الخميس، 10 سبتمبر 2015

تصدير كتاب د.السعيد بنفرحي: أمثال الجاحظ

تصدير : أ.د. عباس أرحيلة


 تمهيد:
للأمثال رسوخ في آداب العرب؛ لحضورها في المخاطبات وفي الرسائل والمصنفات؛ إذ هي خلاصة تجارب من كانوا يستعملونها في علاقاتهم الاجتماعيَّة، وفيما يضطربون في معترك حياتهم. وإذا كان الشِّعر ديوان العرب؛ فإن الأمثال مرآة تعكس أوضاع العرب الحضاريَّة من خلال تجاربهم في الحياة عامَّة.
 ومرحلة الجاحظ حافلة بتحوُّلات حضاريَّة فكريَّة، مرحلة تأسيس هُوِيَّة إسلاميَّة عربيَّة، من خلال حركة تدوين واسعة، واكبتها حركة انصهار للأجناس، امتزج بها نزوع شعوبيٌّ، وواكبتها حركة اعتزاليَّةٌ، وحركة نقْل وترجمة من ثقافات أخرى.
وقد لاحظ د. أمجد الطرابلسيّ (1916 – 2001م)، رحمه الله، أنَّ الرُّؤية البيانيَّة عند الجاحظ جاءت«  مدمجة في إطار البنية الفكريَّة الاعتزاليَّة، ومتواصلة مع العلاقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في الفترة الزمنيَّة التي تمَّ فيها تَشَكُّل هذه الرُّؤية»[1].
أولا: هل طبيعة المثل من طبيعة الجاحظ؟!
ما أهمِّيَّة المثل في ثقافة الجاحظ؟
ولماذا المثل عند الجاحظ؟
لما للمثل من عمق فلسفيّ في رؤية الجاحظ للوجود. فطبيعة المثل في التُّراث العربيّ تجعله أقرب إلى طبيعة الجاحظ؛ فكل منهما يسعى أن يختزل التَّجربة الإنسانيَّة؛ إذ كان الجاحظ من العقول التي تجاوزتْ عصرها لتخترق أبعاداً إنسانيَّة أرحب من زمانها.
وتقاربهما في الطبيعة ينطوي على بُعْد فلسفيَّ وليد ثراء في تجربة الجاحظ؛ إذْ كانت حياة هذا الأخير، بتنوُّعها وثرائها، صدىً لانصهاره في معترك الحياة الاجتماعيَّة الفكريَّة الثقافيَّة في مرحلة بدأت فيها الثَّقافة العربيَّة تتبلور، وتتجاذب مع محيطها وتحتلُّ الصَّدارة في الوجود.
فالمثل يقترب من طبيعة الجاحظ؛ إذ كل منهما شحنة بيانيَّة تكتنز تجربة حياة.
طبيعة الجاحظ صيغتْ صياغة غريبة غرابة الحياة، وصياغة بيانية تختزل جمالية الأداء في أساليب العربيَّة؛ صياغة تختزل فكراً استوعب خبرة ما مضى واقتحم بمهارة وذكاء كل جديد. فهو من يقول: « إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئا؛ فاعلَمْ أنَّه ما يريد أن يُفلح»[2].
 واهتم الجاحظ بالمثل لارتباط المثل بالحكمة؛ إذ الجاحظ ممن عُنوا بحكمة الله في خلقه في كتاب (الحيوان) بشكل خاصّ، وتكاد رسائله وكتاباته عامَّة أن تكون تأمُّلات في طبائع الناس وعاداتهم وأخلاقهم، مع السعي إلى توجيهها وإصلاحها.
ثانيا: كيف أتصور أمثال الجاحظ؟
أتصوَّر أمثال الجاحظ مستوعبة لروح ما أعربت عنه التجربة الإنسانيَّة التي بلغته في زمانه، في ضوء إعادة قراءته لها، وتبعاً لطبيعة تفاعله معها، وتحديده لزاوية النَّظر إليها.
أتصوُّر أنَّه اعتنى بالأمثال السائرة في العصر الجاهليّ؛ لأنَّه كان من العلماء العارفين بأحوال العرب وطبائعهم وعاداتهم. ومن خلال ما استفاض فيه من أحاديث عن الحيوان من وحوش ودواجن وطيور وحشرات؛ يتضح أنه سيأتي في أمثاله بكل ما يتعلق بطبائع الحيوان، وبمجمل ما ورد فيها من عجائب الخلق.
 أتصوّر أنه أضاف إلى الأمثال بحسِّه الفنيِّ وخبرته بحقيقة النَّفس الإنسانيَّة، وبما عرفتْه المجتمعات العربيَّة من تحوُّلات اجتماعيَّة نفسيَّة اقتصاديَّة أخلاقيَّة وسياسيَّة؛ ما زادها عمقاً، وتجاوباً مع الحياة، وأضفى عليها بعداً إبداعيّاً؛ وهو الخبير بصناعة القول، وفنّ القول.
 أتصوَّر أمثال الجاحظ يصطرع فيها الجد بالهزل، ولا تخلو من دعابة عميقة الأثر، شديدة الوقع، تتخلَّلها نزعة عروبيَّة، تتجاوب فيها أحياناً أصداء من ثقافات شعوب أخرى.
أتصوَّر أمثال الجاحظ نابعة من اختياره، ومتولِّدة من طبيعته، ومنصهرة مع ظروف مرحلته بأبعادها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والنَّفسيَّة والأخلاقيَّة والاقتصاديَّة.
أتصوَّر أمثال الجاحظ من المداخل الدقيقة إلى عالم الجاحظ؛ إذ ستكشف جانبا مُهمّاً من ثقافته وفلسفته في الحياة، ومن رؤيته الاجتماعيَّة لفترة توهُّج من العصر العباسيّ الأوّل.
أتصوَّر أمثال الجاحظ وهي تُقدم رؤية تؤرِّخ لجانب من الفكر العربيّ في قضايا علميَّة ثقافيَّة عامَّة، كما تعبِّر عن واقع عصر ارتبط الجاحظ به ارتباطاً حميميّاً لفترة تزيد عن قرن من الزمن (150 – 255هـ)[3].
أتصوَّر البُعد المعرفيّ الذي لا شكَّ أن الجاحظ يريد أن يُزوِّد به الكُتَّاب؛ إذ أن ثقافة الكاتب في عصره تحتاج إلى معرفة واسعة بالأمثال؛ بل هي جزء لا يتجزَّأ من ثقافة الكاتب.
فإبراهيم بن المُدَبَّر (279هـ) في (الرسالة العذراء) يوجه ثقافة كتاب الدواوين إلى ضرورة الخوض في بحار البلاغة؛ وذلك لا يتأتّى إلا بتصفّح رسائل المتقدمين والمتأخرين، فهو يدعو الكاتب « أن ينظر في المقامات والخطب، ومحاورات العرب، ومعاني العجم وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم وتوقيعاتهم». ويدعو الكاتب أن يتمهَّر في اجتلاب الأمثال في أماكنها. وينصح الكاتب قائلا: «إن تضمين المثل السائر، والبيت الغابر؛ مما يُزيِّن كتابك»[4].
ثالثا: من أصداء أمثال الجاحظ: الإنسان والبهائم؟
يلاحظ قارئ كتاب (الحيوان) أنَّ هاجس مقارنة الإنسان بالبهائم ظلَّ حاضراً في الجزء الخامس من كتاب (الحيوان)!
 وكان لا بد لحمزة الأصفهاني (ت360هـ) أن يستفيد من كتاب (الحيوان) للجاحظ أثناء تأليفه لكتابه: (الدرة الفاخرة)؛ إذ معظم الأمثال التي جاءت على صيغة (أفعل) تستمدُّ موضوعها من مجال الحيوان؛ وإن لم يشر حمزة إلى استفادته من كتاب (الحيوان) للجاحظ.
 ومما تجدر ملاحظته أنَّ كثيراً من الأمثال التي جاءت على صيغة (أفعل)، لا تخلو من تلميح إلى أفضلية الحيوان على الإنسان. وقد لاحظ صاحب (طبقات الأمم) أنَّ من البهائم ما ظهرتْ منها صنائع عجيبة، وأفاعيل غريبة؛ «  حتى ضربت العربُ الأمثالَ فقالوا: أَصْنَعُ من سُرْفَة وهي دودة تكون في الخمص وتبلغ من صنعتها أنها تصنع بيتاً مربعاً من عيدان (...).
وكذلك أيضا سائر القوى الحيوانيَّة من الجود والبخل وغيرهما؛ فإنَّ بعض البهائم فيها مزية على الإنسان. وكذلك ضربت العرب بها الأمثال، فقال: أسخى من ديك...وأجرأ من ليث ومن ذباب (...)، وأهدى من قطاة...
 وكذلك أيضا قُوى الأجسام وصدق الحواسّ، لا يُنكر أحد أنَّ حظَّ بعض البهائم منها أوفر من حظ الإنسان. ولذلك قالت العرب في أمثالها: أبصر من عُقاب ومن فرس، وأصح من ذئب ومن ظليم، وأضبط من نملة؛ لأنَّها تجرُّ النواة وهي أضعافها... وسوى هذا مما ضربوا فيه الأمثال بأنواع البهائم»[5].
 وذكر الأستاذ الباحث السعيد بنفرحي أنَّ كتاب (الحيوان) للجاحظ ورد فيه ما يُقارب ستة وعشرين وثلاثمائة (326) مثل.
رابعا: السعيد بنفرحي يستعيد صورة من (كتاب الأمثال) للجاحظ
 1 - ماذا عن كتاب الأمثال للجاحظ؟
لم يَرِدْ في مقدِّمات كتب الأمثال إشارة إلى كتاب الأمثال للجاحظ، ولكن لا يقوم هذا دليلا على عدم وجود كتاب للجاحظ في هذا الموضوع؛ إذ كثير من رسائله لم يصل إلينا.
ولا شكّ أنَّ محققي كتب الجاحظ ورسائله تستوقفهم أثناء وضعهم للفهارس الفنِّيَّة ظاهرة الأمثال فيها.
ولا يسع الباحث إلا أنَّ يلاحظ غياب التَّنصيص على (كتاب الأمثال) للجاحظ في مدونات كتب الأمثال؛ فلم ترد الإشارة إليه إلا في كتاب (الفهرست) للنديم (بعد400هـ) وفي (معجم الأدباء) لياقوت (ت 626هـ)، وفي (هِدْيَة العارفين) لإسماعيل البغداديّ (ت 1920 م)[6].                                                                                                                                                                                                                                      
 وكما استوقفتْ أمثال الجاحظ صاحب كتاب (التجوال في الأمثال)؛ استوقفت الأستاذ الباحث السعيد بنفرحي حين كان بصدد تأليف كتابه: (الكلب في الأمثال الفصيحة والعامِّيَّة) [ دار القلم، 2009م]، ومن هذه الفكرة نبعت لديه فكرة تأليف هذا الكتاب.
2 – استعادة ما بقي من أمثال الجاحظ
   أمام ضياع (كتاب الأمثال) للجاحظ، شأن غيره من آثار الجاحظ[7]؛ أبى الأستاذ الباحث السعيد بنفرحي أن يستجمع ما تبقَّى من أمثال الجاحظ من خلال آثاره المنشورة.
يقول السعيد بنفرحي: «  وما من شك في أنَّ جمع هذه الأمثال سيلقي ضوءاً كبيراً على كتاب أمثال الجاحظ؛ ذلك الأثر الفنّيّ الذي وصلنا خبره دون أثره».
وكان من أسباب عناية السعيد بنفرحي بأمثال الجاحظ  بهذا الجانب؛ أنَّه لم يجد من يولي هذا الجانب ما يستحقُّه من عناية؛ فما كان منه إلا أن وجد نفسه في معترك أمثال الجاحظ؛  يُلقي أضواء على هذا الجانب من فكره وأدبه وعلمه؛ فهيّأ بذلك مادة علميَّة للدراسة والبحث.
3 – منهج الأستاذ بنفرحي في استعادة كتاب الأمثال
أ – جمع الأستاذ بنفرحي ما تفرَّق من أمثال الجاحظ في كتبه ورسائله، من خلال قراءته المستوعبة،  ومستعينا أيضا بفهارس كتبه المحقَّقة التي عني فيها أصحابها بفهرس الأمثال.
ب - ترتيبها على حروف الهجاء.
ج - إثبات ما ورد لدى الجاحظ من شروح لها، وما استدلَّ به عليها من شواهد شعرية.
د - الرجوع إلى كتب الأمثال قصد المقارنة، والوقوف على آراء العلماء في معانيها.
هـ - وفي ضوء مادة الأمثال التي جمعها الأستاذ بنفرحي، تحدث عن منهجه الجاحظ، وممّا لاحظه:
- أنَّ الجاحظ لا يحدد قائل المثل إلا في أحيان قليلة.
-  وأنَّه يستشهد ببعض الأشعار لفهم الأمثال.
– وأنه ينسب بعض الأمثال إلى العامَّة أو إلى أهل منطقة معيَّنة.
خاتمة:
لا شكَّ أنَّ ما أنجزه الأستاذ بنفرحي في عمله هذا، يساعد – كما قال – على توضيح « طريقة الجاحظ في تناوله الأمثال»، وتحصيل« صورة واضحة بيِّنة القسمات»؛ وإنِّي وإن لم أجد ما كنت أتصوره – أو قلتُ كنت أتوهّمه - عن أمثال الجاحظ؛ فإن ما قدّمه الأستاذ السعيد بنفرحي في عمله العلميّ هذا، يُقرِّبُنا من روح الجاحظ، ومن جانب من الفكر العربيّ، ومن شروح أدبيَّة  لبعض الأمثال في آداب العرب بأسلوب الجاحظ.
ولا شك أنَّ الأستاذ السعيد بنفرحي قدّم خدمة لعشاق الجاحظ ومحبيه أوَّلا، وللمهتمين بالأمثال في الثقافة العربيّة ثانيّاً، كما قدَّم خدمة جليلة إلى مكتبة الجاحظ، باسترجاع صورة من كتاب افتقدتْه ثالثا.
 في الأخير، أعتبر ما أنجزه الأستاذ السعيد بنفرحي بعثاً لكتاب افتقدته خزانة الجاحظ، وأنه سعى بجدِّيته المعهودة أن يسترجع الكتاب ليحتضنه عشّاق الجاحظ.
وسيكون كتاب أمثال ثالث ثلاثة في مجهود السعيد بنفرحي في موضوع الأمثال، إلى جانب كتابيْه:
- الكلب في الأمثال العربية العامِّيَّة والفصيحة  2009م.
 – الأمثال المغربية، تأليف: عبد القادر زمامة، إعداد وتقديم السعيد بنفرحي 2010م.
 أدعو للأستاذ السعيد بنفرحي بالمزيد من العطاء.
بارك الله في أعماله، وأعانه على مواصلة الجهد.
 والحمد لله رب العالمين.
                              مراكش، المغرب، في 22 يونيو 2011م
[1] الرؤية البيانيّة عند الجاحظ: د. إدريس بلمليح، تقديم: د. أمجد الطراباسيّ – ط1[ دار الثقافة، الدار البيضاء،1984]، ص9.
[2]  معجم الأدباء: ياقوت الحموي (ت626هـ)، تحقيق: د. إحسان عباس – ط1[ دار الغرب الإسلاميّ، بيروت،1993]: 5/2103.
[3] جاء على لسانه في ترجمته عند ياقوت: (قال الجاحظ: أنا أسنُّ من أبي نواس بسنة، ولدت في أوّل سنة خمسين ومائة وولد في آخرها). تنظر ترجمته، في:  معجم الأدباء: ياقوت الحموي (626هـ)، تحقيق: د. إحسان عباس:5/2101....
[4] الرِّسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة، تأليف أبي اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني المتوفى سنة 298ه‍، والمنسوبة خطأ إلى أبي إسحاق إبراهيم بن محمد ابن المدبر المتوفى سنة 279ه‍، تحقيق ودراسة: د. يوسف محمد فتحي عبد الوهاب – ط1[ دار الطلائع، القاهرة، 2005م]، ص24.

[5]  طبقات الأمم: صاعد الأندلسي (466هـ)، تحقيق: حياة العيد بلعوان – ط1 [ دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،1985]، ص44 - 49.

[6] .  ينظر: تقديم السعيد بنفرحي لكتابه : أمثال الجاحظ.

[7]  معجم الأدباء: 5/2119.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق