الجمعة، 28 أغسطس 2015

مسألة التأثير الأرسطي في البلاغة المغربية من خلال كتاب التنبيهات لابن عميرة



 عباس أرحيلة

تمهيد:
يبدو أن ازدهار الفلسفة الأرسطية بالأندلس، خلال القرن الهجري السادس، زمن الموحدين؛ كان وراء ظهور مدرسة بلاغية خلال القرنين السابع والثامن؛ مدرسة اتصلت بكتب المنطق عامة وبكتابيْ الشعر والخطابة لأرسطو خاصة، وذلك عن طريق شروح الفلاسفة وتلخيصاتهم للكتابيْن المذكوريْن.

ففي القرن السابع وما بعده، ظهر اتجاه جديد يختلف عن جهود البلاغيين في الشرق، بالاستمداد من التراث الأرسطي، ومتابعة ما فهمه الفلاسفة المسلمون مما اصطُلح عليه بالشعرية الأرسطية. وبعد ظهور (منهاج) حازم و( منزع السلجماسي و(روض) ابن البناء و( تنبيهات) ابن عميرة؛ بدتْ مدرسة بلاغية أكثر تفتّحاً على التفكير الأرسطي؛ مدرسة يمتزج فيها المنطق والنقد الأرسطيان بالبلاغة العربية. وبظهور آثار من هذه المدرسة محققا ومدروسا؛ أثيرت مسألة التأثير الأرسطي في البيان العربي مرة أخرى بشكل أكثر حدة وأكثر اندفاعاً وأكثر حماساً.
وقد ظهر كتاب (التنبيهات) لابن عميرة محققا سنة 1991، ولم أتمكن من الاستفادة منه، والتعرض له، قبل طبع رسالتي ( التأثير الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى نهاية القرن الثامن للهجرة – ط، 1991]. وفي هذا المقال لي كلمة في مسألة تأثر ابن عميرة في كتابه هذا بكتابيْ الشعر والخطابة لأرسطو.

أولا: مسألة التأثير الأرسطي بين مرحلتيْن:

أرى أن إشكال التأثير الأرسطي في النقد والبلاغة العربييْن قد مرَّ بمرحلتيْن، تمتدُّ كلٌُ منهما نحو ثلاثين سنة: المرحلة الأولى (1931 – 1961) والمرحلة الثانية ( 1961 – 1991).
1 – المرحلة الأولى تمتد من سنة 1931 إلى سنة 1961:
قبل بداية الثلاثينيان من القرن العشرين كان الاعتقاد السائد في أوساط الباحثين أن البلاغة العربية كانت أصولها عربية، وأن مفاهيمها وقضاياها ومشاغلها ارتبطت بالتأمل في هندسة العبارة العربية كما تجلت في النص القرآني والشعر العربي.
وفي سنة 1931 زعزع كل من الأستاذ أمين الخولي (1895-1966) ود. طه حسين (1989-1973) هذا الاعتقاد السائد، وقَرَّرَا أن البيان العربي كان واقعا منذ نشأته الأولى تحت التأثير الهيليني وجعلا من أرسطو معلم العرب الأول في البيان، وصَدَرَ لهما تِباعاً بَحْثان أصبحا، في تاريخ الفكر النقدي الحديث، رائديْن في موضوع التأثير الأرسطي في البيان العربي:
أ- البحث الأول:(البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها) محاضرة ألقاها الأستاذ أمين الخولي في الجمعية الجغرافية الملكية في 19 مارس 1930،  وقد طبعت في كتيب صغير، كما ضمًّها كتابُه (مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، طبع سنة 1961). وذكر في هذه المحاضرة أن الفلسفة اليونانية قد أثرت في البلاغة العربية منذ نشأتها وأثناء تطورها، وعملت على ضبط أبحاثها، وتعيين غرضها وغايتها. وقال إن الأبحاث البلاغية التي تصدى لها أرسطو في كتابه (الخطابة) تكاد تكون جمهرة ما بأيدينا من أبحاث بلاغتنا، أو هي على الأقل أنواع كثيرة من فنونها الثلاثة (1).
وفي رأيه أن ما جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ كلامٌ فلسفيٌّ محض، لو قورن بمعاني أرسطو،  وبخاصة في كتاب الخطابة لرُدَّ جلُّه إليه (2).

ب- البحث الثاني: (تمهيد في البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر):

بحث قدمه د. طه حسين للمؤتمر الثاني عشر لجماعة المستشرقين، الذي عُقد في سبتمبر سنة 1931 في مدينة ليدن بهولندا، وقرر فيه أن أرسطو هو المعلم الأول للمسلمين في علم البيان، وأنَّ الهيلينية واضحة في آثار الشعراء والكتاب. واعتبر المعتزلة مؤسسي البيان العربي بتضلعهم في الفلسفة. وذهب د.طه حسين إلى أن العرب استلذوا البيان اليوناني، وهضموه حين عرَّبوه. واعتبر عبد القاهر الجرجاني فيلسوفا يجيد شرح أرسطو والتعليق عليه، وادَّعَى انه ألَّفَ بين قواعد النحو العربي وبين آراء أرسطو العامة في الجملة والأسلوب والفصول (3).
وهذان البَحْثَان الرائدان، نظراً لمكنة صاحبيْهما في الجامعة المصرية؛ فتحا الباب على مصراعيه لمقولة التأثير الهيليني الأرسطي في البيان العربي من سنة 1931 إلى يومنا هذا. وما جاء فيهما من أفكار وملاحظات وإشارات؛ أصبح منطلقات للكشف عن الصلات الموجودة والممكنة بين الثقافة اليونانية والبيان العربي.
وتميزت هذه المرحلة:1931 - 1961، بظهور أعمال منها:
(1) ظهور أطروحة د.إبراهيم مذكور(أورغانون أرسطو في العالم العربي) [جامعة باريس ط1- 1934- وما تزال الأطروحة باللغة الفرنسية]. وقد ذكر د. مذكور أن الأورغانون مارس سيطرة كبيرة وتأثيرا واسعا على مختلف ميادين المعرفة الاسلامية (4).
وذهب إلى أن كتابيْ الشعر والخطابة لأرسطو كانت لهما هيمنة على العالم الإسلامي؛ فقد أثرا في مجال النثر والشعر، وقدَّمَا قوانين للخطاب الأدبي عند العرب. وذكر د. مذكور أن فلاسفة الإسلام كانوا همزة وصل بين أرسطو وأهل البيان العربي من خلال شروحهم وتلخيصاتهم. وقال إن كتاب (العبارة) لأرسطو قد تناول قضايا متنوعة لغوية ونحوية كان لها تأثير في تكوين النحو العربي.

(2) ظهور أطروحة د.إبراهيم سلامة (بلاغة أرسطو بين العرب واليونان) – [جامعة باريس، ط1، 1950 ] - وقد قدم أوسع موضوع وأشمله لمسألة التأثير الأرسطي في البيان العربي؛ فَفَصَّل ما أوجزه د. طه حسين في بحثه المشار إليه وقال عنه:" وإِنَّا لَنُسَلِّمُ بكل ما جاء من عرض واستنتاج وتقرير وتعليق، ونستأذنه في التعقيب عليه. وإذا عقَّبنا فلن نُعَقِّبَ بأكثر من الزيادة فيه (...) وإِنَّا بعد هذه متعرضون للموضوع نفسه بشيء من السعة" (5).

(3) ظهور أطروحة د.عبد الفتاح شكري محمد عياد: (كتاب أرسطوطاليس في الشعر نقل أبي بشر متى ابن يونس القُنَّائي من السرياني إلى العربي، دراسة لتأثيره في البلاغة العربية)، وقد حققه مع ترجمة حديثة،  [دكتوراه من كلية الآداب جامعة القاهرة، سبتمبر1952، تحت إشراف أمين الخولي، طبعت سنة 1967].
وقد استلهم د.شكري عياد في أطروحته ما ورد في المقاليْن الرائديْن لكل من الأستاذ أمين الخولي ود.طه حسين. وحاول أن يُخرج ترجمة حديثة لكتاب الشعر على الصورة التي كانت شائعة - في تصوره - عند العرب؛ ليثبت أثر كتاب الشعر في البلاغة العربية.

(4) ظهور كتابي الشعر والخطابة الأرسطية والشروح والتلخيصات التي وضعها الفلاسفة المسلمون بين أيدي الباحثين. مثلا د.عبد الرحمن بدوي ترجم كتاب الشعر نقل أبي بشر متى بن يونس القُنَّائي من السرياني إلى العربي. وحقق التلخيصات التي وضعها الفارابي وابن سينا وابن رشد ضمن كتابه (فن الشعر،  ط1، مصر1953).

ب- المرحلة الثانية من 1961 إلى 1991م:

(1) في سنة 1961 ظهر كتيب للدكتور عبد الرحمن بدوي بعنوان:" حازم القرطاجني ونظريات أرسطو في البلاغة والشعر" (أعيد نشره في كتاب: (إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين)، سنة 1962 ص85 - 146). فبعد ما أحس سنة 1953 - في نهاية مقدمة كتابه فن الشعر- بالخيبة في أن يكون العرب قد أفادوا من كتاب الشعر، كما أفادت أوربا في عصر النهضة. قال في الكتيب المذكور إنه لم يجد كتابا في البلاغة، حتى القرن السابع الهجري؛ قد عرض لنظريات أرسطو في البلاغة والشعر، حتى عثر على كتاب (منهاج البلغاء) لحازم القرطاجني (684هـ؛ فاعتبر صاحبه أول من أدخل نظريات أرسطو وتعرض لتطبيقها في كتب العربية الخالصة. وقال:" فللأول مرة نجد في كتاب للأحد علماء البلاغة العربية الخُلَّص- أعني غير الفلاسفة - عرضا وإفادة من نظريات أرسطو في البلاغة والشعر واستقصاءً بالغاً لها باهتمام وحسن فهم، ورغبة في التطبيق على البلاغة العربية والشعر العربي"(6).

(2) وجاء د. محمد الحبيب بلخوجة ليقول في مقدمة أطروحته: تحقيق: منهاج البلغاء [تحت إشراف: ريجيس بلاشير، ت: 1973- طبعت سنة 1966]: إنه كان من الصعب جدا التوصل إلى تقديم تأثيرات أرسطو على نقد الشعر عند العرب، وذلك قبل الوقوف على كتاب حازم القرطاجني (منهاج البلغاء)؛ الذي يُصَوِّرُ بغاية الوضوح التأثيرات اليونانية في صناعة النقد عند العرب (7).
واعتقد كثير أن الباحثين أن ظهور المنهاج قد وضع حدا لمسألة التأثير الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين.

(3) وظهر خلال هذه المرحلة كتاب (المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع) لأبي محمد القاسم السلجماسي، توفي نحو 730هـ، حققه وقدم له: د.علال الغازي، [ رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، نوقشت سنة 1977، تحت إشراف د. أمجد الطرابلسي]، وطبع سنة 1980. ورأى المحقق أن كتاب المنزع يتمثل فيه " اللقاء العضوي بين العرب واليونان في الدرس النقدي" (8).
ورأى أن ظهور منهاج حازم ومنزع السلجماسي وروض ابن البناء ستقدم منعطفا جديدا في النقد الأدبي عند العرب، وربما سيحسم هذا المنعطف الموقف في مسألة التأثير اليوناني في النقد والبلاغة العربيين (9).
لقد تحدث د.أمجد الطرابلسي في تصديره لكتاب |(المنزع البديع) عن مدرسة بلاغية عربية مغربية أشهر أعلامها حازم القرطاجني (684هـ ) وابن البناء العددي (721هـ) والسلجماسي صاحب المنزع الذي انتهى من تأليفه سنة 704هـ. ولاحظ د. أمجد الطرابلسي أن هذه المدرسة كانت أحسن اطلاعا على منطق أرسطو، وأعمق فهما لمضمون كتابيْه الشعر والخطابة بين النقاد والبلاغيين الذين عرفتهم القرون السابقة في مشرق الوطن العربي ومغربه. ورأى د.أمجد أن هذه المدرسة مدينة بظهورها إلى آثار ابن رشد وتلخيصاته لمصنفات المعلم الأول (10).

(4) وطبع كتاب" الروض المريع في صناعة البديع" لابن البناء المراكشي 622هـ، سنة 1985، بتحقيق رضوان بنشقرون. [رسالة دبلوم الدراسات العليا، نوقشت سنة 1984 تحت إشراف د. عزة حسن ]. ولاحظ المحقق أن ابن البناء تأثر تأثرا كبيرا بالمنهج الفلسفي والمنطقي في التفكير والبرهنة والاستدلال (11).
كما لاحظ د.عزة حسن في تصديره للروض المريع أن ابن البناء ينتمي إلى مدرسة امتزج في تفكيرها وكُتُبِها آثار تراث العربية وآدابها بآثار التراث اليوناني المتمثل في كتب أرسطو خاصة، ولاسيما كتبه في المنطق والنقد (12).

(5) ثم ظهر كتاب جديد من تراث هذه المدرسة المغربية سنة 1991، وهو كتاب (التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات) لأبي المُطَرِّف أحمد بن عميرة (658هـ)، بتقديم وتحقيق د. محمد ابن شريفة. والكتاب كما يتضح من عنوانه ردٌّ على بعض الأفكار التي أوردها معاصره عبد الكريم الزَّمَلْكَاني (651هـ) في كتابه (التبيان في علم البيان المُطْلِعُ على إعجاز القرآن)، تحقيق د.أحمد مطلوب ود. خديجة الحديثي، ط1، بغداد مطبعة العاني، 1964
وقال د. محمد ابن شريفة في مقدمة التحقيق إن "ابن عميرة والقرطاجني والسلجماسي وابن البناء يمثلون اتجاها جديدا في التأليف البلاغي، ويقدمون اجتهادا في التناول، وهم يجمعون بين المأثور البلاغي العربي والتراث اليوناني الأرسطي؛ وذلك بواسطة الفارابي وابن سينا وابن رشد على وجه الخصوص" (13).

ثانيا: هل تأثر ابن عميرة بكتابيْ الشعر والخطابة لأرسطو؟

1– طبيعة كتاب ابن عميرة:

كتاب ( التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات) عبارة عن تقييد جمع فيه ابن عميرة ردوداً ومناقشات لما أورده ابن الزَّمَلْكَاني في كتابه ( التبيان في علم البيان المُطْلِعُِ على إعجاز القرآن)؛ وهي ردود ومناقشات لا تخلو من اندفاع وتَعالٍ. وكتاب ابن الزملكاني شرح لكتاب (دلائل الإعجاز)، وإعادة ترتيب لمادته البلاغية؛ إذ وجد ابن الزملكاني أن كتاب ( دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني كان زبدة البيان العربي، وأنه أعاد لهذا البيان عنفوانه وتوهجه، وأن عبد القاهر قرّبه من الأفهام وجعله"أسهلَ من النَّفَس، وأصحبَ للفهم من الضوء لشهاب القَبَس في الغَلَس". غير أنه وجد الكتاب يخلو من التبويب، ويفتقر إلى الترتيب، ويجلب الملل إلى القارئ؛ فسهَّل الله تعالى على حد قوله"جمعَ مقاصده وقواعده، وضبط جوامعه وطوارده، مع فرائد سمح بها الخاطر، وزوائد نُقلتْ من الكتب والدفاتر" (14).
ولا يشك أحد في أصالة عبد القاهر في القديم، حتى أشاع د. طه حسين في سنة 1931م أن عبد القاهر الجرجاني "فيلسوف يُجيد شرح أرسطو والتعليق عليه، وأنه ألف بين قواعد النحو العربي وبين آراء أرسطو"، كما أشرتُ إلى ذلك.
ويبدو أن عبد القاهر لم يكن محط أنظار البلاغيين في الغرب الإسلامي. ولعل أهم ما يميز بلاغة الغرب الإسلامي بُعدُها عن روح عبد القاهر. ورجح د. محمد ابن شريفة أن يكون ابن عميرة غيرَ مطَّلع على دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وقوَّى هذا الترجيحَ لديْه أن الكتابيْن لم يرد لهما ذكرٌ في كتب البرامج الأندلسية والمغربية (15). والغريب حقا أن ابن عميرة ركز في تنبيهاته على المسائل التي لخصها مؤلف التبيان من دلائل الإعجاز كما لاحظ ذلك د. محمد ابن شريفة.
فطبيعة كتاب ابن عميرة ردود واعتراضات ومناقشات تنصب على الجزئيات والشواهد التي يوردها مؤلف تبيان في علم البيان. أما المآخذ والانتقادات التي من شأنها أن تمكننا من آرائه الشخصية واتجاهه البلاغي؛ فإنها قليلة في الكتاب (16).
فكتابُه لم يضعه لمعالجة قضايا البيان العربي برؤية محددة، وإنما جاء لمراجعة ابن الزملكاني، وإن حاول أن يقدم ملاحظات عامة في بعض القضايا أثناء متابعته لتلك الجزئيات.

2 – التكوين الفلسفي لابن عميرة:

حدد د. محمد ابن شريفة في مقدمة كتاب ( التنبيهات) الملامح الفلسفية في ثقافة ابن عميرة، على الشكل الآتي:
(أ) ذكر أن ابن عميرة كان متشبعاً بالعلوم القديمة، مُداوماً على قراءة كتب التعاليم الفلسفية، كما يتضح من رسائله وأشعاره وردِّه على الفخر الرازي (606هـ).
(ب) وأنه أخذ عن تلامذة ابن رشد (595هـ)؛ لأن أبا المطرف "لم يلق ابن رشد، ولكنه أخذ عن الشلوبين، وهو من تلاميذ ابن رشد، ولا بد أنه عرف بلديَّه ومعاصرَه ابن طلموس وهو من أشهر تلاميذ ابن رشد".
(ج) وأنه كان ملما بتلخيص كتابيْ الشعر والخطابة، كما هو واضح في التنبيهات، وكان ابن عميرة إماما في صناعة البلاغة وقوانينها النظرية، وقد اعتبره حازم القرطاجني نسيج وحده (17).

3 – رأي د. محمد ابن شريفة في تأثر ابن عميرة بالريطوريقا اليونانية:

(أ) رأينا أن د. محمد ابن شريفة يعتبر ابن عميرة من هؤلاء البلاغيين المغاربة الذين يمثلون اتجاهاً جديداً في التأليف البلاغي ويقدمون اجتهاداً خاصا في التناول، وهم يجمعون بين المأثور البلاغي العربي والتراث اليوناني، وذلك بواسطة الفارابي وابن سينا وابن رشد على وجه الخصوص (18).
بل هو يعتبر عمل ابن عميرة في هذه التنبيهات" ثاني مجهود أندلسي في سبيل المزاوجة بين البلاغة اليونانية والبلاغة العربية، أو محاولة تطبيق الأولى على الثانية. أما المجهود الأندلسي الأول فهو الذي قام به ابن رشد خلال تلخيصه لكتابيْ الخطابة والشعر؛ إذ أنه أول من كسا القوانين البلاغية اليونانية في هذين الكتابيْن بشواهد من الشعر العربي، ومن القرآن والحديث في بعض الأحيان" (19).
(ج‌)          ويظن د. محمد ابن شريفة أن قيمة صنيع ابن رشد تكمن في أنه فتح الباب أمام التطبيقات العربية على مبادئ تلكم الصناعة النظرية، وأن البلاغيين المغاربة على توالي أجيالهم في تلك المرحلة حاولوا أن يؤسسوا بلاغة تقتبس من اصطلاحات الأورغانون، وتجتهد في تطويعها وتتوسع في تطبيقها على كلام العرب (20).
(د‌)           وتتبع د. محمد ابن شريفة تجليات التأثير الأرسطي في كتاب (التنبيهات) فوجدها في المتابعة والأخذ من ابن سينا(429هـ) وابن رشد (595هـ) من خلال شرحيْهما لكتابي الشعر والخطابة، واستفادته من مفاهيمهما واصطلاحاتهما؛ بل وجد ظلال هذا التأثير أيضا في شعر ابن عميرة، ونبه على مواطن الالتقاء في الدراسة وفي هوامش التحقيق.

4 – مسألة تأثر ابن عميرة بالبيان الأرسطي:

كان ابن عميرة في مناقشته، يحاول أن يختصر فيلجأ أحيانا إلى اقتباس جمل من ابن سبنا وابن رشد دون إشارة إليهما. وهذه الاقتباسات ما كان يحتاج إليها ابن عميرة في دعم آرائه؛ إلا إذا أراد أن يتظاهر بعمق التنظير في ردوده واعتراضاته على ابن الزملكاني. ذلك أن تلك الاقتباسات لا تُقدم فتوحات ولا فهوما في البيان عموما، ولا يتضاءل البيان العربي إزاءها، أو يستشعر الحاجة إليها، ثم إن تلكم الاقتباسات تكشف عن الصورة التي آلت إليها البلاغة اليونانية عبر" قراءات" الفلاسفة لها. لقد حاول ابن عميرة أن يستفيد من منهج ابن رشد في المزاوجة بين البلاغة اليونانية والبلاغة العربية، وحاول تقريب الشقة بين ما فهِمه كل من ابن سينا وابن رشد وبين بعض المباحث البلاغية، فجمع حقا" بين المأثور البلاغي العربي والتراث اليوناني الأرسطي"، كما قال د. محمد ابن شريفة. ولكن كيف كان ذلك الجمع؟
ولا أظن أن ابن عميرة قد وُفِّقَ في محاولة تطبيق البلاغة اليونانية على البلاغة العربية، أو أنه بعمله هذا قد أفاد البلاغة العربية قوانين جديدة، ومن خلال ما نقله عن ابن سينا وابن رشد، لا أتصور أن ابن عميرة قد تمثَّل كتابي الشعر والخطابة لأرسطو أو تشبع بأفكارهما؛ وإنما اطلع واستفاد مما فهمه كل من ابن سينا وابن رشد من كتابيْ الشعر والخطابة لأرسطو، وما فهما منه قدْراً يمكن أن يُستفاد منهما! ولا هو فهم منهما ما يُعتَدُّ به في تأصيل الثقافة العربية! وسأقف عند مثال واحد أختبر به مقولة التأثير في كتاب ( التنبيهات) لابن عميرة.

ثالثا: مثال على مسألة التأثير:

بعد أن عرَّفَ ابن الزملكاني الكناية، وكونُها أبدا أبلغ من التصريح؛ جاء بقول زياد الأعجم في مدْحِ أحد وُلاة بني أمية:
إنَّ السَّماحَةَ والمروءَة والنَّدَى     في قُبَّةٍ ضُرِبَتْ على ابن الحَشْرَجِ
وشرحه بقوله:" أراد أن يقول: إن السماحة والمروءة والندى مجموعة في ابن الحشرج أو مقصورة عليه أو مختصة به، فجعل في القبة المضروبة عليه كناية عن كونها فيه" (21).
إلى أن قال:"ومما هو في حكم المناسب لبيت زياد، وإن كانت قوائمه في الغرابة أرسخ، قول حسان:
بَنى المجْدُ بيتاً فاستَقَرَّتْ عِمادُهُ     علينا، فأعيى الناسَ أن يَتَحَوَّلاَ" (22).
وقد أورد ابن عميرة في تنبيهاته بيت حسان، وعلق على قول ابن الزملكاني بقوله:"وحكَمَ له بالزيادة على بيت زياد؛ لأن زياداً نسب الفضيلة إلى قُبَّةٍ تكون من أدَمٍ وغيره، وهذا ذكر بيتاً نسبَ بناءَهُ إلى المجد وزاد بإعطائه معنى الرُّسُوخ وقَطْع الأطماع، وفيه من التغيير البديع أن يُنسب الأمرُ إلى صفة الفاعل دون الفاعل، فنسب البيت إلى المجد لا إلى الرجل مثل ما يُقال: الشيخوخةُ تَفْعًلُ الخَيْراتِ، بل قول القائل: المشايخُ يفعلونها" (23).
- بالعودة إلى كتاب (دلائل الإعجاز)، وهو الأصل المعتمد عند ابن الزملكاني نجد أن الحكم بالزيادة لبيت حسان بن ثابت على بين زياد الأعجم صاحبها الحقيقي هو عبد القاهر؛ إذ هو القائل:"ومما هو في حكم المناسب لبيت زياد وأمثاله التي ذَكَرْتُ، وإن كان قد أُخْرِجَ في صورة أغربَ وأبدعَ، قول حسان رضي الله عنه" (24).
- وابن عميرة وجد حسان ينسب بناء البيت إلى المجد؛ أي أنه يسند بناء البيت إلى المجد، أي يسند الفعل إلى غير فاعله الحقيقي كإسناد الرِّبْحِ إلى التجارة في قوله تعالى:" فما رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم" [ البقرة:16]، وسمي أيضا مجازا عقليا؛ إذ أن العقل هو الذي يتصرف في الإسناد.
- وفي هذه اللحظة ينتقل ذهن ابن عميرة، كما ينتقل بصرُهُ إلى خطابة ابن سينا وشرح الخطابة لابن رشد.
- فما وجد ابن عميرة في خطابة ابن سينا؟
" ومن التغييرات الاستعارية اللذيذة أن يُنسب الأمر إلى صفة الفاعل، دون الفاعل، وخصوصا إذا كانت تلك الصفة تُوجب الأمر، مثل أن يقال: المشايخ يفعلون الخيرات، بل يقول إن الشيخوخة تفعل الخيرات، وهذه صفة عامة كالجنس" (25).
- وماذا وجد ابن عميرة في تلخيص الخطابة لابن رشد؟
" وهذا التغيير هو مثل قول القائل: إن الشيخوخة هي فاعلة الخيرات، فهذا تغيير، ولكنه مبهم لأنه من الجنس. والشيخ إنما هو فاعل الخيرات من جهة الشيخوخة! (26).
-         فمن أين جاء كل من ابن سينا وابن رشد بهذا المثال؟

حينما نرجع إلى الترجمة العربية القديمة لكتاب الخطابة لأرسطو؛ التي لا يُعرَفُ اسم مترجمها ولا زمن ترجمته لها، والتي بلغت من الرداءة والتشويه شأواً بعيداً؛ نجد ما يأتي:
" فإذا قيل في التغيير إن الشيخوخة فعلت الخيرات؛ فذاك تعليمٌ وعلمٌ يكون بالجنس، وكلاهما حسن" (27).

- فهل يوجد هذا المثال في النص الإغريقي؟ وهل ورد هذا المثال في خطابة أرسطو؟
إذا رجعنا إلى النص المترجم عن اليونانية إلى اللغة الفرنسية نجد في ترجمة دوفور وفارتيل (28):
C'est la métaphore qui produit surtout l'effet indiqué lorsque le poète appelle la vieillesse un brin de chaume; il nous instruit et nous donne une connaissance par le moyen du genre; car l'un et l'autre sont féfleuris
- والمراد بالشاعر هوميروس، وأحال فارتيل صاحب التعليقات على الأوديسا ( Odyssée 14 214
- وإذا رجعنا إلى النص المترجم عن الإغريقية إلى العربية ( وقد اعتمد د. عبد الرحمن بدوي في ترجمته للنص الإغريقي تحقيق ريمر: A. Roemerَ نجد:
- " ولهذا فإن المجاز هو الذي يحدثُ قبل غيره – هذا التأثير – فهوميروس حين يسمي الشيخوخة قصبةً؛ يُعلِّمُنا ويُخبرُنا بواسطة الجنس؛ لأن كليهما فَقَدَ ازدهارَه" (29).
- ويشير د. بدوي إلى أن قول هوميروس مأخوذ من الأوديسا: 14:213؛ فيقول في الهامش: والكلام لأودسيوس، وقد حوَّلتْه أثينا إلى شحّاذ عجوز مخاطباً يومايوس؛ راعي خنازيره الأمين، وكلن قد أقام في بيته تَخَفِّياً. والقصَبَةُ: ما يبقى من ساق القمح بعد الحصاد.

فماذا يُلاحظ؟

يلاحظ أن ابن سينا وابن رشد اعتمدا الترجمة العربية القديمة لخطابة أرسطو، وكأنهما لم يريا غيرها، فقد وجدا فيها:"أن الشيخوخة فعلت الخيرات".
فقال ابن سينا في خطابته:" الشيخوخة تفعل الخيرات"، وقال ابن رشد في تلخيصه للخطابة:" الشيخوخة هي فاعلة الخيرات"، وتبعهما ابن عميرة مرددا عبارة ابن رشد:"إن الشيخوخة هي فاعلة الخيرات".
ولا أصل لهذا المثال في خطابة أرسطو كما رأينا. فالشاعر هوميروس استعار القصبة للشيخوخة؛ إذ أن الإنسان يفقد أثناء الشيخوخة نضارته وحيويته، ويفقد ازدهاره فيُصبح جافا يابسا؛ يُشبهُ أصل الزرع حين يبقى بعد حصاده. فالشيخوخة والقصبة كلاهما فقَدَ"ازدهارَه".

والخلاصة
أن ابن عميرة قد اطلع ما فهمه كل من ابن سينا وابن رشد من خطابة أرسطو، وأنه اطلع على ما وجده لديهما، وما حقيقة ما وجده عندهما؟! وهل هذا الذي أخذه منهما يُضيف فهما جديدا لشيء ما؟ وهل يُضيف شيئا إلى البلاغة العربية؟ وهل يُضيف إلى مناقشاته لابن الزملكاني قيمة معينة؟ أرى أن  عبقرية ابن عميرة البيانية لا ترجع إلى ما استفاده من ابن سينا وابن رشد وغيرهما، بل تعود إلى موهبته، وعلمه الواسع، ودقته في فهم أساليب العربية، وقدرته على الإبداع شعرا ونثراً. وقد كشف هذه الجوانب بالدقة المعهودة فيه، أستاذنا د. محمد ابن شريفة في عمله الرائد في البحث الجامعي المغربي: أبو المطرف أحمد ابن عميرة المخزومي حياته وآثاره.
 
هوامش:

1 – البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها: أين الخولي، ص12
2 – نفسه، ص19
3 – مقدمة نقد النثر: تمهيد في البيان العربي ن الجاحظ إلى عبد القاهر، ترجمة عبد الحميد العبادي عن الأصل الفرنسي، ص30 – د. ط [ بيروت، دار الكتب العلمية، 1980].
4 – L'Organone d'Aristote dans le monde Arabe: Ibrahim Madkour – Librairie philosophique – Vrin – Paris 1969. P:268 – 269
5 – بلاغة أرسطو بين العرب واليونان: إبراهيم سلامة، ص55 – ط2 [ القاهرة، مطبعة مخيمر، 1952].
6 – إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين، ص87 – ط1 [ القاهرة، دار المعارف، 1962].
7 – منهاج البلغاء وسراج الأدباء: حازم القرطاجني، تحقيق: محمد الحبيب بلخوجة، ص32 – ط3 [ بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1986].
8 – المنزع البديع، ص28 – ط [ الرباط، مكتبة المعارف، 1980].
9 -  نفسه، ص61
10 – الروض المريع في صناعة البديع: ابن البناء، تحقيق: رضوان بنشقرون، ص20– ط1 [ البيضاء، دار النشر المغربية، 1985].
11 – المنزع، تصدير د. أمجد الطرابلسي، ص14
12 – الروض المريع، تصدير د. عزة حسن، ص8
13 – التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات: أبو المطرف أحمد بن عميرة، تقديم وتحقيق: د. محمد ابن شريفة، ص9 – ط1[ الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، 1991].
14 – التبيان في علم البيان المُطلع على إعجاز القرآن: ابن الزملكاني، تحقيق: د. أحمد مطلوب ود. خديجة الحديثي، ص30 – ط1[ بغداد، مطبعة العاني، 1964].
15 – التنبيهات، ص25    16 – نفسه، ص17     17 – نفسه، ص12 – 13
18 – نفسه، ص9
19 – نفسه، ص31     20 – نفسه، ص32
21 – التبيان في علم البيان المُطلع على إعجاز البيان، ص28 – وفي دلائل الإعجاز:"أراد، كما لا يخفى، أن يُثبت هذه المعاني والأوصاف خِلالا للممدوح وضرائب [ سجايا] – فيه، فترك أن يُصرح فيقول:" إن السماحة والمروءة والندى لمجموعة في ابن الحشرج، أو مقصورة عليه، أو مختصة به"، وما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للمذكورين بها، وعَدَلَ إلى ما ترى من الكناية والتلويح...، ص307
22 – نفسه، ص39 – 40
23 – التنبيهات، ص56 - 57
24 - دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر،ص311 – ط1 [القاهرة ، مكتبة الخانجي، 1984].
25 – الشفاء – المنطق – ابن سينا، تحقيق: محمد سليم سالم، ص228 – ط1[         القاهرة، المطبعة الأميرية، 1954
26 – تلخيص الخطابة: ابن رشد، حققه وقدم له: د. عبد الرحمن بدوي، ص291 – ط1 [ بيروت، دار القلم، 1959].
27 – الخطابة، الترجمة العربية القديمة: أرسطوطاليس، ص213  - د.ط [ بيروت، دار القلم، 1979].
28 –Rhétorique. Aristote. Texte établi et traduit par Médéric Dufour et André wartelle Livre3, Paris 1973; P:63
29 – فن الخطابة: أرسطو، ترجمة عن اليونانية وعلق عليه وقدم له: د. عبد الرحمن بدوي، ص220 – ط2 [ بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، 1986].


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق