الأربعاء، 17 مايو 2017

حديث الجاحظ عن المعنى وعن النظم

عباس أرحيلة
أ حديثه عن المعنى
يكشف الجاحظ أولا سرَّ العناية باللفظة؛ لأن« حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأنّ المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصّلة محدَّدة»(1) . ثم يبرز مكانة المعنى حسب معنى والسياق مستوى المخاطب بقوله: «ينبغي للمتكلِّم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً ولكل حالة من ذلك مقاماً »(2)، بل إن الجاحظ يجعل مدار الأمر على فهم المعاني لا الألفاظ والحقائق لا العبارات (3).
وترى الجاحظ يوازن بين اللفظ والمعنى فيقول:«  لا يكون الكلام يستحقّ اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك» (4). ب - حديثه عن النظم  
ليست هناك أبواب في الكتابات الجاحظيّة مخصصة لقضية النظم، لكن هناك جملة آراء نظر فيها إلى العمل الأدبيّ نظرة متكاملة، بلا تحيُّز إلى لفظ أو ميل إلى معنى. كما جاء في معرض حديثه عن آية ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها  في سالته في  الجد والهزل، يقول  « والاسم بلا معنى لغو؛ كالظرف الخالي، والأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معاني الأرواح» (5). وتتضح هذه الرؤية الشموليّة في مثل قوله:« فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير » .
 ثم إن الجاحظ وعد بالحديث عن نظم القرآن حين قال: «ولا بدّ أن نذكر فيه - يعني الجزء الثاني من البيان والتبيين - أقسام تأليف جميع الكلام، وكيف خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفَّى على مخارج الأشعار، وكيف صار نظمه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحجج » (6).
ويستفاد من قوله هذا أن القرآن الكريم نصّ أدبيّ يختلف عن النصوص والألوان الأدبيّة المعروفة شكلا ومضموناً، وأن إعجازه كامنٌ في نظمه وتأليفه. كما جاء في الحيوان قوله: « وفي كتابنا المنزّل؛ الذي يدلُّنا على أنَّه صدقٌ؛ نظمُه البديع؛ الذي لا يقدِر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدّلائل التي جاء بها من جاء به» (7).
1 -  البيان والتبيين:1/76.          2 -  نفسه:1/138.     3 -   الحيوان: 1/542.
4 - البيان والتبيين:1/115 - .  يلاحظ أن كثيراً من مؤرخي النقد العربيّ أن الجاحظ كان متحيِّزاً في نقده لأبي عمرو الشيباني بقوله: « وذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق»: الحيوان:1/131- غنيمي هلال  جعله ممن يرجع مقومات العمل الأدبيّ إلى اللفظ: النقد الأدبيّ الحديث، ص257 - وذهب بدوي طبانة إلى أن الجاحظ أول من نادى بتقديم اللفظ في نقد الأدب العربيّ افتتاناً منه بالصياغة: دراسات في الأدب العربيّ، ص169 - ، ويجعله كذلك من اللفظيين مصطفى هدارة: مشكلة السرقات في النقد، ص 222 -. وعلى كل، فإني اعتبر تقسيم نقاد العربيّ القدامى إلى أنصار لفظ وأنصار معنى؛ ضرباً من التزيُّد والوهم، وأن عبد القاهر الجرجاني قبل اليوم أوضح القضية بما فيه الكفاية.
5 - تنظر تتمة القول في رسالته في الجد والهزل، ص262 -   - والآية من سورة البقرة:31.
6 -   البيان والتبيين: 1/383.                           7 - الحيوان:4/90.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق