الجمعة، 11 يناير 2019


من حوار معي في مجلة ( البلاغة وتحليل الخطاب):
سؤال:
إن احتفاءكم بكل ما هو تراثيّ ومعه البلاغة والنقد، نجده مشدوداً بسؤال مركزيّ مهيمن هو سؤال التأصيل، فما المقصود بهذا المصطلح؟ ولماذا هذا الاهتمام الكبير بالتراث العربي، تحقيقاً ودراسةً وتأليفاً؟
جواب:
إني أنتمي إلى تراث ارتبط بدينٍ واحتفَّ به، وتخَلَّقَ منه وجود حضاريّ؛ هو مستودَع حضارة الإسلام عقيدةً ولغةً وفكراً. وصار هذا التراث بمثابة جيناتٍ وراثيةً بها يُعرف من له انتماء إلى تلك الحضارة، وباستلهام روحها يتطوّر في الوجود، فتصبح هُويَّته مشروطة بوجوده، وتصبح تلك الهُوية هي مكمَن القوة فيه. فلا عجب أن يكون السعي إلى إطفاء جذوته، ويكون في معترك عصرنا من يسعى إلى بعثه برؤية إبداعية خلاَّقة، نابعة من حاضر هذا الزمن، متَّسقة مع أحداثه وما جدَّ فيه. [ولي كتيِّب مهيَّأ للنشر بعنوان: "تراثنا في مسار التحديات"].
ومن أعجب وأغرب ما شاع وذاع؛ دعوة بعضهم إلى الانقطاع عن العمل بالتراث. وهبه انقطع، وكان بإمكانه إحداث قطيعة مع موروثه إن وُجد،  وتقطَّعت أسبابه بأسباب التراث؛ فما تكون هويتُه، وكينونتُه ووجهتُه؟ هل يمكن أن يفر من قدره في وجوده، وإن أرد الانسلاخ عنه؟ إن هذا الموروث هو الذي يحدِّد معنى لوجوده؛ إذ هو الموجِّه لحركته في الحياة، والمؤثر في حاضره ومستقبله. إن هذا التراث، كما قلت، تخلَّق من دين إلهي، اتَّسعت مجالات النظر في ضوئه باتساع التحديات التي واكبته على امتداد تاريخه الطويل؛ فتشكَّل من كل ذلك تراث الإسلام؛ أي ما خلَّفته العقول في التفاعل معه: إيماناً وسلوكاً وفهماً وشرحا وتأويلا...

أمّا المراد بالتأصيل فهو الرغبة في الدفاع عن أصل لنا في هذا الوجود، وإثبات كينونة حضارية لها مقوماتها المستمدّة من الدين الخاتم؛ الذي استوعب ما سبق من ديانات، ووضع نقطة الختم للتجربة البشرية على الأرض. فالتأصيل دعوة إلى إثبات القيم التي  تأسّس عليها الوجود الحضاري لأمة الإسلام وإلى الإيمان بدورها، وضرورة التشبث بها.
 التأصيل وقفة وجودية في مواجهة محاولات تشويه التراث الإسلامي وجعله وريثا لثقافة وجَّهت فكرنا في القديم والحديث على السواء. ودعاوى القطيعة والانقطاع عن التراث؛ هي دعاوى الاستشراق في اعتبار الإسلام ظاهرة تاريخيّة، ظهرت في العصر الوسيط بمفهومه الأوربي، ثم انتهت.
 فالمراد بالتأصيل دعوة إلى الإيمان بهوية يتشكَّل منها الأصل للكيان  العقدي والحضور الفكري واللغوي في مواجهة محاولات القضاء على تلك الكينونة التي حدّدها الدين الإسلامي.  وواضح أن محاولات الانقطاع عن العمل بالتراث؛ هو ما أسهم في تشويه كينونة الأمة وتفتيتها اليوم.
          فالتأصيل عندي دعوة لاستلهام روح الصمود التي كان عليها الفكر الإسلامي في القديم، وما تميز به من قدرة في دفاعه عن الكينونة الإسلامية في قدرتها على التفاعل؛ دون أن تفقد مقومات وجودها. ولا يختلف عندي مفهوم التأصيل عن المثاقفة؛ إلا حين تصبح المثاقفة استنساخاً لأقوال الآخر، وتبعية عمياء لآرائه وفكره، وطموحاً للتماهي مع تجربته في الحياة إلى حدّ الذوبان دون شعور منه بالكيان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق