الأربعاء، 11 سبتمبر 2019


عندما انحرفت مسألة التأثر والتأثير عن مسارها الحضاريّ

عباس ارحيلة

أهم حدث في حياة العرب في العصر الحديث هو ذلك الصدام بالحضارة الغربية، وما كان لها من تأثير عميق في حياتهم، صدام كشف عن عمق الهوة بين الوجود الحضاري للعرب وما آلت إليه حضارة الغرب الحديث. ومع قوة ذلك الصدام تأكدت أهمية الحوار باعتباره شرطا من شروط التعايش بين الشعوب، ويكون الحوار بين الثقافات هو المنطلق.
فلا ينكر أحد أنَّ التُّراث الإنسانيّ هو حصيلة إنجازات بشريّة في التاريخ، كما لا ينكر أحد ظاهرة التشابك بين الحضارات، قال الله تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
وليس هناك حواجز بين أفكار البشر، فالأفكار تنتقل بين سكان المعمور، تتشكَّل، وتتلاقح؛ تُنْخَل وتُصَفَّى حسب المتفاعلين معها. فيبقى منها ما ينفعُ الناس، وما يمكث في الأرض.
فلا وجود لذات لا تتأثَّرُ ولا تُؤَثِّرُ. وليست الأمَّة الإسلاميّة بِدْعاً بين الأمم؛ إذْ لم تعِشْ وحدها على الأرض؛ بل إنها دخلت في أضخم حوار مع ما تبقَّى مع مِلَلِ الشعوب ونِحَلِهَا وثقافاتِها. وكم أذابت ثقافة المسلمين من نِحَلٍ قديمة، وفِرَقٍ كلاميّةٍ متصاعدةٍ في المراحل الأولى من تاريخ الإسلام!!
كانت بحوث المستشرقين واقعة تحت تأثير المركزية الأوربيّة، وأغلبها يرى أنَّ دَوْرَ حضارة المسلمين لم يتعدَّ المحافظة على التراث اليونانيّ، وأنه كان حَلْقَة وصل بين اليونان وأوربا.
 وغايته التشكيك في مدى أصالة الحضارة الإسلاميّة، وإقصاء دورها الإنساني العالمي حتى تتقبَّل النفوس الحضارةَ الغربيّةَ الحديثة وتفقد كل مناعة للدفاع عن خصوصيتها وهُوِيَّتِها وأصالتها.
فالهدف البعيد هو تهيئ نفوس المسلمين لتقبُّل الحضارة الغربيّة والتماهي معها. وإنشاءُ تخاذل وإيجادُ شعور بالنَّقص في نفوسهم بهدف جعلهم يذوبون في الحداثة الغربيّة، ويتلاشَوْن في كياناتها؛ فيلحقهم المسخ لهُوِيَّتهم ووجودهم. ألا يكون حالُنا اليوم هو ما تحقَّق من تلك المقاصد والغايات؟
عملية التأثر والتأثير ترتبط بشروط التطوُّر الحضاريّ، بالوقوف على ما حقَّقه السابق من منجزات، وما تلقَّاه اللاحق فأفاد منه، وبذلك تتحدَّد المعالم الكبرى في تاريخ الأفكار، وتتَّضح مظاهر التقليد والاقتباس أو التأثر، أو المثاقفة... ويبرز عنصرا العبقرية والأصالة في تاريخ الأمم والشعوب.
التفاعلُ حقيقةٌ مقرَّرةٌ في قانون الحضارات، لكن كيفيَّات التَّفاعل في حاجة إلى الضبط والتَّدقيق والموضوعيّة والنزاهة الفكريّة. وعموماً، يمكن القول إنّ مقولة التأثير زادت حدَّتها بوقوع العالم الإسلاميّ في العصور الحديثة، تحت هيمنة الغرب ذي الجذور اليونانيّة، وتطلُّع ذلك العالم أن تكون له مكانة تحت الشمس، أن يقاوم الهيمنة، ويتحرَّر من الاستغلال، وأن يقول كلمتَه لشعوب الأرض.
لا يمكننا اليوم أن نتحدث عن تأثُّرِنا بالحضارة الغربيّة؛ إذ أصبحت توجه أفكارنا وميولنا، وتسكنُ حياتنا وأذواقنا، وتتسـرَّبُ من الهواء الذي نستنشقه، بل إن الغرب فرض في هذا المسار أفكارَه وتقنياتِه ومناهجَه وتصوراتِه في مجالات المعرفة.
إنَّ المركزيّة الأوربيّة عندما وجدت عناء في إخضاع العالم الإسلاميّ لهيمنتها، ووجدتْ أنَّ الموضوعيَّة لم تنسِها روحَها الصليبيّة؛ حاولتْ أن تشكِّك المسلمين في حضارتهم، وتوهِمَهم أنّ ثقافتهم في الماضي لم تكن إلى نسخة من ثقافة اليونان، حتى تتقبَّل النفوس الحضارةَ الغربيّةَ الحديثة وتفقد كل مناعة للدفاع عن خصوصيتها وهُوِيَّتِها وأصالتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق