الجمعة، 18 مارس 2016

من ألَّف فقد استهدَف


عباس أرحيلة


أولا:  توثيق هذا القول

 قبل أن يضع المؤلف كتاباً يكون بعيداً عن أنظار الناس، يراه الناس كما يرون بقية الخلق؛ لا يعرفون شيئاً عنه. فما أن يضع بين الناس أثراً من آثار فكره حتى يخرج من المجهول إلى المعلوم؛ فيصبح فكره محلَّ نظر. ينظر إليه في ضوء ما أخرجه للناس من بنات أفكاره. إنْ أحسن نال المجد وحاز الشرف، وإن أساء  ناله الذم وقذفته الألسن.
ففي القرن الثاني للهجرة، في لحظة اتساع تدوين الثقافة العربيّة وتوثيقها وتأسيس أصولها، نجد هذا الإحساس بجسامة المسؤولية في حقول التأليف؛ هذا الإحساس بصعوبة التَّأليف وإعداد العُدَّة له قبل إظهاره إلى الناس؛ يتردد عند المؤلفين.
 ففي النصف الأول من القرن الثاني نجد عبد الله بن المقفع [ 142هـ] يقول: « من وضع كتابا فقد اسْتَهْدَفَ؛ فإن أجاد فقد استشرَفَ، وإن أساء فقد استُقذِفَ» (1).
وروي عن  أبي عمرو بن العلاء [ 154هـ] أنه قال: « الإنسان في فسحة من عقله، وفي سلامة من أفواه الناس؛ ما لم يَضع كتاباً، أو يقُلْ شعراً » (2).
وقال يحيى بن خالد البرمكي [ 190هـ ]: « لا يزال الرجل في فُسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يصنف كتاباً» (3).
وفي القرن الثالث نجد هذه الفكرة تتردَّد عن كلٍّ من العَتَّابي[ 220هـ] وأبي عثمان الجاحظ [ 255هـ ].
 فقد نُسب هذا القول إلى العتابي في مقدمة كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه [ 328هـ]، قال العتَّابي: « مَن قرَضَ شعراً أو وضع كتابا فقد استَهدَفَ للخصوم واستشرَف للألسن، إلا عند من نَظَرَ فيه بعين العَدْلِ، وحَكَمَ بغير الهوى، وقليلٌ ما هم» (4) .
وفي القرن الرابع يقول الوشاء ( محمد بن أحمد 325هـ ) في كتابه (المُوَشَّى):« وقلَّ ما نجا مؤلِّفٌ لكتابٍ من راصِدٍ بمكيدة أو باحث عن خطيئة. وقد كان يقال: من ألف كتاباُ فقد استشَرَفَ وإذا أصاب فقد استَهْدَفَ  وإذا أخطأ فقد اُستُقذِفَ» (5).
كما  ورد هذا القول في كتاب (صناعة الكُتَّاب) لابن النحاس (337 هـ): «  من صنَّف كتاباً فقد استَشْرَفَ للمدح والذم؛ لأنَّه إن أحسن أستَهْدَفَ للمدح، وإن أساء فقد تَعَرَّضَ للذَّمِّ» (6).
 وفي القرن الخامس ورد في كتاب (التمثيل والمحاضرة) للثعالبي (429هـ): « مَن صنَّف كتاباً فقد استهدفَ؛ فإن أحسن فقد استَعْطَف، وإن أساء فقد استُقذِف» [ ص160]. وقال الثعالبي: «  الأدبُ صورة العقل، فحسِّنْ عقلَك كيف شئتَ» [ ص159].
 وورد قول العَتَّابي المشار إليه عند الخطيب البغدادي ( أحمد بن علي 463هـ ) في كتابه (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) بهذه هذه الصورة: « من صنعَ كتاباً فقد استَشْرَفَ للمدح؛ فإن أحسن استَهْدَفَ للحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرَّض للشتم، واستُقذِف بكل لسان» (7).
ونسب الحُصَريُّ ( إبراهيم بن علي 453هـ ) في كتابه (زَهر الآداب) هذا القول إلى الجاحظ  بهذه الصيغة: « من صنَّفَ كتاباً فقد استَهْدَفَ، فإن أحسنَ فقد استعطَفَ، وإن أساء فقد استُقذِف» (8) .
وأورد ابن رشيق القيرواني قول الجاحظ في كتابه (العمدة) هكذا: « مَن صنَعَ شعراً، أو وضَعَ كتاباً فقد استَهْدَفَ؛ فإن أحسنَ فقد استعطفَ، وإن أساء فقد استَقْذَفَ»[1/235 ].
وفي كتابه (ألف باء) نسب يوسف البلوي (604هـ)  أيضا هذا القول إلى الجاحظ  بهذه الطريقة: «  وقال الجاحظ: لا يزال المرء في فسحة من عقله، ما لم يصنع كتاباً يَعرِضُ فيه على الناس مكنون فضله، ويتصفَّح فيه إن أخطأ مبلغ عقله».
 وعلَّق البلوي على هذا بقوله: « وصدَقَ لأنه من امتحن قولاً ظَهَرَ على عيبه، ومن طلب عيباً وجده». واعتبر هذا القول من أمثال الحكماء (9).
وورد هذا القول أيضا في كتاب (إحكام صنعة الكلام) للكلاعي ( ق6 هـ )، وفي (التعريف بآداب التأليف) للسيوطي (911 هـ)، بهذه الصيغة؛ «  وكان يُقال: من صنَّف، فقد استَهْدَفَ، فإن أحسن فقد استشرَف، وإن أساء فقد استُقْذِف»(10).

ثانيا: مع الفعليْن استهدَفَ  واستَشْرَف:


وهذه العبارة تداولتها الأقلام  تحتاج إلى التدقيق في استعمال الفعليْن وضبطهما: استَشرَف واستَهدَف.
فمن حيث المعنى يراد  بهما في غالب الأحيان معنىً واحداً كما في قول العتابي:  مَن قرَضَ شعراً أو وضع كتابا فقد استَهدف للخصوم واستشرَف للألسن ...
وفي العبارات السابقة نجد في غالب الأحيان -  أن فعل استشرف يحل محل فعل استهدف. كما رأينا في قول  الوشاء:  من ألف كتاباُ فقد استشرف وإذا أصاب فقد استهدف …
 وقد يُراد بفعل استشرف حاز مكانة الشرف. كما في قول ابن المقفع: من وضع كتابا فقد استهدف؛ فإن أجاد فقد استَشْرَفَ، وإن أساء فقد استُقذِف.
أ – فعل: اسْتَهْدَفَ
نجد في (القاموس المحيط) أن معنى اسْتَهْدَفَ: انْتَصَبَ وارْتَفَعَ. وفي (لسان العرب): أهدَف لكَ الشيءُ واستهدَف: دنا منك وانتصَبَ واستَقْبل. ومنه أُخذ الهَدَف لانْتصابه لمن يَرمِيه. يُقال أهدَفَ لك الصيدُ فارْمِهِ، أي عرَضَ لك. وأهْدَفَ على التَّلِّ : أشرف. والهدَف المُشرف من الأرض. السين والتاء في اسْتَهْدَفَ للصيرورة أي صار هدفاً، والفعل لازم.
فمعنى ( مَن ألَّفَ فَقَدِ اسْتَهْدَفَ): إن من ألف كتاباً صار هدفاً لآراء الناس؛ وعرَضَ موهبتَه على الأنظار.
فمن ألف فقد استهدَف: أي انتصب كالهدف يُرمى، أي صيَّرَ نفسَه هدفاً لسهام النقد. جاء في كتاب (التوقيف على مهمّة التعاريف):« وقولهم: من ألف فقد استهدَف أي انتصب كالغرض يُرمى بالأقاويل»(11).
ومما يوقعنا في العنت في ضبط العبارة المذكورة أن فعل استهدف جاء فعلاً لازماً في المعجم العربيّ، ولعله استُعْمِل متعدِّيّاً في بعض الأقوال؛ لأن المعجم العربي ما كان له أن يستوعب كلام العرب قاطبة. والفعل استهدف المتعدي مما استُدرك على المعجم العربي، فأصبحنا نجد: استهدف بمعنى اتَّخَذَ هدفاً. أما استَهْدَفَ في الاستعمال العربي في القديم فمعناه: انتصب وارتفع كما رأينا، فهو فعل لازم.
ب فعل: استشرَفَ
وفي (القاموس المحيط) أيضاً: استشرف: انتصب. َواستشرَفَ الشيءَ: إذا رفَعَ رأسَه أو بصَرَه لينظرَ إليه. فمعنى (مَن ألف فقد استَشَرَف) إي انتصب ليتلقَّى الانتقاد. كأنما انتصب في شُرْفَةٍ، تتجه إليها الأنظار. فمن ألف فكأنما أصبح نصب أعين الناس. والشرَفُ: العلو والمكان العالي. والهدف كل شيء مرتفع.
ويلاحظ أن فعل استشرف استعمل لازماً ومتعدياً. ومن الأحسن أن يُبْنى الفعل ( استشرف ) للمعلوم؛ فيكون بمعنى استَهدف. أي أنه أصبح مَحَطَّ النظر.  كما رأينا في قول كل من الوشَّاء: من ألف كتاباً فقد استشرَف، وإذا أصاب فقد استهدف،  وإذا أخطأ فقد اُستُقذِفَ.
وقول ابن النحَّاس: من صنَّف كتاباً فقد استَشْرَفَ للمدح والذم؛ لأنه إن أحسن أستَهدَف للمدح وإن أساء فقد تَعَرَّضَ للذم.
 والخلاصة أن مَن ألفَ فقد استَهدَف واسَتَشرف أي صار تأليفُه هَدَفاً للآراء؛ إنْ مَدْحاً أو ذَمّاً.
وردَ في (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لحاجي خليفة (1067 هـ): « قد قيل: مَن صنَّفَ كتاباً فقد استَشرف للمدح والذم؛ فإن أحسن فقد استهدَف من الحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف»(12).
ومعنى استَشْرَفَ للمدح والذم: تعرض لهما. ومعنى استهدَف من الحسد: دنا منه، وتعرض له.

ثالثا: الناس أعداء للمؤلف

وقد نبَّه الجاحظ منذ القرن الثالث إلى ضرورة العناية بتنقيح الكتاب ومراجعته قبل أن يطلع عليه القراء، فقال في كتابه (الحيوان):« ينبغي لمن كتب كتاباً ألاَّ يكتبَه  إلاَّ على أن الناسَ كلَّهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له؛ ثم  لا َيرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلاً، وأن لا يرضى بالرأي الفطير؛ فإنَّ لابتداء  الكتب فتنةً وعُجباً، فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرةً؛ أعاد النظر، في توقُّفٍ عند فصوله؛  تَوَقُّفَ مَن يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب؛ ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره، وفتنته بكلامه وكتبه، فوق فتنته بجميع نعمته»(13).
وقد وجدنا أبا القاسم الزجاجيّ (337هـ) في  كتابه (الإيضاح في علل النحو) يتحدث عن نظرة القارئ للكتاب فيقول:
«  وينبغي أن تعلَم أن أصدقَ الناس وأبَرَّهُم به؛ لن يَنظُرَ في تصنيفه إلاَّ نَظَرَ مُضادٍّ أو مُكاشِحٍ، لما ركَّبَه اللهُ عزَّ وجَلَّ في الأنفُس الشريفة من المنافسة في العلم وطلب الرُّتَبِ العُلى منه. ولن تَجد الحسد محموداً في حال إلاَّ في طلب العلم؛ لأن مَن لم تدَعْهُ نفسُه إلى الأنَفَةِ من مُطاوَلة نظيره عليه في العلم، واعتلائه إياه، وغلَبته له؛ فإن البُهْمَةَ [ البهيمية ] غالبة عليه»(14).
يقول ابن القيم في كتابه  (مفتاح دار السعادة)  لقارئه: «  فلك أيها القارئ صفوُه ولمؤلفه كدَرُه (...) وها هو قد استَهْدَفَ لسهام الراشقين، واستعذر إلى الله من الزلل والخطأ، ثم إلى عباده المؤمنين»(15).

رابعا:  فماذا عن شأننا نحن اليوم ؟

 

هل يُحس أحدنا ، حين يتصدى للتأليف، أنه أصبح مؤهلا لتحمل أمانة التأليف ومسؤوليته ؟
هل نؤلف حقا ما ينفع الناس، وما تدعو الحاجة إليه،  وما يُثري التجربة الإنسانية على الأرض ؟
هل يُحس أحدنا اليوم أنه حين يُؤلف كلاما يعرضه على الناس؛ إنما يعرض دينه وعقله وعرضه ويعرض سمعته على أنظار غيره ؟  لقد أصبحنا نتجرأ على التأليف ونحن لا نلتزم بحقوقه  ولا نتحمل تبعاته. ويبدو أن كثيراً من الناس ما عادوا يخافون أن يُصبحوا أهدافاً لآراء الناس ونقدهم.
فما عادت أنظار الناس تتجه صوب الشرفات، وما عادت التآليف أهدافاً تُرمى. وكثير من مؤلفي العصر يزعمون أنهم يأتون بما لم تأت به الأوائل،  ولا يخافون أن يصبحوا أهدافا ترمى، أن تراجع أعمالهم وتُنتقد وتقوَّم.
غاب النقاد من الساحات فخلت من أهل النظر، في زمن تعددت فيه المناهج النقدية ولكن اختفت فيه القيادات الفكرية.
وعموما كان التأليف في حضارة الإسلام مما يُستدَلُّ به على الأفهام والعقول، ولا يتصدى له إلا من تأهل له وأعد له العدة. ومن هنا قالوا في وصف الكتاب:
هو كتاب حُصِّن من نظر الناقد، والمعترض، والمُخَطِّئ، والمُسوِّئ، والمتعقب، والمستدرِك، والمعارِض. وهو كتاب ارتفع عن مقام المتحدي، والمعارِض، وقُصارى معارضه أن ينتهي إليه، وينسج في التأليف عليه.

مصادر
(1) مروج الذهب ومعادن الجوهر: المسعودي (454 هـ )، تنقيح وتصحيح : شارل بِلَّا ط1 [ بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية قسم الدراسات التاريخية، 1965]: 1/17.
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: الخطيب البغدادي ( 463 هـ )، تحقيق محمد عجاج الخطيب ط2 [ بيروت، مؤسسة الرسالة، 1994 ]، ص: 2/429.
 (3) معجم الأدباء، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب: ياقوت الحموي ( 626 هـ)، تحقيق: د. إحسان عباس ط1 [ بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1993 ]: 1/11.
(4)  العقد الفريد: ابن عبد ربه (328 هـ )، حققه: أحمد أمين وآخران – ط3 [ القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1973 ]، ص : 1/ 10
(5) المُوَشَّى أو الظرف والظرفاء:  أبو الطيب محمد بن إسحاق الوشاء ( 325هـ) ط1 [ بيروت، 1980 ]، ص  100.
(6) صناعة الكُتَّاب: أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس (337هـ)، تحقيق:  بدر أحمد ضيف ط1 [ بيروت، دار العلوم العربية، 1990 ]، ص 215.
(7) الجامع لأخلاق الراوي وأدب السامع: الخطيب البغدادي ( 463هـ)، ص: 2/427 – وروى الخطيب قول هلال بن العلاء: يُستَدلُّ على عقل الرجل بعد موته بكتب صنفها، وشعرٍ قالَه، وكتابٍ أنشأَهُ:12/429.
(8) زهر الآداب وثمر الألباب أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري، تحقيق: د. زكي مبارك وزاد في ضبطه وشرحه محمد محيي الدين عبد الحميد ط4 [ بيروت، دار الجيل، د. ت ]، ص: 1/183.
(9) ألف باء: أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي (604 هـ )، ط1 [ جدة، دار العلم للطباعة والنشر، د.  ]، ص: 1/61.
 (10) إحكام صنعة الكلام: أبو القاسم محمد بن عبد الغفور الكلاعي (ق6 هـ)، تحقيق: د. محمد رضوان الداية - د.ط [ بيروت، دار التراث، د.ت ]، ص 229 – 230 - وينظر: التعريف بآداب التأليف: السيوطي( 911  هـ)، تحقيق: مرزوق عليّ إبراهيم ط1 [ القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي، 1989 ]، ص 29.
(11) كتاب التوقيف على مهمة التعاريف: عبد الرؤوف محمد المناوي (1031هـ)، تحقيق: د. محمد رضوان الداية ط1 [ بيروت، دار الفكر، 1410هـ ]، ص: 1/739.
(12) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون حاجي خليفة ( 1067هـ)، د.ط [ بيروت، دار الفكر، د.ت ]، ص:1/18.
(13) الحيوان: أبو عثمان الجاحظ (255هـ)، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، ط2 [ القاهرة، البابي الحلبي، د. ت ] ، ص: 1/88.
(14) الإيضاح: الإيضاح في علل النحو: أبو القاسم الزجاجي (337 هـ)، تحقيق:  د. مازن المبارك ط 3 [ بيروت، دار النفائس، 1979 ] ص37 38.
(15) مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم والإرادة: ابن قيم الجوزية، تحقيق: حسان عبد المنان الطيبي، عصام فارس الحرستالي ط1 [ بيروت، دار الجيل، 1994 ]، ص: 1/100.










 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق