الخميس، 17 سبتمبر 2015

ظاهرة الغموض في شعر أبي تمّام




عباس أرحيلة
تمهيد:
أبو تمام شاعر عباسيّ(132هـ) أثار حركة نقديَّة واسعة حول طريقته في تجديد الشعر العربيّ: في صياغة تراكيبه ومجازاته، ودقة معانيه، وبناء صُوَره الشعريّة التي أثار بها دهشة النقاد؛ نظراً  لجدَّتها وغرابتها ونتيجة لما اعتاد عليه الناس في تاريخ الشعر العربّي. حتى قال ابن الأعرابي (231هـ) عن شعره: "إن ْكان هذا شعراً فكلام العرب باطل". ولما سئل أبو تمام: " لِمَ تقول ما لا يُفهَمْ؟ أجاب: لِمَ لا تفهمُ ما يُقال؟"

فبأي شيء أثار شعر أبي تمام دهشة معاصريه؟ وبأي شيء خرج عن المألوف؟ وما سرُّ الغرابة في شعره ؟ هل تعود تلك الغرابة إلى الغموض في شعره؟
أولا: من مميزات أبي تمام
 (1) ذكاء حادّ  وبديهة حاضرة.
(2) ذاكرة قوية (يحفظ أربعة عشر أرجوزة غير القصائد، وسبعة عشر ديوان شعر للنِّساء ناهيك عن الرجال).
(3) ثقافة واسعة وعلم غزير ( تهيأت له ثقافة عريضة من خلال اطلاعه الواسع على ثقافة عصره، وهو عصر تعدّدت فيه المعارف، وانتشرت فيه حركة تدوين التراث العربيّ وحركة الترجمة).
(4) شاعر يتكئ على نفسه،  ويعتمد موهبته.
(5) قدرة فائقة على استيعاب حصيلة مخزون الشعر العربيّ، مع براعة في استثمار ذكائه وثقافته في استنباط المعاني.
 (6) مهارة فائقة في صياغة معانيه في إطار إمكانيات ما تُتيحه جماليات الأداء الفني في لغة الشعر (البديع).
ثانيا: من آثار تلك المميزات في شعره
 (1) أن شعره خرج عن عمود الشعر أي عما اعتاده أهل العربيّة، فجاء"لا يُشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم".– كما قال أبو القاسم الآمدي (- 371هـ) في كتابه: الموازنة بين الطائيين.
(2) وكان الذين فضلوا أبا تمام على سواه هم "أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصنعة ومَن يميل إلى التدقيق وفلسفيّ الكلام"؛  ذلك أنَّ أبا تمام تأثر في شعره بالفلسفة وعلم الكلام، فنسبوه "إلى غموض المعاني ودقتِها، وكثرةِ ما يُورد مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج".
(3) وأتاحت له ثقافته أن يغوص على المعاني الدقيقة، فجاء شعره حافلا  بالمعاني العميقة و"الغامضة التي تُسْتَخْرجُ بالغوص والفكرة" – كما يقول الآمدي -.
(4)  وقد استخرج أبو تمام معانيَه بالصنعة البديعيَّة؛ فجاءت أشعاره حافلة بالصور الشعريّة الجِرِّيئة؛ وغاص في أشكال البديع إلى درجة أحدثت في شعره  التعقيد اللفظيّ الذي ترتّب عليه تعقيدٌ معنويّ بالطرُق البديعيّة التي تجاوز بها المواضعات في لغة الشعر؛ فاستشعر الناس الغموض في شعره.
ثالثا: أسباب الغموض في شعر أبي تمام
 (1) شدة الاتكال على نفسه في استنباط المعاني.
 (2) الغوص على المعاني مع الاحتفال بالمعاني المركَّبة الدقيقة.
(3) مبالغتُه في استعمال البديع إلى درجة جعلته يخرج به إلى المحال، فقد أفرط في استعمال أدوات الزينة وخلق منها إشعاعات غير متناهية لمعانيه.
(4) استخدامُه لعنصر التخييل والتّصوير في شعره استخداما مكثفا، مع ميل إلى تجسيم المجردات كقوله:
فلوَيْتَ بالمعروف أعناقَ المُنَى    وحَطَمْتَ بالإنجازِ ظَهرَ الموعدِ
فجعل للمُنَى عُنُقاً، وجعل للموعد ظهراً.
رابعا: من مظاهر الغموض في شعره
(1) شغَفُه بالمعاني الغامضة التي تُستخرَجُ بالغوص وطول التفكير. يقول الآمدي  على لسان صاحب أبي تمام: "إنما أعرض عن شعر أبي تمام من لم يفهمْه لدقَّة معانيه، وقصور فهمه هو، وفهِمَه العلماء والنقّاد في علم الشعر".
(2) شغفُه بالإغراب في المعاني؛ لأنه كان يُوغِلُ في طلب معانيه فيحتاج القارئ إلى طول تأمّل ويجد مشقّة في فهم مراده. ولاحظ ابن رشيق القَيرواني (-463هـ) أنَّ قارئ شعر أي تمام يقف حائراً أمام طلاسمه وغموض معانيه، فإذا تمكَّن من فهم مراده وجد لذة في عمق معانيه. وقد اعتبره هو وابن الرومي أكثر المولَّدين معانيَ وتوليداً.
مثال: يقول أبو تمام:
وَرَكْبٍ يُساقونَ الرِّكابَ زُجاجَةً    من السَّيْرِ لمْ تَقْصِدْ لها كفُّ قاطِبِ
فقد أكَلوا منها الغوَارِبَ بالسُّرَى     وصارتْ لها أشباحُ هم كالغواربِ
(فأبو تمام جعل السَّيْرَ خمْراً لم تمتزج بماء؛ يُديرُها الركبان لِتُنْعِشَهم في سَيْرِهم. وشدَّةُ السير أذابتْ سنامَ النوق، وأَنْحَلَتْ أجسامَ الراكبين حتى صارتْ أجسامهم بمثابة أسْنِمَةِ الإبل ).
(3) التعقيد والغموض:  تكلُّف أبي تمام للمعاني البعيدة، يدفعه أحيانا إلى التركيب المعقد، وهذا التركيب يُفضي به إلى الغموض.
 يقول أبو بكر الصُّولي (-337هـ) في كتابه أخبار أبي تمام:"إنَّ أبا تمام يصنَعُ الكلامَ ويُخترِعُه ويَتْعَبُ في طلَبِهِ حتى يُبدعَ ".
ويقول القاضي الجرجاني (392هـ) في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه:
"ولو كان التعقيد وغموضُ المعنى يُسقطان شاعراً لوجبَ ألا يُرى لأبي تمام بيْتٌ واحدٌ، فإنَّا لا نعلمُ له قصيدةً تسلَم من بيت أو بيتيْن قد وَفَرَ من التعقيد حظَّهُما وأفسدَ به لفظَهُما...".
(4) الُبُعْدُ في تشبيهاته واستعاراته أي بُعْدُ العلاقة بين المشبّه والمشبّه به، وبين المستعار والمستعار له. ونتج عن ذلك رمْيُ النقاد له بالتكلُّف، وجاءت بعض استعاراته لا يستسيغها الذوق، ولا يقبلها العقل، كقوله:
باشرْتُ أسباب الغِنى بمدائحٍ     ضربتْ بأبوابِ الملوكِ طبولا
(5) كان يَستكرِهُ الألفاظ أي يأتي بها قَسْرا، فيبتعدُ عن عذوبة الألفاظ، ويأتي بغرائبها فنجده يتشبَّه بالبداوة، ويأتى بحُشيِّ الألفاظ، كقوله:
قد قلتُ، لمَّا اطْلَخَمَّ الأمرُ وانبعثَتْ     عشْواءُ تاليَةٌ غُبْساً دَهاريسَا
( اطلخم: أظلم – عشواء: ناقة ضعيفة الصر – تالية: تابعة -  الغُبْسُ: ذئاب لونها يميل إلى السواد – الدهاريس: الدواهي ).
(6) تكلَّف أصناف البديع ( وخاصة الجناس والطباق) في شعره، "وأحبَّ أن يجعل كل بيت من شعره غير خالٍ من بعض هذه الأصناف؛ فسلك طريقا وعْرا واستكرَهَ الألفاظَ والمعانيَ، ففسد شعره، وذهبت طُلاوتُه، ونشِفَ ماؤُه" – كما قال الآمدي.
خامسا: من نماذج الغموض في شعر أبي تمام
( هذا النموذج اختاره محمد عبد العزيز الكفراوي في كتابه: الشعر العربي بين الجمود والتطور ).
يقول أبو تمام:
هذا إلى قِدَمِ الذِّمامِ بكَ الذي     لو أنَّه ولدٌ لكان وصيفَا
وحَشاً تًحَرِّقُهُ النصيحَةُ والهوى    لو أنَّه زمنٌ لكان مَصيفَا
ومَقيلُ صدرٍ فيكَ باقٍ رَوعُهُ     لو أنَّه ثَغْرٌ لكان مَخُوفَا
البيت الأول: أضِفْ إلى ما تقدَّمَ من مدائحي فيك قديمَ حرمتي وأكيد ولائي الذي لو صُوِّرَ بصورة بشر لكان لك خادماً ( وصيفا) لا ولداً.
البيت الثاني: وبين جوانحي حشاً أنضجتْه عواطفُ ملتهبةٌ، ولو صحَّ أن يكون ذلك الحشا زمناً لكان من كثرة حرارته صيْفاً.
البيت الثالث: ولكن وسط هذا الحرِّ كَهْفٌ متواضع يكمن فيه الإشفاقُ عليك والاحتياطُ لسلامتك، وما هذا الكهف إلا صدري الذي لو اتخذ صورةَ ثَغْرٍ لكان مخوفاً لا يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منه، (ص161 – 162).


هناك تعليق واحد: