم القاطع بحقيقته،
والاقتناع المطلق بأنه هو دون سواه».
أهو انفجار ما يمور في نفس المبدع؛ حين يخرج من سرداب
الحكي ليبث ما كان يناجي به نفسه إلى قارئه؟ أيفعل الفنُّ كلّ هذا بأهله؟ لا شكَّ...
رواية
بثَّ فيها د.أحمد زيادي جوانب من تجربته الفنِّية، وخبرته الطويلة في مجال الكتابة
عامَّة.
لغة
الرِّواية منحوتة بمهارة فنَّان مبدع، وعندما تتأمل الأداء البيانيّ فيها تجد
عربية راقية. ولدى إمعان النظر فيها تجد مضامينها أقرب إلى اللغة التي يتحدث بها
الناس في الفضاء البيضاويّ. وحينما تقرأ الحوار في حيويته وما يعتري أصحابه من
أحوال تأتي عبر ما يضفيه الروائيّ عليها من توصيفات؛ يمكنك أن تتخيل ما تشاء من
مقابلات لها في اللهجة المغربية الدارجة؛ التي حوَّلَها الروائي إلى لغة أدبية
تنساب بتلقائية وحيوية وشاعرية وبدون أدنى تكلُّف.
وفي
طريقة السَّرد لم يصطنع زيادي ضمير المخاطب، بل جعل الرواية تحكي ذاتها، فتوارى
وراء شخوصه وجعلهم يتحدثون بتلقائية؛ وكأنهم يعيشون هموم المرحلة في كل عمارة من
عمارات المغرب، مع احترام التسلسل الزمنيّ المنطقيّ في حبكة الرواية.
ولم
يشغل نفسه بما عرفته الرِّواية من افتعال أوهام الحادثة؛ فلا هو أراد أن يثور على
تقاليد معيَّنة، ولا هو جرى خلف أمارات زائفة للحداثة؛ فجاء برواية شامخة بقيمها
الفنِّية الراسخة.
لقد
شرَّفني أخي د. أحمد زيادي بكتابة هذه الكلمة في صدر روايته، وإني قد سعدت
بقراءتها، وتفاعلت بصدق بما تركتْه في نفسي. وأعترف أني حين قرأتها أعادتني إلى
أرقى ما قرأت في حياتي من روايات؛ شَهِد لها النُّقَّاد بالشموخ الفنيّ. وشدّني
إليها بناؤها السهل الممتنع؛ الذي نسج بطريقة فنية شفافة ما ضاع من آمال في طريق
نهضة لم تتم، وكيف قدم د. زيادي من خلال أسرة كمال بنية اجتماعية فَقَدَت (كمالها) و(إكرامها)، داخل رؤية جمالية تتواشج فيها الأحداث
والشخوص من قلب الدار البيضاء، وترسم في الآن نفسه منحنيات ما افتقدته مرحلة في
تحوُّلاتها وتشكُّلاتها.
رواية
وجدتُ متعة في قراءتها، وأُعجبتُ كثيراً بمهارة د. زيادي في بنائها، وما حقَّقه من
روعة وإتقان في إخفاء أسرار جمالياتها.
يكفي
أن أقول، وبدون مبالغة، إني أرى المنجز الفني الذي قدمه د. زيادي؛ الرواية كما أُحبُّها
وأتصوَّرُها، وأرى عبقرية صاحبها مبثوثة في تضاعيف أحداثها، ولا يخرج القارئ من
هذه الرواية إلا وهو يشهد لصاحبها بالمهارة الفنِّية في ربط أحداثها بقضايا معاناة
شخوصها بعمق المغرب المعاصر.
وكما
أتمنى أن تكون هذه الرواية من أهم روايات سنة 2013م؛
أتمنى كذلك أن أراها مسلسلة تليفزيونيّاً من ثلاثين حلقة بسيناريو وحوار د. أحمد
زيادي.
مراكش، المغرب، في: 7/1/2013م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق