الثلاثاء، 8 مارس 2022

                            كلمات تمهيديَّة عن تراث الإسلام

                                                                                       عباس ارحيلة 

أولا: تراث يرتبط به الوجود والمصير

تراث الإسلام هو ما تشكّل حول الوحي بشقّيْه: القرآن الكريم والسّنَّة النبويّة، فهو تراث ارتبط بدينٍ واحتفَّ به، وتخَلَّقَ منه؛ استجابةً لمجيئه للناس كافةً؛ فنشأ ما ظهر للإسلام من وجود تاريخيّ في الحضارة والفكر والثَّقافة. فأصبح التراث هو مستودَع حضارة الإسلام عقيدةً ولغةً وفكراً. فهو أُسُّ البناء الحضاريّ للأمة الذي به تصبح كينونتها راسخة في الوجود البشري.

وبفضل خاتميةِ هذا الوحي، وعمومِيته لكافّة البشر؛ تقرّرتْ صلاحيتُه للبقاء والتجدُّد والاستمرار على مدى ما تبقَّى من الحياة البشريّة على الأرض؛ ومن هنا ارتبطت حقيقة ذلك الوحي بالمصير البشريّ حالاً ومآلاً؛ آمن به من آمن، وكفر به من كفر.

ثانيا: تراث صار بمثابة جينات وراثية

وبمُضيِّ الزمن، استقرّ ذلك التُّراث في سويداء قلوب المؤمنين به من أي جنس كانوا، وصار بمثابة جيناتٍ وراثيةً يتوارثها أبناؤهم؛ بها يتحقَّق وجودهم بين بَني البشر، وبها يُعرَفون، وبفضْلِها يُذكَرون، وباستلهام روحها يتطوَّرون؛ فيحاورون الحضارات البشريّة من مراكز عقيدتهم به.

وبقوَّة إرثهم الإيمانيّ الوجوديّ الحضاريّ؛ تبيَّن لحاملي جينات ذلك الموروث أن وجودهم وهُوِيَّتَهم مشروطان بوجوده، وحضورُهم في التاريخ رهينٌ بحضوره. ومن تلك الجينات تشكّلت الهُوِيَّة الإسلاميَّة في التَّاريخ البشريِّ. وأصبحت هذه الهُوِيَّة مكمَن القوة في المؤمنين بها. وسعى العدوّ إلى تجريدهم منها، وتدمير منبع الحيوية فيها. 

ونتيجةً لذلك، تعرَّضت تلك الجينات الوراثيَّة في الهُوِيّة الإسلاميّة لأشكال من التشوُّهات على مدار التاريخ، مع سعي أعدائهم إلى إطفاء ما تحتويه من نورانية، بها يشعُّ الإيمان ويتجدَّد، فتمّت محاصرة ذلك التراث، قديماً وحديثا، تشكيكاً وطعناً وتشويهاً في وجدان المؤمنين به؛ لصدِّهم عنه، وإطفاء جذوته في نفوسهم.

 

النهضة العربية الحديثة والاهتمام بالتراث اليونانيّ

عباس ارحيلة

كان المترجمون من السريان قديماً يعيشون في بيئات منعزلة من الرهبان، وكانت الشعلة اليونانيَّة قد انطفأت وذهبت عهود ازدهار الفكر اليونانيِّ. فكان المترجمون يعيشون وسط المخطوطات في دهاليز أديرتهم، لا علم لهم بالمسرح اليونانيِّ. أما في العصر الحديث، وبعد الصدام الحضاريِّ بين الشرق والغرب، فإن الحكماء المترجمين قد أدركوا مكانة الثقافة الإغريقيَّة من الثقافات الأوربيَّة الحديثة، وأُتيحت لهم فرص الاطلاع على أجواء الحضارة المعاصرة وأن يشاهدوا المسرحيات، وبدأت الثقافة العربية منذ مطالع القرن التاسع عشر تتطلع إلى ما لدى الغربيِّين من آداب وأفكار، بل وتطَّلع على الأصول الميثولوجيّة لبعض الآداب الأوربيَّة.

أ - كان رِفاعة الطهطاوي (1801-1873) الرائد الأول في تقديم الأدب اليونانيّ: فقد عُني بتاريخ اليونان وخرافاتها وآدابها وفلسفتها، وقد كان من جهود مدرسة الألسن ترجمة كتاب في التاريخ القديم بعنوان: (بداية القدماء وهداية الحكماء) (طبع بمطبعة بولاق سنة 1254ه)،وقدم له رفاعة بقوله: «ولما كان تاريخ تلك العصور، بالكتب العربية في غاية القصور، ولا سيما تاريخ اليونان، المشتمل على فحول رجال تلك الأزمان، لمَّا أن ذلك حاز كمال الرونق والبهجة، عند أمّة الإفرنجة، وصحَّ التعويل عليه... وكان بمدرسة الألسن من يقوم بتعريب طرفه؛ أعطيتُه لعدة أفراد، لتعريب المراد في أقرب ميعاد»[1].

   وأشرف رفاعة على تصحيح الترجمة ومراجعتها على أصولها. وقد تناول الخرافات اليونانيَّة بالتفصيل في مقالة من خمسين صفحة، وبيَّن أن معرفة اليونان تتوقف على معرفة من ميثولوجيتها؛ التي تعتبر مدخلا لفهم الآداب اليونانيَّة.

    واذا كانت الآداب الأجنبيَّة قد نهجت نهج اليونان، فاتخذت الميثولوجية اليونانيَّة قدوة؛ فإن الطهطاوي يرى ضرورة تعريب الميثولوجية؛ «لاشتمالها على دقائق خفية، ونكات أدبية، لاسيَّما وأن معرفة آداب اللغة الفرنساويَّة متوقفة على معرفتها لما علمت أنها شاربة مشربها»[2]. ويذكر محمد أحمد خلف الله أن مقالة الطهطاوي تعتبر أول محاولة جادة لنقل جوِّ الأساطير اليونانيَّة إلى الفكر العربيِّ الإسلاميِّ.

 وقد خصص المقالة الخامسة من كتابه للكلام عن حِرَفِ اليونان وآدابهم وعلومهم، وقدَّم الخطوط الكبرى لتطوُّر الأدب اليونانيِّ، وقام بترجمة (مغامرات تليمك) لفنيلون (fénelon)[3] إلى العربية لينقل شيئا من جو (الإلياذة) و(الأوديسا). فشغل نفسه أيام نفيه بالسودان بترجمة الكتاب، ثم أخرجه بعد عودته إلى مصر بعنوان (مواقع الأفلاك في وقائع تليماك)[4].

صحيح أن هذه أول محاولة جرئيه في تقديم الأدب الأسطوريِّ اليونانيِّ إلى الثقافة العربيَّة؛ وهي محاولة من شأنها أن تفتح آفاق الأدب القصصيِّ وتجعل العقلية العربيَّة تواجه أجواء الأساطير والمغامرات الغربيَّة.

ويمكن القول إن رجال مدرسة الألسن قد ساهموا في نقل جوانب من التراث اليونانيِّ إلى الثقافة العربيَّة.

ب - وبالرغم من أن النهضة العربية اتجهت إلى العناية بإحياء القيم الأدبية القديمة؛ فإن جماعة من الباحثين من مصر والشام حاولوا أن يتصلوا بمنابع الثقافة العربيَّة الكلاسيكيَّة، وأن يزاوجوا بينها وبين الثقافة الغربيَّة الكلاسيكيَّة. ومن هذه الجماعة نجد محمد روحي الخالدي (1864 - 1913) الذي كان يشغل في فرنسا وظيفة «قنصل جنرال الدولة العثمانية»، يؤلف كتاباً بعنوان: (تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو) (صدرت ط1 بمطبعه الهلال، القاهرة، 1904م، والثانية سنة 1912م)[5]. وقد استعمل الخالدي مصطلح (الحماسة) بدل (الملحمة) وذكر أن أشهر كتب الحماسة عند اليونان «الإلياذة» و«الأوديسا» وأشهر كتب الحماسة عند العرب (حماسة أبي تمام)[6].

ج - وألف قسطاكي الحمصي (1856-1925) كتابه (منهل الوراد في علم الانتقاد) فعرض لهم لـ(هوميروس)، وهو إن استعمل لفظة ملاحم، وأشار في كتابه إلى البستاني؛ فإنه ذكر الحماسة بدل «الملحمة».

د - ودرس  سليمان البستاني (1925 -1856) اليونانيَّة القديمة في سبيل نقل «الإلياذة» فقد ترجمها في نهاية القرن التاسع عشر شعراً عربيّاً، وقدم لها بدراسة مستفيضة حول (هوميروس) وشعره وآداب اليونان والعرب، مذيَّلة بمعجم عام وفهارس طبعت في مصر سنه 1904، وفي 1260 صفحة كبيرة ازدانت بكثير من رسوم آلهة اليونان[7].

وقد تأسف المستشرق (هملتون جب: Gibb) حين وجد أن المظاهر الحديثة السطحية للفكر الغربي هي التي قوبلت بالتقدير؛ بينما ظلت الأصول مجهولة.  فقد استبشر خيراً حين تمَّت أول محاوله لتعريف العالم العربيِّ بشيء من الأدب الكلاسيكيِّ على يدي سليمان البستاني في ترجمته للـ«إلياذة»، غير أنه وجد المحاولة سابقة لأوانها، كما أن المترجم لم يحسن اختيار الموضوع. «فالشعر الملحمي لم يجذب إليه العربي في يوم من الأيام، كما أن لغته ينقصها البناء العريض المناسب للقصائد الطويلة من هذا النوع. ومما زاد في الصعوبات الفنية اضطراره إلى تعريب جميع الأسماء الإغريقيَّة وحشرها في الوزن العربيِّ»[8].

    وكانت الترجمة عبارة عن تمرين بذل فيه صاحبه مجهوداً، ومن ثم فهي لم تعمِّق مزايا الأصل اليونانيِّ في النفس العربيَّة. وكتب رشيد رضا على أثر صدور ترجمة «الإلياذة»: «الآن عرفنا موقف العرب من الشعر اليوناني، ولماذا نبذوه، ولم يترجموه، أو يأخذوا من معانيه»[9].

    ولاحظ (جب) أن مصر كانت تسعى سعياً حثيثاً وراء الديمقراطية الغربيَّة والعلم الغربي. وهي تجهل أصولهما، فأحسَّ طه حسين بهذا التناقض أعمق إحساس، فبادر إلى دراسة الأصول باعتبارها أساساً لكل ثقافة حية، ومن شأنها أن تحقق التقدم المنشود. وكان أحمد لطفي السيد مدير الجامعة في الوقت نفسه منكبا على ترجمة (الأخلاق إلى نيقوماخوس) عن الفرنسية، وقد ظهر سنه 1924. وإذا كانت الأوضاع السياسيَّة قد ذللت السبيل لطه حسين، فإنها من الناحية أخرى عطلت انتشار دعوته. وحين نُقل إلى كرسيِّ الأدب العربيِّ، توقَّف عن المضيِّ فيما كان مقدما عليه من الدراسات القديمة، وكانت نهاية مبكرة تدعو إلى الأسف[10].

وتنهض  الجامعة المصريَّة منذ أوائل القرن الحاضر بالدراسات القديمة، ويزداد اتصال الفكر العربيِّ بالمسرح اليونانيّ وأدبه عن طريق الاتصال بالمسرح الأوربيِّ وآدابه الحديثة. ونجد الدراما الإغريقية طريقها إلى الترجمة العربيَّة البليغة وإلى المسرح العربيِّ، وتصبح اليونانية من أركان الدراسات الأدبيَّة واللغوية في الجامعات العربيَّة[11].

 وما سبقت الإشارة إليه لا علاقة مباشرة له بالتفكير الأرسطيّ، إنما كان تعرفا على بعض ملاحمه من خلال اطلاعهم على أعمال الكلاسيكيين الأوربيِّين، وسنجد أن الجانب العقلانيَّ من النهضة العربيَّة الحديثة سيتصل اتصالاً مباشراً بأرسطو، ويعتبره عمدة للنهضة.

 



[1] بحوث ودراسات في العروبة وآدابها: محمّد أحمد خلف الله، ص 160 (نقلا عن بداية القدماء وهداية الحكماء، ص 6).

[2] نفسه، ص 160

[3] فنيلون (Fénelon) (1695 – 1715)  أحد علماء الدين والدراسات الدينيّة في فرنسا في القرن 17. ألف الكتاب المذكور للدوق دو بوركون (Duc de Bourgogne ) حفيس لويس الرابع عشر، واتخذه أداة لنقد سياسة حكومة لويس الرابع عشر والدعوة إلى الإصلاح (المرجع نفسه، ص 162).

[4] نفسه، ص 162 – 163.

[5] مقدمة في النقد الأدبيّ؛ عليّ جواد الطاهر – (ط1)، ص93.

[6] نفسه، ص 93.

[7]  نفسه، ص94.

[8] دراسات في حضارة الإسلام: هاملتون جب، ترجمة إحسان عباس ومحد يوسف نجم ومحمود زايد – (ط1) ، 360.

[9] خصائص الأدب العربيّ: أنور الجندي، ص 268 – 269.

[10] نفسه، ص 361.

[11] بحوث ودراسات في العروبة وآدابها: مجمّد أحمد خلف الله، ص 160

الأربعاء، 11 سبتمبر 2019


مرَّاكش في وجدان محمّد آيت الفرَّان مترجماً
عباس أرحيلة
                   بسم الله الرحمن الرحيم 
ماذا تعني مدينة مراكش في حياة مولاي محمّد آيت الفرَّان[1]؟ ما مكانتها في نفسه، وما مدى تغلغلها في وجدانه؟ حضور المدينة في تفكيره بزخمها التاريخيّ الحضاريّ قلما يفارقه في أغلب مشاركاته العلميّة، تراه وكأنَّ انتماءه إلى هذه المدينة يجعله دائم التعلق بها، والإحساس بضرورة التضحية من أجلها؛ تعلُّقٌ يجعله دائم الحنين إليها وهو بين دروبها! ترى كيف يكون حاله إذا فارقها، واغترب عنها؟ وأنَّى له أن تفارقه ذكرياتُها، وهو الهائم بسحرها، العارف بأحوال أناسها، الخبير بتفاصيل تفاصيلها!
ومن صُدَف الأقدار أن يتعرّف في ألمانيا بطبيب مغربيّ من أصل طنجيّ اسمه خالد سهولي، له عشقه الخاص لمدينة مراكش، وله معها ذكريات: أقاصيص وحكايات.
 وخالد هذا قادته أسفاره إلى مدينة مراكش، ومع مرور السنين، زاد تعلقه بها. ولما طفح عشقه لها وضع في ذلك كتابا؛ حمَّله ذكرياتِه معها، وجعلها فضاءً لأقاصيصه وحكاياته، ومسرحاً لنظراته وتأملاته، ومجالا للبوح بخطراته الفكرية وخفاياه الذاتية، وأصبحت هي حركة الوجود لديه، وكأنها تنفعل بما  عليه حال مراكش في أحوالها الطبيعيّة، وجمالياتها الخاصة.
وتولى السي محمد ترجمة هذا الكتاب إلى العربية والتقديم له، غير أن الأجل وافاه قبل أن تعرف الترجمة طريقها إلى النشر.
فنهضت زوجه السيِّدة الفاضلة أم إلياس فاتحة السلايعي بنشر هذه الترجمة؛ واضعة كلمة رقيقة في التصدير لها. ومما جاء فيه أن الفقيد عرَّب  الكتاب ومنحه « وجوداً جديداً في لغة جديدة؛ أعطاها الكثير من صبره وحلمه وشغفه باللغتيْن الصديقتيْن الألمانيّة والعربيّة».
وماذا عمّا قاله السِّي محمَّد في التقديم لترجمته للكتاب؟
 بالرغم من حيرته ومساءلته لنفسة عن ضرورة وضع تقديم لهذه الترجمة؛ فقد غالبها في أن يأتي التَّقديم  ليضع التَّرجمة في سياقها العام وجوداً وإنجازاً.
يحدثنا السِّي محمّد كيف حصل التعارف بينه وبين خالد سهولي ذي الأصل الطنجيّ. جاء ذلك عن طريق أحد طلبة السِّي محمّد في معرض الكتاب في مدينة لايبسيج الألمانيّة؛ وحصل ذلك إثر سماع بعض أقاصيص وحكايات كان يلقيها الطبيب خالد سهولي في قاعة بمعرض الكتاب.
ما أغرب وأعجب، حسب ما نعرفه في بلادنا، أن نجد بروفسوراً ورئيساً لقسم أمراض النِّساء تخصُّص أمراض سَرَطان الرَّحِم، في مستشفى (شاريتي) الجامعيّ ببرلين الألمانية؛ يلقي على مسامح بعض الحاضرين في قاعة من قاعات معرض الكتاب مجموعة من أقاصيص وحكايات تحمل في طياتها ما يصطرع في نفوس نساء على حافة الموت من آلام دفينة، ويأس قاتل تداعبه آمال واهية...
 يبدو أن سماع تلك الأقاصيص والحكايات المنسابة ببراعة صاحبها في الحكي؛ شدَّ انتباه السِّي محمّد فوجد نفسه في غمرة شريط الذكريات لارتباط تلك الأقاصيص والحكايات بأجواء مدينة مراكش.
 وأثار صوت الحاكي في عقل السِّي محمد ووجدانه، وهو في غمرة الإعجاب؛ شعور يتقاسمه الإحساس بقضية الانتماء إلى وطن ما، والانصهار في كونية تمتزج فيها الأعراق والأجناس، وتنتفي فيها الحدود الجغرافيّة بين بني البشر.
وجد السِّي محمّد نفسه يقول: « لا أدري كيف استطاع سهولي هنا أن يستدعي إلى ذهني صورة بقيت إلى اليوم تطاردني في علاقة مع هذا البلد – ألمانيا... أحببتُ هذا الرجل ووجدتُ فيه حقيقة رجلَ الوطن كما أصبحتُ أتصوَّرُه وأَبغيه؛ فقرَّرتُ أن أمدَّ له اليد، وأن أصافيَه» [ص6]
وانتهى اللقاء، وانتهت تلك الحكايات والأقاصيص إلى جانب مثيلات لها مترجَمَةً في طيَّات هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ.
ولعل تلك المشاعر التي خامرت السِّي محمَّد في غربته الفكريّة الوجوديّة، قد أعرب عن شيء منها في ذلك اللقاء، ولا إخاله إلا متحدِّثاً في نهاية ذلك الحفل السماعيّ؛ مُعرباً عن مشاعره تجاه سماعه لحكايات أرواح موزَّعة بين اليأس والأمل؛  تترقّب لحظة مواجهة القدر المحتوم. وكيف لا يحدث التجاذب بين عقليْن كبيريْن يجمعهما حب الكلمة؛ حينما تكون ذوباً للمشاعر الإنسانية، وصدىً لآلامها وآمالها!؟
وما أن عرف خالد سهولي السِّي محمّد حتى غمرَه فيضُ مشاعره النبيلة، ورهافةُ ذوقه الرفيع، ومعارفُه الجمّة وما فيها من تنوُّع. وما تتميز به ثقافة السِّي محمّد من ثراء وخصوبة، وعمق رؤية لحقيقة ما يضطرم فيه الكائن في مساره في وجوده البشري...
من أجل ما لامسه خالد سهولي في شخص السِّي محمّد؛ بادر إلى عرض ترجمة الكتاب عليه؛ لما توسمه فيه من استعداد فكريّ وثقافيّ لهذه المهمة من جهة، ولمراكشيته ثانيا، لَمَّا بلغه عنه « أنه يحبُّ مدينته ويعشق نمطها في العيش، ونمط أهلها في السُّلوك والنَّظرة إلى الحياة، وأنه تشرَّب عمقها؛ متربِّعاً  في وَسَطٍ بسيط ومطبوع بخصوصيات المدينة» [ص6].
وبدأت لحظة ترقب ظهور ترجمة الكتاب؛ ترقّبٍ لا يخلو من لهفة الانتظار؛ وكأني بالطبيب خالد سهولي أصبح لا يهدأ له بال حتى يرى كتابه مترجماً إلى لغة أجداده من بني يعرب، وأن يري ترجمته موشحة بأناقة عبارات السِّي محمد، ومعطَّرة بأنفاسه، ومضمّخة بعبير أدائه الفني.
 يبدو أن خالد في ترقبه لظهور ترجمة كتابه إلى العربية؛ أصبح ينتظر اللحظة التي يرنُّ فيها هاتفُه لإخباره أن الترجمة قد عرفت نقطة الختم!
يقول السِّي محمَّد: « كان خالد سهولي يطاردني بعفوية الرجل الألمانيّ العمليّ المعاند؛ تحركه رغبة مشتعلة باستمرار في أن يرى كتابه مقروءاً بلغة أمِّه وأبيه ومواطنيه على الضفة الأخرى في أرض الأجداد! ».
ومع انشغالات السِّي محمَّد بأنشطته العلميَّة؛ التي غمرتها تضحياته الدائمة من أجل طلبته، والعمل على الرُّقيّ بمشاريعهم العلميّة؛ فقد عمل خلال سنة على إنجاز هذه الترجمة التي أصبحت ماثلة اليوم بين يدي القارئ.
لقد اكتشف السِّي محمَّد في كتاب خالد شخصية الأديب الفنَّان المبدع الثاوي في « شخص طبيب ورئيس قسم جراحة مريضات السرطان المبيضي في أشهر مستشفيات أوربا ببرلين».
وتساءل السِّي محمّد كيف كان خالد سهولي يقتنص تلك اللحظات من أوقات فراغه؛ فيمنحها لذلك الفنَّان المبدع الثاوي في أعماقه! ووجد أنه استطاع ذلك باقتدار « عندما جعل من مهنته كحامل مشرط رديفاً موازياً  لهويته كحامل يراعٍ ينقل من خلاله  أفكاره ومواقفه وآلامه الباقية في الحياة » [ص7].
والآن وقد افتقدنا السِّي محمَّد، وهو في لحظة تكريس ما بقي من حياته لإخراجه بحوثه وترجماته لبعض جهود الباحثين والمحققين الألمان؛ تظهر ترجمته لهذا الكتاب، ومع قراءتها هجمتْ عليَّ ذكريات مع السِّي محمَّد، وتداعت إلى سمعي  عباراته وكأنها صدى لمداخلاته ومناقشاته وتعليقاته، فما خلت منها نفسي؛ وإن غيَّبته الأقدار عنها.
 وأنا أقرأ هذه الترجمة أجد في تقديمه لها، وفي تضاعيف ترجمته لها ذلك الصوت الغائب الحاضر في ذكرياتي مع السِّي محمَّد؛ لغتُه وأداؤه البياني يستعصيان علىَّ نسيانُهما، فقد عرفته منذ ما يقرب من نصف قرن.
عندما تقرأ هذه الترجمة تتراءى لك أشياء في لغة صاحبها، يتراءى لك حرصه على نقل مشاعر خالد سهولي؛ وكأني به يعتصر فقه اللغة الألمانية لتمدَّه بما يستجيب لطاقات اللسان العربي، في تأديته لخفايا أحاسيس نساء داهمهن سرطان أوقفهن على حافات الموت، ولم يبق لبعضهن غير أمل في رحلة إلى مدينة مراكش؛ يتمُّ فيها إلقاء نظرات تمسح فضاءاتها قبل وداع هذه الدنيا.
 وأنا أقرأ هذه الترجمة تراءى لي شخص السِّي محمّد وهو يترجم بطريقة آنية ما أريد قوله بطريقتي الخاصة في ذلك اللقاء العلميّ بألمانيا، فكان يدعوني أن أعبر عن آرائي كما أشاء، وكيف أشاء.
جهلي بالألمانية يحول أن تكون لدي رؤية دقيقة لهذه الترجمة من الناحية العلمية، كما أني لا أستطيع أقدِّم في شأنها حكماً على قيمتها، ومدى دقتها لما أراده  صاحبها.  
ولكن وأنت تقرأ هذه الترجمة؛ تجدها حاملة في تنوّع أدائها البياني - وإن تعدّدت فضاءات أقاصيصها وحكاياتها، وما لصاحبها من قدرة على التدقيق أحياناً في صف تلك الفضاءات، وما يتخلل ذلك من هواجس ويُرافقها من قراءات وتأمُّلات فلسفيّة - أسلوبَ واحدٍ متمكِّن من معرفته باللغتيْن؛ بحيث تنساب معاني تلك الأقاصيص والحكايات بصورة عفوية، بكل ما تحمله من خلفيات فنيّة ويتخلَّلها من إفادات معرفيّة؛ وكأنَّ واضعها هو السِّي محمّد.
فخالد سهولي الطبيب يودِعُ أقاصيصَه وحكاياتِه ذكرياتِه وأصداءً من مطالعاته وأسفاره، في سياق ما تعرَّض له من موافق، وعايشه مع مريضاته من حالات، وما كان ينتابهن من هواجس وأحلام وآمال، وما يستدعيه كل ذلك من ذكريات ومشاهد ومواقف في لحظات متاخمة للموت.
وما يتراءى لي، وأنا أقرأ هذه الترجمة، إلا صورة السِّي محمَّد وهو يسافر عبر أحداث تلك الأقاصيص والحكايات، ويواكب ما يتخللها من مواقف تتراقص فيها أطياف الموت: تطفح بمشاعر الآلام والحسرة والندم، وتتعلق فيها النفوس بخيوط واهية من آمال.
 وترى في هذه الترجمة لغة المشاعر وخطرات النَّفس أمام أطياف الموت تتصارع معانيها باللغة الألمانية أولا وبالعربية ثانية، والكونية ثالثة.
 وأُحسُّ أن السِّي محمَّد كان يسعى بكل قواه؛ أن يجعل ترجمته حاملة لعمق تلك المشاعر، وما تزخر به من آلام وآمال في لحظات حرجة من حالات سيدات يترقبن بحسرة ويأس قرب مفارقتهن للحياة.
موضوع الكتاب هو موضوع الموت؛ إذ أقاصيصه وحكاياته حول نساء يعانين من سرطان الرحم، يعشن اللحظات الأخيرة من أعمارهن؛ أقاصيص وحكايات يشارك فيها خالد بحكم مهنته لحظات ومواقف، ويعيش أحيانا فيها لحظات وداع الحياة.
 لله ما أصدق النفس في لحظات المواجهة هذه، حين تنكشف الحقيقة، وتكون المواجهة مع الآتي قبل الأوان، وتصبح أحلام الوجود ورقة في مهب رياح عاصفة!
إن تعلُّق خالد سهولي بالحَكْي، والتلذذ بسماع الأقاصيص والحكايات، وقراءته لها على أسماع الآخرين، ومهارته في كتابتها وتسجيل وقائعها؛ تجعله في كتابه هذا يحكي إلينا قصة أسرته؛ بانتقال والده عبد الله وأمِّه زهرة من طنجة إلى ألمانيا سنة 1960، وما كان لهما من معاناة من تنشئة أبنائهما في الغربية؛ فالوالد يصبح ملاكماً في الأسواق السنويّة، والوالدة تعمل في إحدى المصحات. ومما أثَّر على استقرار الأسرة اختيار الأب أن يعود إلى مسقط رأسه بطنجة، وما سبّب ذلك من ألم للوالدة إذ لم تستطع أن تغفر له ذلك الاختيار.
 ويبدو أن هذا الوضع الأسري جعل خالداً دائم الأشواق إلى الرحلات والأسفار، دون أن يفارقه الحنين إلى مدينة مراكش لما تزخر من أقاصيص وحكايات، كثيراً ما تأتي على ألسنة نساء يجدن بعض الراحة في رؤية هذه المدينة قبل مواجهة الموت.
ولا عجب أن نجد في كتاب خالد هذا أصداء لزياراته لبعض مدن العالم، ولمدينة مراكش بشكل خاص، فتجد في الكتاب أدب الرحلة، ووصف ما تزخر به مراكش من مظاهر اجتماعيّة ومآثر عمرانيّة وما يتخلل أجواءها من أحوال طبيعيّة، ويأتي كل ذلك مواكباً لإفادات تاريخيّة ومعلومات عمرانيّة وتأملات فلسفيّة، إلى جانب أصداء قراءاته المتنوعة، وما تزخر به محاضراته من إفادات وتوجيهات، وما تحقِّق له من سعادة ذاتية في مجال تخصُّصه.
ويستوقفنا هنا عنوان إحدى محاضراته: (تأملات طبيب نساء)؛ ليخبرنا عن طبيعة تلك المحاضرة وما تحتويه من حكايات كانت وليدة خبرته في الحياة، وما أمدَّتْه به تجربته في مجال تخصصه؛ التي أغناها بعلاقاته وتنوُّع أسفاره، وتعدُّد قراءاته.
وطبيعة خالد سهولي بهذه الصورة جعلت من أقاصيصه وحكاياته منفتحة على فضاءات متنوِّعة ومتعدِّدة، وداعية في الآن نفسه إلى التأمُّل في أسرار النفس الإنسانية في هذه الحياة.
 إن طبيعة ما كتبه خالد؛ مما يصعب تجنيسه في خانة أدبيّة معيّنة، وما رصده من أحداث، وعبّر عنه من تأمُّلات، وأشار إليه من قراءات، وشاهده من أحوال نساء على حافة الموت... كلها تجعل مهمَّة ترجمتها من عويصات الأمور لتعدُّد تلك المجالات وتنوُّعها، واتِّساع معاجمها الخاصّة وما تقتضيه حقولها الدلالية. ولعل هذا مما يكشف لنا عما يختزنه فكر السِّي محمَّد من طاقات في التعبير عن كثير من جوانب الحياة، وما تتميز به ثقافته من خصوبة في معجمه اللغوي في اللغتين، وفي دقته في أداء أساليبهما أثناء الترجمة.
وأقول في الأخير: إن أقاصيص وحكايات خالد هي رحلة عمر الإنسان إلى تخوم الموت؛ لاستكشاف خبايا النفس حين تنهار أحلامها، وتواجه ما لابدَّ من لقائه من بدٍّ، وتواجه المصير المحتوم.
والبؤرة العميقة فيما كتبه خالد من أقاصيص وحكايات تكمن في أثر أمه في وجدانه.
وأُحِسُّ أن الأقدار ساقت هذا العمل إلى السِّي محمَّد ليتولى ترجمته عن الألمانية، وأن يقع اختيار صاحبه عليه، فتستجيب نفس السِّي محمَّد بتلقائية لإنجاز هذه الترجمة؛ وكأن لهذا النفس موعداً أيضاً مع الموت.
 رحم الله نفساً طاهرة افتقدتُها، ويشهد الله أني في كثير من المواقف أذكرها، وكأني أستمع إلى رأي السِّي محمّد فيما أكون بصدده، في كثير من الحالات.
ملاحظة:
 كلمة ألقيت بكلية اللغة العربية بمناسبة صدور ترجمة هذا الكتاب من اللغة الألمانية إلى العربية.




[1]  كان من الأولى أن يُنادى بمولاي محمّد لعراقته في الشرف؛ غير أن معارفة وأصدقاءه من جيلي  يدعونه السي محمّد.


عندما انحرفت مسألة التأثر والتأثير عن مسارها الحضاريّ

عباس ارحيلة

أهم حدث في حياة العرب في العصر الحديث هو ذلك الصدام بالحضارة الغربية، وما كان لها من تأثير عميق في حياتهم، صدام كشف عن عمق الهوة بين الوجود الحضاري للعرب وما آلت إليه حضارة الغرب الحديث. ومع قوة ذلك الصدام تأكدت أهمية الحوار باعتباره شرطا من شروط التعايش بين الشعوب، ويكون الحوار بين الثقافات هو المنطلق.
فلا ينكر أحد أنَّ التُّراث الإنسانيّ هو حصيلة إنجازات بشريّة في التاريخ، كما لا ينكر أحد ظاهرة التشابك بين الحضارات، قال الله تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
وليس هناك حواجز بين أفكار البشر، فالأفكار تنتقل بين سكان المعمور، تتشكَّل، وتتلاقح؛ تُنْخَل وتُصَفَّى حسب المتفاعلين معها. فيبقى منها ما ينفعُ الناس، وما يمكث في الأرض.
فلا وجود لذات لا تتأثَّرُ ولا تُؤَثِّرُ. وليست الأمَّة الإسلاميّة بِدْعاً بين الأمم؛ إذْ لم تعِشْ وحدها على الأرض؛ بل إنها دخلت في أضخم حوار مع ما تبقَّى مع مِلَلِ الشعوب ونِحَلِهَا وثقافاتِها. وكم أذابت ثقافة المسلمين من نِحَلٍ قديمة، وفِرَقٍ كلاميّةٍ متصاعدةٍ في المراحل الأولى من تاريخ الإسلام!!
كانت بحوث المستشرقين واقعة تحت تأثير المركزية الأوربيّة، وأغلبها يرى أنَّ دَوْرَ حضارة المسلمين لم يتعدَّ المحافظة على التراث اليونانيّ، وأنه كان حَلْقَة وصل بين اليونان وأوربا.
 وغايته التشكيك في مدى أصالة الحضارة الإسلاميّة، وإقصاء دورها الإنساني العالمي حتى تتقبَّل النفوس الحضارةَ الغربيّةَ الحديثة وتفقد كل مناعة للدفاع عن خصوصيتها وهُوِيَّتِها وأصالتها.
فالهدف البعيد هو تهيئ نفوس المسلمين لتقبُّل الحضارة الغربيّة والتماهي معها. وإنشاءُ تخاذل وإيجادُ شعور بالنَّقص في نفوسهم بهدف جعلهم يذوبون في الحداثة الغربيّة، ويتلاشَوْن في كياناتها؛ فيلحقهم المسخ لهُوِيَّتهم ووجودهم. ألا يكون حالُنا اليوم هو ما تحقَّق من تلك المقاصد والغايات؟
عملية التأثر والتأثير ترتبط بشروط التطوُّر الحضاريّ، بالوقوف على ما حقَّقه السابق من منجزات، وما تلقَّاه اللاحق فأفاد منه، وبذلك تتحدَّد المعالم الكبرى في تاريخ الأفكار، وتتَّضح مظاهر التقليد والاقتباس أو التأثر، أو المثاقفة... ويبرز عنصرا العبقرية والأصالة في تاريخ الأمم والشعوب.
التفاعلُ حقيقةٌ مقرَّرةٌ في قانون الحضارات، لكن كيفيَّات التَّفاعل في حاجة إلى الضبط والتَّدقيق والموضوعيّة والنزاهة الفكريّة. وعموماً، يمكن القول إنّ مقولة التأثير زادت حدَّتها بوقوع العالم الإسلاميّ في العصور الحديثة، تحت هيمنة الغرب ذي الجذور اليونانيّة، وتطلُّع ذلك العالم أن تكون له مكانة تحت الشمس، أن يقاوم الهيمنة، ويتحرَّر من الاستغلال، وأن يقول كلمتَه لشعوب الأرض.
لا يمكننا اليوم أن نتحدث عن تأثُّرِنا بالحضارة الغربيّة؛ إذ أصبحت توجه أفكارنا وميولنا، وتسكنُ حياتنا وأذواقنا، وتتسـرَّبُ من الهواء الذي نستنشقه، بل إن الغرب فرض في هذا المسار أفكارَه وتقنياتِه ومناهجَه وتصوراتِه في مجالات المعرفة.
إنَّ المركزيّة الأوربيّة عندما وجدت عناء في إخضاع العالم الإسلاميّ لهيمنتها، ووجدتْ أنَّ الموضوعيَّة لم تنسِها روحَها الصليبيّة؛ حاولتْ أن تشكِّك المسلمين في حضارتهم، وتوهِمَهم أنّ ثقافتهم في الماضي لم تكن إلى نسخة من ثقافة اليونان، حتى تتقبَّل النفوس الحضارةَ الغربيّةَ الحديثة وتفقد كل مناعة للدفاع عن خصوصيتها وهُوِيَّتِها وأصالتها.