شهادة الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن


أما قبل
شهادة الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن


بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على الصادق الأمين وعلى آله وصحبه الأكرمين
 سيدي العميد العزيز الدكتور عبد الجليل هنّوش
أخي الأستاذ الكبير الدكتور عباس أرحيلة
سادتي الأساتذة الأفاضل
سيداتي الفاضلات
أبنائي الطلبة البررة
 السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد،
أنىَّ لي أن أَشهَد بكلمة جامعة في حق عالِم بَحْرٍ شغلتني وإياه الحيرة البالغة في أسرار الشهادة نفسها! إن العقول لتحار في أمرها، إذ تراها حكما جاريا على الإنسان قبل خلقه وبعدَه؛ فقد شهد بنو آدم، عامَّة، في عالم الغيب بوحدانية الله، وشهد بها أولو العلم، خاصة، مغيبا ومشهدا، ظاهرا وباطنا؛ وأُدخل إلى الإسلام مَن أُدخل بهذه الشهادة الكبرى ولو أتى بها على ظاهرها؛ وأُعطي المسلم، تفضيلا من الله، مقام الشاهد، في الوجود والخلود معا، على غيره من الناس وعلى شهاداتهم بهذه الوحدانية القدُسية؛ بل لم تزل الشهادة على تبليغ هذه الشهادة الكبرى تُتوارث بين الأنبياء، عليهم أزكي السلام، وتَتواتر بين الرسل، عليهم أفضل الصلوات، إلى أن حَمل لواءها الأعظم سيد النبيين والمرسلين، صلى الله عليه وسلّم، شاهدا مطلقا على الأمم والأنبياء والرّسل طرّا.
وإن العقول لتزداد تحيّراً وتتضاءل قَدْراً أن ترى الشهادة حكماً واجباً في حق الوجود بأسره؛ فكل المخلوقات الأخرى، علويِّها وسفليّها، ناطقِها وجامدها، سُخّرت لأن تشهد أنه لا إله إلا هو، وتشهد آثار إيجاده وآلاء إمداده في أنفسها، قائمة، طوعاً أو كرهاً، بشرط العبودية لذاته الخفية عنها؛ ويبلغ التحيّر أقصاه ويكابد العقل اضمحلاله وهو يشهد أن الحق سبحانه يشهد بنفسه على نفسه لنفسه، متجليا، على الأكوان كلها، مُلكها وملكوتها، بأنوار اسمه "الشهيد"، بحيث لا شاهد ولا مشهود، على الحقيقة، إلا هو وحده، تقدَّست ذاته وتنزهت صفاته.
هكذا، تَرى أنه لا شهادة إلا مع وجود روح مخصوصة، وهذه الروح هي الإيمان؛ فمَن يشهد، فإنما يشهد بإيمان أو على إيمان، وإلا فلا شاهد ولا مشهود؛ ولا غرابة، عندئذ، أن تكون بداية عصرنا الحديث إيذانا بنهاية الشهادة؛ فمن ذا الذي لا يعلم بأن أربابه ـ سادةً وقادة، علماء ومفكرين ـ أعلنوا، في غرور وكبرياء لا سابق لهما في التاريخ البشري، نهاية الدين، حتى ادعى بعض أسلافهم بأن الدين نفسه يوجب الخروج من الدين! لكن ما لبث هؤلاء أن بُهتوا بانقلاب إعلانهم نفسه عليهم، فظهرت لهم نهاية ما أرادوه من دنياهم مستمرا لا ينتهي، وباقيا لا يفنى؛ فأخذوا يَدلفون، على غير هدى، في عوالم الفناء، منقلبين من نهاية إلى أخرى، بدءا من "نهاية الحداثة" وانتهاءً بـ"نهاية حقوق الإنسان"، وعروجا على "نهاية الإنسان" و"نهاية التاريخ" و"نهاية السياسة" و"نهاية الفكريات" و"نهاية الطوباويات"، حتى صار ما أسموه بـ"النزعة النهائية" مذهبا في الفكر لهم، بل طريقا في الحياة.
لذا، تعيّن ـ في هذا العصر المغرور بمبدعاتِه الدنيا والمتكبر على مبدِعه الأسمى ـ تعيُّن الواجب الذي لا بد منه أن أجتهد مع غيري في ردّ هذا الباطل، وأُسهم في إحياء معنى "الشهادة الكبرى" التي هي، بحق، السر في وجود الخلائق، والحكمةُ في نزول الشرائع، فأدلي بشهادتي في حق إيمان هذا العلامة المحتفى به، صديقي الدكتور عباس أرحيلة؛ فهذا العالم الفذ ليس إنسانا فحسب، لأن الإنسان قد يغرُّه بربه الكريم عظيمُ إكرامه له كما غر أصحاب النهايات، أما هذا العالم، فلم يغرَّه بربه شيء، لا معرفةٌ واسعة ولا سُمعة ذائعة، ولا غرَّه تلامذة كُثار ولا أصحاب كبار، بل هو رجل هدَّك من رجل، إذ لا يلهيه غزير علمه ولا وفير صحبه عن ذكر الله ربه في كل أين وبكل كَين، ولو أنه قد يكتم إيمانه متى أراد، في نكران لذاته، أن يُظهر إيمان غيره، بل إنه ليأتي سعيا إلى غيره يُذكّره بربه، تارة مرغبا، فيتلطف في التصريح، وتارة مرهّبا، فيُجمل في التلميح؛ وكم حملَت إليّ من بالغ العبر ورائع الحكم وسامي المعاني تلك الأوقات الزاهية التي كان يجالس أو يهاتف فيها بعضنا بعضا، حتى كأننا في عالم غير عالم الناس، نشاهدهم ولا يشاهدوننا.
وكم من مرة، وأنا أصغي إليه وكلماته تتدفَّق متدافعة على شفتيه، أشعر وكأن صدره يوشك أن يتفجر إيمانا ويقطُرَ شهادة زُلالا؛ فلا أكاد أودّعه مضطرّا، حتى يتوهج إيماني وتقوى عزيمتي على المضي في طريقي، لا أبالي بإنكار المخالفين ولا بأذى الناقدين؛ وذات يوم أطلعتُه على موقف غير مرتقَب اتخذتُه في أمر ذي بال، فأجابني جوابا لا يزال يتردد صداه في سمعى، ويتلجلج معناه في صدري إلى هذه اللحظة المباركة، إذ قال: "أخي طه لو لم يكن في ميزان أعمالك إلا هذا العمل، فكفى به سببا لغفران ذنوبك وجلبا لرضوان ربك، وما يدريك بأن الحق سبحانه قد أرادك لهذا الأمر دون غيرك، حتى يُسبغ رضاه عليك"؛ وحينها علمت أن الرجل ينهل من معين إيماني لا ينهل منه كثيرونَ سواه، وأنه داخل على ربه من باب حسن الظن به والرجاء في ألطافه؛ بل علمتُ أنه من الرجال الصادقين، ذلك أن قلبه لم يمتلئ إيمانا فحسب، بل امتلأ حبا للإيمان نفسه ولبِستْه روحه لباسا، فازدوج إيمانه، وصار إيمانا على إيمان؛ وعلامة من ازدوجت روحه، مستوليا حب الإيمان على قلبه علامتان اثنتان: إحداهما أن ينشرح صدره لذكر الله ربِّه والثانية أن يَخلع عليه الحياءُ حليتَه.
أما الانشراح الذي يزين صدر هذا العالم المُحب، فيتجلى في شدة ابتهاجه بكل عمل يتشوَّف إلى موالاة الله والذود عن أمره؛ وكم أظهرَ لي من واسعَ انبساطه وهو يُحصي، في كتبي، المواضع والأقوال التي كشفتُ فيها عن مظاهر نسيان الشهادة في ما بُني من صروح فكرية ووُضع من دعاوى عريضة، ظن مبتدعوها ومقلدوهم من بني جلدتنا أنها لا تتداعى ولا تتهاوى أبدا؛ ولم يَكْفه أن يَخُصني وحدي بهذا الانبساط الروحي من طريقتي في التصدي لمن نسوا الشهادة أو تناسوها، ظلما لأنفسهم، بل أبى إلا أن يُشرِك القراء في فرحه بربّه وطرَبه لنصرته، فجرّد يراعه الدفاق كي يُريهم كيف أن عطاء الآخرين، وقد اختاروا نسيان الشهادة دينا لهم، لا يُعجز الذين خصَّهم الحق سبحانه بهذه الشهادة، وكي يُريهم كيف أن المقلدين، وقد اختاروا أن يحتذوا في النسيان حذوهم، لا يثبّط عزيمة هؤلاء المخصوصين في استئناف شهادتهم على الناس جميعا.
وأما الحياء الذي يُحيي روح هذا العالم المحب، فيتجلى في التعفف والتلطف اللذان يعامِل بهما الكلمات والنظرات والحركات، فيمرُّ على الكلمة كأنها لم تُقَل، وعلى النظرة كأنها لم تُلْق، وعلى الحركة كأنها لم تُجْر، ثم يودّعك مستعجلا كأنما لم يكن معك كُلُّه أو كأن شيئا لم يكن بينك وبينه؛ وقد يعود إليك، مرَّة أخرى، مكلّما أو متأملا أو متحققا بعد أن ودَّعك وحيّاك، حتى تظن أنه الفراق؛ وليس ذاك إلا أنه يريد أن يُخفي عنك حياءه؛ فهذا الرجل، في تردّده عليك، إنما يستحيى من حيائه؛ فطوبي لمن كساه الحياء بل كساه الحياء من الحياء، فإنه لا يعرَى أبدا، وكيف يعرى وقد تحلّى بأصل الأخلاق؛ أليس لكل دين خلق، وخُلُق الإسلام الحياء كما في صحيح الحديث! بل كيف لا تتم أخلاق هذا العالم الحيي؛ ألم يختص الإسلام الذي هو دين الحياء بإتمام مكارم الأخلاق كما جاء في حديث آخر صحيح! ومَن أحيا قلبَه الحياءُ وأمدَّه بأفضل الأخلاق كيف لا يُنشر له بساط المحبة، فتُقبِل عليه النفوس، مقتديةً بخصاله، وتُحبه القلوب، متطلعة إلى وصاله.
ولا يخفى على ذي بصيرة أن الانشراح الذي يورِّث التعلق بالله والحياءَ الذي يورّث التحقق بالأخلاق يُنزلان صاحبهما منزلة الشاهد على حقيقتين، أولاهما أن العلم مع الأخلاق حكمة وتزكية؛ والأخرى أن العلم بلا أخلاق إنما هو جهل وتدسية، بل إنهما يُنزلانه منزلة الشاهد على أن النظر من غير عمل لا بد أن يكون ضررُه أكثرَ من نفعه؛ وما أدراك أن القول بأن النظر يتقدم على العمل بإطلاق إنما هو دعوى منقولة إلينا من فلسفة غيرنا! فكيف يكون العمل تابعا للنظر تبعية مطلقة، وخلوصُ الطاعة لأوامر الله هو العمل الذي لا ينتظر ولا يتنزَّل، فكيف يسبقه أو يرتقي عليه النظر، فضلا عن أن هذه الطاعة تَمدُّك بعلم ما لا تعلم! ثم إن هذه الأوامر الإلهية لو فرضنا أنها بُنيت على النظر لوجب أن لا يجوز للمسلمين أن يقبلوا منها شيئا حتى ينظروا فيه ويعقلوه، وهذا غاية في نسيان مقتضى الشهادة الأصلية التي بادرهم بها الحق سبحانه.
ولا عجب أن يُولَع هذا العالم العامل بتتبُّع سير العلماء ناظرا كيف هم من شرط العمل؛ فلما اطلع على مشروعي في فقه الفلسفة، ووجد أن السيرة الفلسفية جزء منه، ما فتئ يَحثني على التفرغ لكتابته ـ لاسيما وأنه أحاط بمنطق الفلاسفة في دراساته البلاغية ـ حتى يتسنى لقرائي المقارنة بينهم وبين غيرهم من الفقهاء والعارفين من جهة العمل بعلمهم، لأن أمر هؤلاء، حقا، عجب؛ فهم، من جانب، قد لُقِّبوا بالحكماء، علما بأن الحكمة هي المعرفة المصحوبة بالعمل، حتى كأنهم أعمل العلماء؛ ولكن، من جانب آخر، ليس في العلماء من تعلَّق بالنظر، جاعلا منه نهاية السعادة مثل تعلُّقهم؛ ثم نجد منهم من أتى بتصرفات شنيعة وشاذة لا تليق بمقام العلماء، فضلا عن  الحكماء، فيتعين الكشف عن سر هذا السلوك الغريب وبيان كيف أن ذكر الشهادة الأولى هي أصل هداية الفلاسفة ونسيانها هو أصل ضلالهم؛ هذا وإن القليل منهم مَن اشتغل بالتأمل في الموت كما تأمَّل في الحياة؛ وأقل القليل منهم مَن تهيأ للقاء ما بعد الموت؛ والمنطق السليم يقضي بأن كل مَن شغله العمل، وجب أن يشغله الموت؛ فإذا كان العلم، عند الفيلسوف، بدايةَ العمل، فإن الموت نهايتُه؛ فكيف يتفرغ إذن للبداية وينسى النهاية، حتى يهلك مع الهالكين!
ولو أني لست أدري هل يُكتَب لي أن أحرّر جزء السيرة الفلسفية من مشروعي، فإني مدرك ما في نفس هذا العالم الجليل من حرص على أن تكون الفلسفة الإسلامية فلسفة عمل، لا فلسفة نظر، مختطة لنفسها طريقا خاصا يفلسف الشهادة الأصلية، محددا موجباتها ولوازمها، ويجعل المؤمن يحيا، لا في ضيق هذا العالم الأرضى الذي أخلد إليه غيره، وإنما في سعة عوالم كثيرة يوجد في بعضها بجسمه ويتواجد في بعضها بروحه؛ وكأني بصديقي عباس أرحيلة، لما ركب بحر الإيمان وغاص في أعماقه، راح يستكشف هذه العوالم الواسعة التي تشهد بخالقها كما يشهد، مستشعرا روح العبادة في كل ما يكتشفه من أمرها وخلقها؛ فلتهنأ، أيها العالم الشاهد، بهذه الروح التي تصلك بربك الرحيم وتؤنسك بقربه الكريم! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق