الأحد، 18 أكتوبر 2015

مجاز القرآن لأبي عبيدة محاولة رائدة في مرحلة التأسيس



عباس أرحيلة
تمهيد:
       أراد كل من النحو والبلاغة والتفسير أن يحتسب موضوع هذا الكتاب لنفسه. والحق أن التنازع فيه نابعٌ من محتواه، ومن طبيعة العصر الذي وُضعت فيه أسس العلوم الإسلاميّة، ومن مكانة صاحبه في عصر شيوع التدوين. وهو عصر حرص على حفظ اللغة، والإحاطة بمسالكها في التعبير، حتى تواكب انصهار الأجناس غير العربيّة في بوتقة الشعب العربيّ: خاصة وأن الإسلام جعل اللغة العربية وسيلة عالمية لتبادل الفكر. ومع أن كتاب مجاز القرآن يستجيب للنحو والبلاغة والتفسير وغيرها من المعارف، وبرغم من أن صاحبه لا يتوسع في تشقيق البحوث البيانيّة؛ إلا أنه يُعدّ مرحلة أولية في الكشف عن إعجاز القرآن وبيان بلاغته، كما أنه شكل الاتجاه العام الذي كان يُسيطر على الباحثين في النص الدينيّ المُعجز لبيان ما فيه من وجوه التجوّز في نهاية القرن الثاني للهجرة.

المبحث الأول: أبو عبيدة وكتابه (مجاز القرآن)
       أولا: مع أبي عبيدة
أُثير جدلٌ كثير حول أبي عبيدة ( معمر بن المُثنّى) قديماً وحديثاُ لما تميّزت به شخصيتُه من أصالة وخطورة، انطلاقاً من إسهامه في مجال الدرس القرآنيّ. وإن المُتمعّن في سيرة الرجل تنكشف له خلفيات هذا الجدل:
       1 – فأبو عبيدة فارسي الأصل، تعصّب لأعجميته، وكان أحد زعماء الحركة الشعوبيّة، استخدم ثقافته في الطعن على العرب وفضح مثالبهم بطرق عدة. فقد ألّف كتباً في فضائل الفرس كما ألّف لصوص العرب وأدعياء العرب، وكان من طرُقه في ثلْب العرب أنه كان يُعلن فضائل الفرس، ويتهكّم بما تفخر به العرب، مع اختلاق قصص للتشنيع عليهم.
       2 – كان يهوديّ الأجداد، وإن كانت عناصر الثقافة اليهوديّة غير واردة في مؤلفاته، ولا أَثَر للإسرائيليات في كتابه (مجاز القرآن) (1).
       3 – نُسب إلي الميلُ إلى مذهب الخوارج الإباضية، كما نُسب إليه القول بالقدر.
        4 -  جَمَعَ صفاتِ نفَّرت الناسُ منه، فهو شتّامٌ بذيء اللسان، على دراية بالنسب، وَسِخٌ، مدخولُ الدين، إذا قرأ القرآن قرأه نَظَراً. ولما مات لم يحضُر جنازَتَه أحدٌ لشراسة طبعه (2).
       5 - ويزيد من خطورة الرجل إلمامُه الواسع بعلوم العربيّة في البيئة البصريّة، وهو إلمامٌ يُقرّ به الأصدقاء والخصوم على السواء، ويُؤهّله للبحث الموضوعي في كتاب الله تعالى؛ إلاّ أن كتابه أثار نقَدَ معاصريه إذ طنّوا أن فيه لوناً من التفسير بالرأي. وقد أورد ابن النديم في الفهرست من الدراسات القرآنية: مجاز القرآن، وغريب القرآن، ومعاني القرآن، ولم يبق منها إلا مجاز القرآن وقد قام بتحقيقه من أجل الحصول على درجة الدكتوراه محمد فؤاد سزكين، وأخرجه سنة 1954، بتصدير أمين الخولي. 
       ثانيا: كتاب مجاز القرآن
       1 – ظروف تأليف الكتاب
       استقدَمَ الفضلُ بن الربيع، والي البصرة، أبا عبيدة سنة ثمان وثمانين ومائة للاستفادة من علمه. وفي مجلسه، سأله إبراهيم بن إسماعيل الكاتب في قوله تعالى: ﴿طَلْعُهاَ كأَنَّه رُؤوسُ الشَّياطِين﴾[الصافّات:65]. وقال: إنما يقعُ الوعْدُ والإيعادُ بما عُرِفَ مثلُه. وهذا لم يُعرَف. فقال أبو عبيدة: إنما كَلَّمَ الله تعالى العربَ على قدِر كلامهم، أَمَا سمعتَ قول امرئ القيس:
       أيقتلني والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعي     ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغْوالِ
       وهم لم يرَوْا الغُولَ قط. ولكنهم لما كان أمِرُ الغول يَهُولُهم أُوعِدوا به. فاستحسنَ الفضلُ ذلك، واستحسنَه السائلً.
       وعزَمَ أبو عبيدة من ذلك اليوم أن يضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه، وما يحتاج إليه من علمه. فلما رجع إلى البصرة عمْل كتابَه الذي سماه ( مجاز القرآن).
ويُستفاد من رواية تأليف الكتاب(3) ما يلي:
أ – خفاء بعض المعاني القرآنية على أهل العصر نظراً لتباعُد الزمن عن صدْر الإسلام. ولعلّ أبا عبيدة أحسَّ أن الكُتّابَ من حوله أنشأوا ينظرون في القرآن وإليه نظرةً أخرى، فهم يسألون عن أشياء كانوا يظنونها مما تركتْه الجاهلية في نفوس الناس وأفئدتهم؛ كحديث القرآن عن النار وتشبيهه لطلْعِها بأنه كرؤوس الشياطين (4).
 ب – أدركَ أبو عبيدة خطورة الجهل بمذاهب العرب في القول، على تحريف مدلول النص وفهم معاني القرآن، فبادر إلى تأليف مجاز القرآن.
 ج - ويلاحظ أن السائلَ كاتبٌ من أهل صناعة البيان استوقفه من التشبيه القرآني أن المشبَّهَ به غير محسوس. وأن أبا عبيدة أحال ذلك السائل على بيت شعري جاهلي ليُؤكّد أن التصوير فيه من جنس التصوير القرآني.
 د - وإلى جانب الإشارة إلى تاريخ تأليف المجاز، يتضح أن أبا عبيدة عالج كيفية التوصل إلى فهم المعاني القرآنية باحتذاء أساليب العرب في الكلام، وسُنَنِهم في وسائل الإبانة عن المعاني، حين أحسَّ بحاجة الناس إلى وصلِ حاضر اللغة بسالفها(5).
        فالعامل الدينيّ كان من أهم البواعث في حفْز العزائم على البحث في متصرّفات الخطاب في كتاب الله تعالى. فغاية أبي عبيدة الكشف عمّا أُشكل من معاني القرآن بمعرفة طرُق أداء المعنى. ولقد كانت ملاحقة المعنى سبباً في نشأة علوم ثلاثة، أثرت في البلاغة تأثيرا بالغا، وهذه العلوم هي: التفسير وهدفه حصر المعنى، وأصول الفقه وهدفه استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وعلم الكلام وهدفه إثبات أصول الدين (6).
       وكلّما ابتعدنا عن صدر الإسلام وعظُم الاتصال بالأعاجم اشتدَّ طلبُ المعنى القرآنيّ والسؤال عنه، ولذا كثُر التأليف في معاني القرآن وغريبه في القرنين الثاني والثالث. فالدراسات اللغويّة في مرحلة ازدهار التدوين كان من بين أسباب وجودها، العناية بالنص القرآني أداءً وفهماً حيث تَتَرَبَّى العقول على معانيه وتتجاوب الأذواق مع جمالياته.
       2 - المراد بالمجاز
       أ – معنى المجاز:
يُرادُ بالمجاز العدولُ عن الطريق الطبيعي للألفاظ في معانيها ونظمها إلى طريق آخر فيه مُجاوَزة وتجوُّز. وإن الوُقوف عند دَوران كلمة مجاز في الكتاب، وإن تعدّدتْ في بعض المواضع دلالتها، فإن السَّعَة اللغوية يقصد أبو عبيدة المَعْبَر إلى الفنون الأسلوبية في القرآن. فالمجاز طُرُقٌ يَسلكُها القرآنُ في أدائه البيانيّ أي في تعابيره. وكلمة المجاز عنده لا علاقة لها بالمصطلح البلاغي بقدر ما تعني الدلالة الدقيقة للصيغ التعبيرية المختلفة في القرآن؛ مُستشهداً عليها بما يُشبهها من أنماط أساليب العرب. ولعل الإحساس بضرورة التعرف على وجوه الحسن في أساليب القرآن والواردة في كلام العرب؛ جعل لموضوع المجاز مكانةً خاصّةً في الدراسات القرآنيّة والبحوث الإعجازيّة.
ب - منهج الكتاب، ومناحي المجاز فيه
        يبدأ الكتاب بمقدمة عامة يُحدِّدُ فيها أبو عبيدة منهجه، ومجال كلمة مجاز فيه؛ مؤكّداً أن فنون التعبير في القرآن لا تخرج عن المأثور من أساليب العرب وفنونهم. ثم يسوق أمثلة مفصلة للبيان العربيّ.
       يقول في المقدمة: « قالوا إنما أُنزِل بلسانٍ عربيّ مبين، ومِصداق ذلك في آية من القرآن... ﴿ ومَا أَرسَلْنا مِنْ رسُولٍ إلاَّ بِلِسانِ قَوِمِه﴾ [ إبراهيم:4]. فلم يحْتَج السلَف ولا الذين أدركوا الوحي إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسألوا عن معانيه، وعمّا فيه ممّا في كلام العرب من وجوه الإعراب ومن الغريب والمعاني»(7).
       وبعد المقدمة يبدأ بشرح غريب القرآن من بداية المصحف، مُشيراً إلى الحديث النبوي الشريف المناسب، ثم يأتي بالشاهد من مأثور الشعر أو النثر.
       ج – التوسّع في الرؤية البيانية
لقد تميَّز منهجه بسعة الثقافة والحرية في فهْم النصوص، فاعتمد حِسَّه اللغوي في استقرائه لمناحي المجاز دون أن يلتزم بقواعد لغوية ناشئة على عهد تصطدم بالنص القرآني، فلم يخضع لقيود مدرستي الكوفة والبصرة لفهم النصوص العربية. وعُنيَ في ضوء هذا التحرّر بالناحية اللغوية في القرآن، وأكثر من الاستشهاد على الآيات بالشعر العربي ممّا صرَفَه عن الاشتغال بالنص القرآني(8).
        وفي مجال كشف دقائق التعبير توسَّعَ في بيان الخصائص التعبيريّة من استعارة وتشبيه وكناية وتقديم وتأخير وحذف وإضمار وتكرار؛ ليُثبت أن النص القرآني يحمل كل سمات الكلام العربي، وأن من يتصدّى لفهم هذا النص لابد أن يُلمّ بفقه العربية وأساليبها واستعمالاتها. من هنا فاض كتاب المجاز بمأثور القول من منثور الكلام العربي ومنظومه، تأكيداً لقوله بأن العرب لم يكونوا في حاجة إلى كتابه المجاز في القرآن؛ لأنهم أعرف بأساليب القول في لغتهم.
       وذكر د. محمد زغلول سلام أن الفكرة التي راودت أبا عبيدة، وهو يؤلف كتابه كانت فكرة مدرسية حاول من خلالها أن يضع أمام طبقة المستعربين صوراً من التعبير في القرآن، وما يُقابله من التعبير المعهود للألفاظ والعبارات إلى معانٍ وتراكيب أخرى اقتضاها الكلام (9).
       وإذا كان الفهم اللغويّ يطبع تصوّره للصورة البيانية؛ فإن البحث اللغوي في مجاز أبي عبيدة؛ يؤكّد أن النص القرآني َخلَقَ ذلك البحثَ خلْقاً، وأن العرب رأوا في القرآن مثالاً بليغا، وطرازاً معجزاً عن التعبير نفذ إلى حسّهم اللغوي بأساليبه المتضافرة، فانبثق في نفوسهم منذ عهد مبكر إعجابٌ بليغ وحسّ دقيق بروعة النص (10). على أن الاتجاه العام الذي كان يسيطر على المُتصدِّين للنص القرآني المعجز، لبيان ما فيه من وجوه التجوّز وأساليبه؛ كان أمراً ملحوظاً في هذه الفترة، نجد هذا عند الإمام الشافعي (204هـ) وأبي عبيدة والفراء (207هـ)، وفي حديثهما عن اللغة صورة من التقارب؛ فالشافعي يتحدث عن فهم النص فهما لغويّاً بأسرار اللغة وطرائقها في التعبير، كما صنع أبو عبيدة (11).
المبحث الثاني: طبيعة المجاز في الكتاب
       ومناحي المجاز المبثوثة في الكتاب تطوف بقضايا أسلوب القرآن، مشيرة إلى مذاهب العرب التعبيرية، وكيف جرى البيان القرآني وفاقها. ويمكن تقسيم مناحي مدلول المجاز الواردة في الكتاب إلى الوجوه التالية:
       أولا: ما يطرأ على اللفظ من تحوّل لغوي حسب السياق
أ - تحوّل مدلول الفاعل إلى مفعول أو العكس. يقول أبو عبيدة عن قوله تعالى ﴿ والنهارَ مُبْصِراً﴾ [ يونس:67]، له مجازان: أحدهما؛ أن العرب وضعوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل والمعنى أنه مفعول؛ لأنه ظرف يفعل في غيره؛ ولأن النهارَ لا يُبْصِر. ولكن يُبْصِرُ فيه الذي ينظر. وفي القرآن﴿ في عيشة راضية﴾ وإنما يَرضَى بها الذي يعيش فيها (12).
ب - ومن مجاز ما جاء لفظه الذي له جماع منه ووقع معنى هذا الواحد على الجميع. قوله تعالى ﴿ يُخرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [ الحج:5] في موضع (أطفالا). وقوله تعالى:﴿ والمَلَكُ على أرْجائِها﴾  الحاقة:17]، في موضع ( الملائكة).
ج -  ومن مجاز ما جاء لفظه لفظ الجمع الذي له واحد منه، ووقع معنى هذا الجمع على الاثنين، قوله تعالى: ﴿ فإنْ كانَ لهُ إِخْوَةٌ﴾ [ النساء:11]، فالإخوة جمْعٌ وقَعَ معناه على أخويْن. وقال: ﴿السارقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْديَهُما﴾ المائدة:38]، موضع يديهما [ص8 – 9].
د - ومن مجاز ما جاء في لفظ خبَر الجمع على لفظ الواحد، قوله تعالى:﴿والملائكةُ بعْدَ ذلك ظَهيرٌ﴾ [ التحريم:4]، في موضع ظُهَراء.
هـ - وقد ينقلب إلى ضده، كما في قوله تعالى: ﴿ منْ ورائهِم جهنَّمُ﴾[الجاثية:10]، مجازه: قدّامَه وأمامَه.
و - وقد تتغيَّرُ الصيغةُ بزيادة حرف، فقوْل الله تعالى: ﴿ فأمْطَرْ عليهمَ حِجارةً من السماء﴾ [ الأنفال:32]، مجازه أنَّ كلَّ شيء من العذاب فهو أمْطرْتً بالألف، وإن كان من الرحمة فهو مَطِرْتُ.
ز - وقد يتغيّر مدلول الاستفهام، كما في قوله تعالى: ﴿ إنَّ الذين كفَروا سواءٌ عليهم أَأَنْذرتَهم أمْ لمْ تُنذرْهم﴾ [البقرة:6]، هذا كلامٌ هو إخبارٌ خرج مَخرَج الاستفهام [ ص31].
ثانياً: يُراد بالمجاز بعض المعاني البلاغية
إذا تذكّرنا أن المصطلحات البلاغيّة قد عرفتِ النور في أجواء الدراسات القرآنيّة في مراحلها الأولى، فإن مدلول المجاز سينصرف بلا شك إلى مجموعة من المعاني البلاغية التي ستنمو وتنضج مع الأيام، ونجد من المعاني البلاغية التي اختفت وراء كلمة مجاز، ما يلي:
       أ – الالتفات:
        يقول أبو عبيدة عن قوله تعالى:﴿ ألم ذلك الكتابُ ﴾ [ البقرة:1]، معناه هذا الكتاب؛ وقد تخاطب العرب الشاهدَ فتُظهرُ له مخاطبةَ الغائب. ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد ثم تُركتْ وحُوِّلتْ مخاطبتُه إلى مخاطبة الغائب. قال تعالى: ﴿ حتى إذا كُنْتُم في الفُلْكِ وجَرَيْن بهم ﴾ [يونس:22]؛ أي بكم [ ص11].
ب – التقديم والتأخير: ورد في المقدمة ومن مجاز المقدم والمؤخر، قال تعالى:﴿ فإذا أنزلْنا عليها الماءَ اهتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [ فصلت:38]، أراد ربت واهتزت. وقال:﴿ لم يَكَدْ يَراها﴾ [ النور:40]؛ أي لم يَرها ولم يكد [ص30].
ج – التشبيه والتمثيل: ترد كلمة تشبيه عند شرحه لقوله تعالى:﴿ نساؤُكُم حرثٌ لكم ﴾ [ البقرة:223]، فيقول: كناية وتشبيه. ويقول في الآية:
﴿ أَفَمنْ أُسِّسَ بُنيَانُه على تقوىً من الله ورضوانٍ خيْرٌ أمّن أُسِّسَ بنيانُه على شفَا جُرُفٍ هارٍ فانهارَ به في نار جهنم ﴾ [التوبة:109]، مجاز تمثيل؛ لأن ما بناه على التقوى أثبتُ أساساً من البناء الذي بنَوْهُ على الكفر والنفاق، وهو على شفا جُرُف، وهو ما يُجرَفُ من سيول الأودية فلا يثبت البناء عليه [1/269].
       د – الاستعارة والكناية:
             أغفل أبو عبيدة لفظة الاستعارة في كتابه وأطلق لفظ «مجاز» في معناها، كما في تفسيره لقوله تعالى:﴿ ويُثبِّتَ به الأقدامَ﴾ [ الأنفال:11]، مجازُه: يُفرغُ عليهم الصبر، ويُنزِّلُه عليهم؛ فيثبتون لعدوِّهم. وفي تفسيره لقوله تعالى:﴿ إلاَّ هوَ آخذٌ بناصيتها﴾ [ هود:56]، مجازه: إلاّ هو في قبضته ومُلكه وسلطانه. وينُصُّ على الكناية في كتابه بطرق مختلفة قريبة في مجملها من مدلول المصطلح البلاغي. قال في قوله تعالى:﴿ كلاّ إذا بلغت التراقيَ ﴾[ القيامة:26]. وقوله تعالى:﴿ كلُّ مَن عليها فانٍ ﴾[ الرحمن:26]، وقوله تعالى:﴿ حتى توارَتْ بالحجاب ﴾[ص:36]، إنّ الله كنّى في الأول عن الروح من غير أن يجري ذكرها. وفي الثانية عن الأرض. وفي الثالثة عن الشمس. ثم يأتي بمقال لهذا المعنى عند العرب كعادته، وعلى هذا قول حاتم الطائي:
أَماويّ ما يُغني الثراءُ عن الفتى     إذا حشرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
       يعني حشرجت النفس، وقال دعبل الخزاعي:
إذا كان إبراهيمُ مُضْطلعاً بها
       أي الخلافة [ ص34].
        وفي قوله تعالى: ﴿ أوْ على سَفَرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائط ﴾ [ النساء:43]، كناية عن قضاء الحاجة. وكذلك قوله تبارك وتعالى:﴿ أو لامستُم النساء﴾، كناية عن الغشيان. ويلاحظ أن أبا عبيدة لا يَحيد عن موقف اللغويين في تفسير الاستعارات والتشبيهات المتعلقة بالذات الإلهية أو بالعقيدة، فيكتفي بالمعنى المجازي القريب خوفاً من الوقوع في التجسيم، فتراه يُفسر مثلا ﴿ يدُ الله مغلولة ﴾، بقوله: خيْر الله.
       ثالثا: قد يُراد بالمجاز أيضا نُكَتٌ عامة في الأسلوب العربي
وقد عرض للإيجاز والإطناب والتكرار والإضمار وزوائد الحروف وغيرها. فمن مجاز المضمر فيه استغناء عن إظهاره ﴿ بسم الله ﴾ ففيه ضمير مجازه هذا باسم الله أول كل شيء.
ومن مجاز المكرر للتوكيد قوله تعالى:
﴿ إنّي رأيتُ أحدَ عشرَ كوكباً والشمس والقمرَ رأيتُهم لي ساجدين ﴾[ يوسف: 4]، أعاد الرؤية. وقال:﴿أولى لك فأولى﴾[ القيامة:34]، أعاد اللفظ.
       ومن مجاز الأدوات اللواتي لهن معان في مواضع شتى، فتجيء الأداة منهن في بعض تلك المواضع لبعض تلك المعاني. قال تعالى:﴿ إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ مثلا ما بعوضةً فما فوقها ﴾[ البقرة:26]، معناه فما دونها. وقال:﴿ والأرضَ بعدَ ذلك دحاها﴾[ النازعات:30] ومعناه: مع ذلك، وقال:﴿ الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون﴾ [ المطففين:3]، معناه: من الناس.
        ويتضح من خلال استعمالات لفظة (مجاز) أنها تنطوي على عدّة مرام حسب الأنماط التعبيرية الواردة في الكتاب، وأن التسمية لغوية وليست اصطلاحية. فالمجاز «مَعْبَرٌ» لمعرفة أساليب العرب: فهو تفسير وتأويل. ويتضح هذا منذ السطور الأولى في كتاب المجاز. فقد ورد في فاتحته: قال الله جل ثناؤه:﴿ إنَّ عليْنا جمعَه وقرآنَه ﴾ [ القيامة:17]، مجازه: تأليف بعضه إلى بعض. ثم قال:﴿ فإذا قرأناه فاتَّبِعْ قرآنه﴾، مجازه: فإذا ألفنا منه شيئاً، فضممناه إليك، فخُذْ به واعمل به، وضُمَّه إليك.
       قال عمرو بن كلثوم في هذا المعنى:
ذِراعيْ حُرَّةِ أدْماءَ بَكْر     هِجانٍ اللون لمْ تَقْرأْ جنيناً
أي لم تَضُمّ في رحمها ولداً قط [ ص 2 – 3].
        ولعل هذا الاتجاه اللغوي في التفسير كان وراء ما أثاره كتاب المجاز من نقد معاصرين له – وبخاصة المحافظون منهم – لا لأنهم لمسوا فيه لوناً من التفسير بالرأي فقط، ولكنهم وجدوه وسيلة تسربوا منها لدفع منزعه الشعوبيّ المناوئ للعرب.
        فالفراء لا يرضى عن مسلك أبي عبيدة في تفسير القرآن، والأصمعي يغضب، وأبو حاتم السجستاني يرى ألا يحل كتابة المجاز ولا قراءته إلا لمن يُصحح خطأه. وكذلك كان بعد ذلك موقف الزجاج والنحاس والأزهري والطبري منه (13).
       فصاحب المجاز أثار حفيظة معاصريه – ومن جاء بعدهم – لأنه لم يتقيّد بالمأثور عن السلف من المفسرين، وتعامل مع البيان القرآني باعتباره لغوبا؛ عمْدتُه الأولى الفقه باللغة، والنفاذ إلى خصائص التعبير فيها، حتى عُدّ الكتاب من أوائل كتب البلاغة.
       المبحث الثالث: أهمية كتاب المجاز ومكانته
       يمكن القول إن محاولة أبي عبيدة فتحت منافذ على البحث في لغة القرآن وأسلوبه. وبالرغم من اختلاف الباحثين حول موضوع الكتاب (هو عند طه حسين كتاب يهتم باللغة، وهو عند الخولي كتاب في التفسير، وعند إبراهيم مصطفى كتاب في النحو)؛ فإنه، انطلاقا من الباعث على تأليفه، وبالنظر لطريقة عرضه للطرق المختلفة في الصياغة والدلالة؛ كان يتحرك نحو قضية إثبات عربية القرآن مع مقابلة ذلك بما تعارف عليه العرب. ولاحظ د. مصطفى الجويني أن بحث أبي عبيدة للغة القرآن تتوزعه ناحيتان:
       أ – ناحية التركيب، أي المذهب القرآني في التعبير على النمط عينه الذي كان للعرب في أسلوبهم.
       ب – وناحية البرهنة على خُلوص عربية اللفظ القرآني، فهو شديد الحساسية من ناحية، ومع كل شبهة من عربية القرآن (14).
       يقول أبو عبيدة:« نزل القرآن بلسانٍ عربيّ مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظمَ القول» (15).
       فالكتاب غلب عليه البحث في أساليب القرآن، مع التمثيل عليها بما يُشبهها من أشعار العرب وأساليبهم، وجره هذا الاختيار على الحديث عن فنون القول وأنماطه؛ فكان نواة أولى للبحوث البيانية، ولبنة هامة في البنية الثقافية لمن سيتولى عرض قضية إعجاز القرآن. ولا سيما أن أبا عبيدة لم يكن إخباريا جافا، بل كان يتمتع حس فني تعكسه وقفاته الجمالية مع اللغة والشعر فيما خلفه من تراث (16).
       وإذا كان د. فؤاد سزكين يقول عن منهج الكتاب، إن صاحبه اعتمد فيه على حسِّه اللغوي الخاص في إعراب الآيات أو الأشعار، وأنه حطّم الحواجز النحوية التي وضعها النحاة أمام النص القرآني؛ فإن هذا لا ينفي عن الكتاب القيمة النحوية؛ إذ فيه من المسائل النحوية التي دارت حول الآيات القرآنية ما يُؤهله عند بعضهم ليصبح مصدراً من مصادر النحو القرآني (17). فأبو عبيدة وصل بين النحو وبين النص القرآني شأن النحاة الذين كانوا من أوائل الدارسين الذين انتهوا إلى الاعتماد على اللغة في التفسير ما دام القرآن قد نزل بهذه اللغة للإعجاز.
ولا جدال في أن هذا الاتجاه في التفسير كان قد أصبح اتجاها متميزا له منزعه الخاص وأسلوبه المتفرد، وقدرته البالغة على التحليل الذي لا يدع النص مغلقا أو مطويا على نفسه دون الاستفادة من كل ما فيه من إيثار لفظة على أخرى أو حرف على حرف.
        ولعل هذا يُفسر لنا كيف دافع أمثال أبي عبيدة مبدأ التحرّج في التفسير، وكيف شقوا الطريق لحركة تفسيرية واسعة فيما بعد، كما أنهم بعملهم هذا مكّنوا من إقامة درس بلاغي يساند منهجهم التحليلي في فهم النص القرآني، والاستنباط منه. ومما يُؤكد هذا أن الدراسة البلاغية التي ظهرت عند العرب، والتي تدرجت حياتها فيما بعد، تعتمد كلها على النحو.
       وينبغي ألا نتغافل عما يضطرم فيه القرن الثاني الهجري من انصهار الأجناس، وتفاعل الثقافات، وسَعْيٍ لتأسيس هوية إسلامية عربية بمعارفها وتصوراتها... فقد استيقظت المذاهب والمِلل والنِّحل من غفوتها، وبدأ أصحابها يتطلعون إلى الكتاب الذي خرج به المسلمون إلى العالم لفهم مضامينه وتحقيق مقاصده في معترك الحياة. فلا عجب أن وجدنا صاحب المجاز يُصرّح أول ما يُصرح به أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وأن الذين أدركوا وحيَه كانوا عرَبَ الألسن فاستغنَوْا بعلمهم عن المسألة عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه. وفي القرآن مثل ما في كلام العرب من وجوه الإعراب ومن الغريب والمعاني.
       ويمكن القول إجمالا، إن مجاز القرآن كان منطلقاً لمدرسة في التفسير عدتُها الأولى الفقهُ بالعربية وأساليبها، واعتبار النحو صلب المنهج التحليلي في تفسير النصوص والكشف عن طاقات اللغة. ولا شكّ أن الكتاب يمثل المرحلة الأولى في بحث قضية الإعجاز، مكتفيا بالتدليل على عربية القرآن تدليلا عميقا. وحَسْبُ أبي عبيدة في هذا المجال تأثر اللغويين والمفسرين والنحاة بآرائه وكتابه. فقد اعتمد على كتابه ابن قتيبة (276هـ) في كتابيْه: مشكل تأويل القرآن، وغريب القرآن. والطبري (310هـ) في تفسيره. واستفاد منه أبو عبد الله اليزيدي (311هـ) في كتابه غريب القرآن، والزجاج (338هـ) ابن دريد (321هـ) في الجمهرة، وان النحاس (339هـ)، والأزهري (370هـ) في التهذيب، وأبو علي الفارسي (377هـ) والجوهري (400هـ) في الصحاح (18).
الهوامش:
1 – مجاز القرآن: صنعة أبي عبيدة معمر بن المثنى ( تـ 210هـ)،تحقيق: د. محمد فؤاد سزكين. ط1 [ القاهرة، مكتبة الخانجي، 1954].
2 – الفهرست: النديم (أبو الفرج محمد بن أي يعقوب تـ 380هـ)، تحقيق: أحمد شمس الدين، ص83 - 84 – ط1 [ بيروت، دار الكتب العلمية، 1996].
3 – ورد هذا الخبر مطولا على لسان أي عبيدة في (معجم الأدباء) لياقوت الحموي، تحقيق: د. إحسان عباس:6/ 2706 – 2707 – ط1 [ بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1993].
4 – دراسات في القرآن: د. أحمد خليل، ص71 – ط1[القاهرة، دار المعارف، 1972].
5 – البيان العربي: د. بدوي طبانة – ط5[ بيروت، 1973].
6 – تأثير الفكر الديني في البلاغة العربيّة: د. مهدي صالح السامرائي، ص12 – ط1[ بغداد، المكتب الإسلامي، 1977].
7 – مجاز القرآن1/8.
8 – نفسه (مقدمة المحقق):1/19.
9 – أثر القرآن في تطور النقد العربي إلى أواخر القرن الرابع الهجري: د. محمد زغلول سلام، ص142 – ط3[ القاهرة، دار المعارف، 1978].
10- الفكر الديني في مواجهة العصر: د. عفت الشرقاوي، ص33 – 34 ط1[ بيروت، دار العودة، 1974].
11 – دراسات في القرآن، ص73.
12 – مجاز القرآن:1/64 – الأرقام الواقعة ين المعقوفين، تشير إلى أرقام الصفحات من كتاب مجاز القرآن.
13 – الفكر الديني في مواجهة العصر، ص33.
14– مناهج في التفسير: د. مصطفى الصاوي، ص89 – ط1[ الإسكندرية، منشأة المعارف، 1971].
15 – مجاز القرآن:1/17.
16 – مقدمة فؤاد سزكين:1/15.
17 – القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية: عبد العال سالم مكرم، ص143 ط1[ القاهرة، دار المعرفة، 1968].
18– مقدمة فؤاد سزكين:1/17.
ملاحظة:
[ نُشر هذا المقال في مجلة الدارة: العدد الثالث، السنة 12، ربيع الآخر 1407هـ/ديسمبر 1986، ص235 – 246].


.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق