الثلاثاء، 15 سبتمبر 2015

المستشرقون وكتاب الأغاني ( جانب التوثيق)[1]



عباس أٍحيلة
تمهيد:
أدرك المستشرقون أهمية كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني المتوفى بعد سنة 362هـ، واعتبروه من أمَّهات المصادر العربيَّة التي لا يمكن الاستغناء عنها في مجالات البحوث التراثية لدراسة العقلية العربيّة في المراحل الأولى من تاريخ العرب والمسلمين، وأخبرت كتب التراجم عن تداول الكتاب في المحافل العلمية، وحرص الملوك والأمراء على اقتنائه، وخاصة أثناء القرن الرابع للهجرة. فطار الكتاب بين حلب والأندلس وبغداد وبلاد فارس، وحظي بعناية خاصة عند البويهيِّين، حتى تمنى عضد الدولة البويهي أن يجعله تميمة.
        وطبيعة الكتاب كما أعرب عنها أبو الفرج في مقدمته «رونق يروق الناظر ويُلهي السامع»[2]. فالكتاب يروق النظر ويُبهجه بما يجري في القصور والمجلس والمتنزهات وما عليه المآكل والمشارب وما تنقله آلات الطرب... فالكتاب متعة للنظر حين يسرح في مظاهر الملذات. والكتاب يُلهي السامع بما اشتمل عليه من ألحان وإيقاعات، كما يُلهيه بفوائده وطرائفه ومُلحه وقصصه؛ خاصة أن أبا الفرج أشبع نهمه من المجون واللهو والهزل، واختار الجوانب الشاذة من حياة الذين ترجم لهم من الشعراء والمغنين.
        ولما كان المستشرقون يسعون إلى إدراك حقيقة الشرق في ماضيه وحاضره، وإلى التعرف على الشخصية العربيّة بميولها واهتماماته ورواسبها؛ كان الاهتمام بكتاب الأغاني بحمولته التاريخيَّة والإخباريّة والأدبيّة؛ فجعلوا منه مصدرا معتمدا في تقويم التجربة الحضاريّة للعرب والمسلمين، من العصر الجاهلي إلى الثلث الأخير من القرن الهجري الثالث؛ مما حدا بالمستشرق الألماني كارل بروكلمان Carl Brockelmann (1868 - 1956م) أن يقول:« ونحن ندين له بمعرفة أخبارهم»[3](2)؛ أي أخبار العرب.
        فماذا عن جهود المستشرقين في توثيق الكتاب ونشره؟
أولا: ظهور أول قطعة من كتاب الأغاني
        ظهر أول جزء من كتاب الأغاني في عالم المطبوعات مع ترجمة باللغة اللاتينية سنة 1840م، وقد قام بإخراج هذا الجزء المستشرق الألماني كوزجاتن ( J.L. Kosegaten : 1792 – 1852م)، وإلى جانب تحقيق النص مع ترجمة للاتينية زوَّدَ الكتاب بتعليقات، ونشر الكتاب بألمانيا في مدينة جريسفالد ( Greiswald ) سنة 1840م. وذكر الباحثون الذين اطلعوا على هذا المطبوع أن جاء مضبوطا الشكل التام في  238 صفحة، ولم يتجاوز الصفحات المطبوعة 152 صفحة من الجزء المطبوع لاحقا بمطبعة بولاق. وظل عمل كوزجاتن في حكم المخطوط، لا يطلع عليه إلا قلة من الأخصّاء، وطائفة من المستشرقين، ولم تظهر آثارٌ لهذه الطبعة في التحقيقات اللاحقة للكتاب، ولكن يُذكر له أن حقَّق كتاب (تاريخ الطبري) مع ترجمة لاتينية بين 1931 و 1853م.
                ثانيا: يُطبع الكتاب بالقاهرة ويكمله مستشرق أمريكي
        طُبع كتاب الأغاني أول مرة، بمطبعة بولاق في عشرين جزءاً سنة 1285هـ/1868م، وسهر على إخراجه مصححون مَهَرَة لم يُنصفهم التاريخ.
        وجاء المستشرق الأمريكي رودولف برونو ( R.Bronow )، فأضاف الجزء الواحد والعشرين سنة 1305هـ/1888م بمدينة ليون الهولاندية. وتبيّن بعد التحري أن هذا الجزء الذي أضافه برونو هو عبارة عن زيادات وجدها في نسخ مخطوطة بمكتبات برلين وغيرها عند مقابلته لنسخة طبعة بولاق بالأصول المخطوطة. ولعل الأصل الذي اعتمده المصححون بمطبعة بولاق كان ناقصا أو مخروما، وفي الطبعات اللاحقة وضعت تلك الزيادات في مواضعها في الأجزاء.
ثالثا: فيلهاوزن يملأ الفراغ الموجود في المجلد 14
        وعني المستشرق الألماني يوليون فيلهاوزن ( Welhausen:1844 – 1918م ) بملء الفراغ الذي كان في المجلد 14 من المخطوط المحفوظ بميونيخ تحت رقم 470، وذلك سنة 1896م، وإلى جانب ما لاحظه المحققون من خلل واضطراب في بعض النسخ، نجد ياقوتا الحموي المتوفى سنة 626هـ قد أحس بسقوط شيء من الكتاب فقال في (معجم الأدباء): « فطالعته مرارا، وكتبتُ منه نسخة بخطي في عشر مجلدات، ونقلت منه إلى كتابي الموسوم بـ (أخبار الشعراء)، فوجدتُه يَعِدُ بشيء ولا يفي به في غير موضع منه، وما أظن إلا أن الكتاب سقط منه شيءٌ، أو يكون النسيان قد غلب عليه»[4].
رابعا: جويدي يضع فهارس كتاب الأغاني
        وتولى المستشرق الإيطالي إجنتيو جويدي ( Guidi :1844 – 1935م) مع نفر من المستشرقين وضْعَ فهارس وافية لكتاب الأغاني، ظهرت باللغة الفرنسية بمدينة ليدن الهولاندية سنة 1318هـ/1900م، في مجلد ضخم بعنوان: اللوحات الأبجدية لكتاب الأغاني (Tables alphabétiques du Kitab Al-Agani par I.GuidiLeide 1895 – 1900 ).
        ويشتمل هذا العمل على أربعة فهارس: الأول في أسماء الشعراء، والثاني في القوافي، والثالث في أسماء الرجال والنساء والقبائل وغيرها، والرابع في أسماء الأمكنة والجبال والمياه.
        ووضْعُ الفهارس أعان عليه ظهورُ المطابع، وعُني به المستشرقون عناية خاصة، وتميزت به مطبوعاتهم، وتفننوا في وضعها، وصارت مفاتيح للكتب، كما ساهمت في تحقيق النصوص عامة وضبطها ومقارنتها.
خامسا: طبعة الساسي، وإضافة برونو والفهارس
        وطبع كتاب الأغاني طبعته الثانية سنة 1323هـ/1905م بنفقة الحاج محمد أفندي الساسي التونسي ( ويرمز لها عادة بطبعة ساسي)، وأضافت هذه الطبعة الجزء الواحد والعشرين الذي أنجزه المستشرق الأمريكيّ برونو، وتمت ترجمة الفهارس التي وضعها المستشرقون تحت إشراف جويدي.
سادسا: ريتر يكتب عن مخطوطات الأغاني
وكتب هلموت ريتر (Helmut Ritter :1892 – 1971م) المستشرق الألمانيّ عن مخطوطات الأغاني في مجلة Oriens سنة 1949م، وقد كان مكلفا في إستانبول ما بين 1927 و1949 تحقيق المخطوطات العربيّة والفارسيّة ونشرها، وذلك من طرف الجمعية الشرقيّة الألمانيّة.
سابعا: أبو الفرج في دائرة المعارف الإسلامية
         دائرة المعارف الإسلاميّة التي وضعها أعلام المستشرقين خصصتْ لصاحب الأغاني ترجمتيْن؛ أولهما وضعها الألماني بروكلمان ( 1868 – 1956م)، وقال فيها عن كتاب الأغاني:« إنه لا يُعتبر أهم مرجع للتاريخ الأدبي إلى القرن الهجري الثالث فحسب، بل يعتبر أيضا أهم مصدر لتاريخ الحضارة»[5]. وأشار بروكلمان في هوامشه إلى بعض جهود المستشرقين في خدمة كتاب الأغاني.
        والتعريف الثاني بصاحب الأغاني وضعه المستشرق نالهو ( Nalho)، وقد اعتبر كتابَ الأغاني معرضاً للحضارة العربيّة جمعاء من الجاهلية إلى نهاية القرن الهجري الثالث، ومصدرا زاخرا بتفصيلات كثيرة عن القبائل العربيّة وأيامها وحياتها الاجتماعيّة، وحياة البلاط في عهد الأمويين، وحال المجتمع أيام العباسيين. ولاحظ هذا المستشرق أن الاستشهادات الواردة في كتاب الأغاني، والفقرات الطويلة من المؤلفات السابقة له والتي لم تصلنا؛ تجعل من الكتاب مرجعا أيضا لتطور الأسلوب العربي[6].
ثامنا: كتاب الأغاني مصدر في تاريخ الموسيقى العربيّة
        وقد اعتمد المستشرق الإنجليزي فارمر ( H.G.Farmer ) كتاب الأغاني في كتابه (تاريخ الموسيقى العربية)، وعدَّه كتابا من الطراز الأول في الإنتاج الأدبيّ للعرب، وذكر أن المرء يشعر بالخجل وهو يتحدث في أيامنا عن الأدب الموسيقي.
        وفي خاتمة هذه الكلمة أقول إن الكتاب تعددت تحقيقاته، وأخذ حجمه الحقيقي في الثقافة العربية في العصور الحديثة بفضل الدراسات المتعددة التي تناولته، وبفضل معرفة الباحثين العرب بخلفيات الاستشراق ومناهجه في دراسة التراث الإسلامي العربي.




[1]  نشر هذا المقال بمجلة جذور، دورية تعنى بالتراث وقضاياه، النادي الأدبي الثقافي بجدة، العدد الخامس ذو الحجة 1421هـ/ مارس 2001م، ص201 – 208.
[2] الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني – ط4 [ بيروت، دار الثقافة، 1978م):1/2.

[3] تاريخ الأدب العربي: بروكلمان، ترجمة عبد الحليم النجار – ط4 [ القاهرة، دار المعارف، د.ت]:3/68

[4]  معجم الأدباء: ياقوت الحموي، تحقيق: د. إحسان عباس – ط1[ بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1993]:4/1708.

[5]  دائرة المعارف الإسلامية أصدرها بالألمانيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة جماعة من المستشرقين، نقلها إلى العربية عبد الحميد يونس وزملاؤه – ط1 [ القاهرة، 1933م]:1/570.
[6]  المصدر السابق:1/571.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق