السبت، 12 سبتمبر 2015

مشروع د. أحمد شحلان ومعترك الرُّشديَّات


مشروع د. أحمد شحلان ومعترك الرُّشديَّات

( كلمة بمناسبة تكريمه بكلية اللغة العربيّة بمراكش)
                                                      
                                                                                         عباس أرحيلة

تمهيد في ملاحظات:
أولا: د. أحمد شحلان صاحب مسار علميّ واضح المعالم، ذهب في بعثة دراسية إلى السربون ليتعلَّم اللغة العبرية ويتخصَّص في تدريسها؛ فإذا هو بواسطتها وعن طريقها يدخل في تخوم معرفية بعيدة الأغوار، وتنفتح بها أمامه آفاق واسعة في مجالات الفكر والتحقيق والترجمة، وإذا هو يتخذها معبراً للفكر العبريّ عامة وللفكر الفلسفيّ خاصة، وللفكر الرشديّ بشكل أخص. وأتبتَ من خلال ذلك أنَّ الثَّقافة العبريّة كانت هي الوسيط الحضاريّ (الفكريّ الفلسفيّ) بين الشرق والغرب في مرتكز النهضة الأوربيّة.
ثانيا: اخترق د. أحمد شحلان الحرف العبريّ، فأطل من خلاله على تراث حَجَبَه ذلك الحرفُ عن أعين الباحثين العرب، وعن كثير من مؤرخي الفلسفة، وعن الرشديِّين عامة ممن لم يطلعوا على النصوص الرشديّة المكتوبة بالحرف العبريّ، وما تختزنه من شروح عبريّة؛ وخاصة لما عثر على (كتاب النفس) لأرسطو بتلخيص ابن رشد مكتوبا باللغة العبريَّة، دون أن يكون له وجود باللغة العربيّة. وهكذا اكتشف من خلال الحرف العبريّ موسوعة ثقافيَّة تدعو إلى إعادة النظر في التراث العربيّ العبريّ في تكامله وتفاعله.
ثالثا: عَبْر ابن رشد ( 520 – 595ه/1126 – 1198م) عاد الفكر العبريّ إلى الحضور في الفكر الفلسفيّ الأوربيّ، وساعدت هذه العودة على انطلاقة الفلسفة في المناخ الأوربيّ في العصر الوسيط، فحصل التقارب بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام على مستوى الفضاء الفكريّ، ثم عرفت الرُّشديَّة أبعاداً أخرى في العصور الحديثة. وقد عرفت أوربا أعمال ابن رشد في النصف الأول من ق13م، وبلغت أوجها في ق14م،  ومنذ عصر النَّهضة توالت طبعات كتب أرسطو مرفقة بشروح ابن رشد، بعد مقابلة أكثرها على أكثر الأصول اليونانيّة.
فكان مشروع د. أحمد شحلان يروم الوقوف عند ابن رشد وتتبع آثاره في المجتمعات الثلاثة: المجتمع الإسلاميّ واليهوديّ واللاتينيّ المسيحيّ.
وهذه كلمة عن أطروحته العلميّة (ابن رشد والفكر العبريّ الوسيط، فِعْلُ الثقافة العربيّة الإسلاميّة في الفكر العبريّ اليهوديّ) – ط1، 1999م، وقد أقامها على محوريْن؛
أولهما: الفكر اليهوديّ والتراث المكتوب بالحرف العبريّ.
وثانيها: ابن رشد وأزمة الفكر في العصر الوسيط.
المبحث الأول: مع مشروع د. أحمد شحلان
أولا:  طبيعة المشروع
1 - مشروع يُعيد النظر في فكر ابن رشد وما أطلق عليه مصطلح الرُّشديَّة من خلال النصوص المنشورة في العربيّة والعبريّة واللاتينيّة، وفي ضوء التَّرجمات وكل ما كتب عن ابن رشد. فهو مشروع يراجع منطلقات الأفكار والفلسفات فيما سمِّيَ بالعصر الوسيط، ويسعى أن يغيِّر بعض المعالم في تاريخ الفلسفة؛ باعتماد ما أطمره الحرف العبريّ من حقائق ومعلومات. وقد لاحظ د. أحمد شحلان أنَّ الفكر اليهوديّ أضحى « واسطة بين الفلسفة العربيَّة، والأرسطيّة منها على الخصوص، والفكر اللاّتيني، عن طريق الشرح والترجمة والتبنّي» [1/22][1].
فأراد مراجعة هذا الشرح وهذه الترجمة وهذا التبنّي؛ فأخذ العدَّة للتصحيح والتقويم والتنقيب عن طريق  الفقه اللغويّ، وعن طريق التقصّي والقياس والمماثلة والمقارنة، وسعى لتركيب نصوص ضاعت أصولها وبقيت ترجماتها، وقال: « وقد رَكِبْنا هذا المركب الفقه/لغويّ لوضع لبنة من لبنات الإعادة هذه (...) حيث تكشَّفتْ بعض الأخطاء، وبعض سبل الأخطاء، وتمّ التمهيد لوضع خطة تلمّ شتات المتفرق وتُصيغ المنساب المنهمل»[ 1/22 – 23].
2 – فهو مشروع يقوم بحفريات فيما بذله اليهود من جهود في أداء دور الوسيط الثقافيّ الفكريّ في الأندلس بين التراث العربيّ الإسلاميّ والتراث العبريّ فالأوربيّ عن طريق الدِّراسة والتَّرجمة. في لحظة اصطدم فيها الشرق بالغرب في الحروب الصليبيّة. فكان من مقاصده رَصْدُ آثار الحضارة الإسلامية في التراث الأوربيّ، وتصحيحُ مقولة جهل الثقافة الإسلاميّة بحقيقة الثقافة الهلّينيَّة، ورَدُّ ادعاء الخضوع لها، ووقوعها في الذيليّة لها.
3 - مشروع ذو طبيعة موسوعيّة، فقد ذكر في مقدمة أطروحتة أن الحظ أسعفه فتتلمذ للأستاذ (جورج فاجدا)[2]، لمدة ست سنوات، وهو كما يقول مرجعٌ وعلامة في تاريخ الفكر اليهوديّ، وله إلمام كبير بالفكر الإسلامي، فاطلع من خلاله على كل المذاهب اليهوديّة قرائيّة ورِبيّة، بعد أن حثَّه « على اكتشاف سرّ اللغة الآراميّة والسريانيّة، والتسلُّح بمناهج النقد التوراتيّ المرتكِز على قواعد فقه اللغة الساميّ المشترك». وقال: « كان المنهج الذي اختاره الأستاذ فايدا منهجاً موسوعياً أشعرني، من غير وعي منّي، بأهمية التعريف بهذا الإرث العربيّ – العبريّ المفيد، الذي هو جزء من فكرنا وثقافتنا، على الرغم من أنَّ غرابة الحرف واللغة اللذين كُتب بهما؛ حجبتْه عن أعين الباحثين من أهل لغتي»[1/11 – 12].
4 – مشروع يتقاطع فيه صدام الإسلام مع الديانتَيْن اليهوديّة والمسيحيّة، مع عجز أهلهما عن الاعتراف بهيمنة الدين الخاتم والحقد على أصحابه؛ مع ما بين اليهود والنصارى من عداء راسخ مستحكم ﴿وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب﴾[ البقرة:113]؛ عداء حوّله اليهود عبر التاريخ إلى أن تتولّى الدول النصرانيّة إقامة وطن قوميّ لليهود في القرن العشرين.
5 - مشروع وجد في أعمال ابن رشد وجوه التلاقي بين الثقافة الإسلاميّة والفكر العبريّ فالفكر الأوربي، فامتزجت في الرُّشديَّة القضايا الدينيّة بالفلسفات وما حملته من يونانيّات وإسلاميّات وعقليّات وكلاميّات. ومن هنا انصهرت في هذا المشروع قضايا اللغات العروبيّة (الساميّة) وبجانبها قضايا الترجمة، وكل ذلك في محفل القضايا الكلاميّة والعَقَديّة والفلسفيّة. 
6 – مشروع أراد به صاحبه أن يمنح الثقافة الإسلامية، حين امتزجت بالتراث العبريّ والتراث الأوربيّ؛ بُعداً إنسانيّاً تلتقي فيه الديّانات والفلسفات، وتمتزج فيه الروحانيّات بالعقليّات. وتُطل من خلاله مواجهة الفلسفة لظاهرة الوحي في (الديانات الثلاث) في أُفق التوفيق بين العقل والنقل.
7 – مشروع لا يسعه زمن ما آل إليه حال البحث العلميّ في ديارنا اليوم، وكأني بصاحبه يريد أن يقتحم المستحيل ويأتي بما لم تأت به الأوائل. وإني أراه قد أصبح يسائل نفسه هل سيأتي من بني جلدته وتلامذته من يتمم هذا المشروع في ضوء ما فتحه من آفاق، وبسبب ما لهذا المشروع من امتدادات!
ثانيا: من مميزات المشروع

1  - بُعْدُه الإنسانيّ إذ ظل شعاره العلميّ: التعارف. ووجد د. أحمد شحلان أن وسيلته هي اللغة، ولاحظ أن المآسي البشرية التي تسببت فيها الحروب كان السبب فيها غياب اللغة التي تقرب شقة الخلاف بين المتنازعِين، وتعبر عما تجيش به الصدور. يقول: « الأصل في اللغة الوحدة، والطارئ على أصولها التعدُّد. الوحدة في اللغة أس القوة الإنسانيّة مذ كانت ومنذ فجر تاريخها... ومنذ تبلبلت الألسن انقطع حبل التواصل البشريّ، واشتعلت الحروب»[3].
2 – نُشدان الحقيقة والتذكير بما تقرر من حقائق؛ فصاحب المشروع يقول في حديثه عن أهمية وضع معجم شامل للعربية، يتحقق به التعارف مع العالم: « فعلومنا كانت أساس النهضة الحديثة، ولغتنا قادرة على متابعة المسير من جديد. إننا لا نتغنَّى بالأمجاد، ولكننا نُذَكِّر بالحقائق»[4].
3 – مشروع تفرد في الجامعة المغربيّة لا بالكشف عن التراث العبريّ فحسب، بل بالتأريخ للفكر العلميّ العبريّ في تفاعله مع الفكر العربيّ الإسلاميّ، وإسهام الغرب الإسلاميّ في بلورة رؤية عبرانيّة.
4 – مشروع أقامه د. أحمد شحلان على اطلاعه الواسع على مخطوطات التراث العبريّ في المكتبات الأوربيّة؛ قراءةً وتوثيقاً، مع تسلحه بمناهج التحقيق والتأريخ للفكر العبريّ والمقارنة والترجمة ومراجعة كثير مما تقرَّر في دراسات السابقين، وإعادة النظر في كل ذلك في ضوء الدراسات المعاصرة. هذا إلى جانب الوقوف على أهم ما كُتب حوله من بحوث ودراسات.
فالمشروع عبارة عن خطَّة محكمة لإرجاع النصّ المفقود الأصل إلى لغته التي حرَّره بها ابن رشد، كما يقول.
5 – كما أقام مشروعه على إحساس قويّ بضرورة إعادة النظر في أعمال المستشرقين، والدعوة إلى أن تقوم الجامعات العربية الإسلامية « بإعادة قراءة هذا الإرث للتنويه بجميله وتصحيح مسار من زلّت به القدم في مسالك المعرفة»[5].
6 –  ومما تميَّز به المشروع أن صاحبه أصبح أحد المؤسسين البارزين للبحث الشرقيّ بالجامعة المغربيّة، بل أضحى من انتهى إليه القيام بفتح آفاق للبحث في مجالات التراث العبريّ، بالنظر  إلى جهوده في القراءة والتحقيق والدراسة والمقارنة في ضوء تفاعلات التراث العبري باللغات العروبيّة (الساميّة).

ثالثا: من معاناة صاحب هذا المشروع

1 – معاناته في التعريف بالإرث العربيّ – العبريّ الذي حجبته العبريّة عن أعين الباحثين العرب. فقد عانى من قراءة هذا الإرث بدءاً بالبحث عن أهم نصوصه، فنقله إلى الحرف العربيّ مدراسةً وتحقيقاً.
يقول: « وقفنا عند مائة وثمان وتسعين مخطوطة عبريّة وقوفا طويلا، فدرسنا محتواها ووقفنا عند مكوِّناتها الماديّة وظروف كتابتها ونُسّاخها ومقتنيها، بل ألمحنا إلى رحلة بعض هذه المخطوطات. وقد مكنتنا هذه العملية من التأريخ للحركة الفكريّة اليهوديّة إبداعاً وصراعاتٍ وجدلاً لفترة شملت خمسة قرون من الزمان» [1/13 – 14].
وبقراءته لشراح ابن رشد من اليهود؛ عرف الباحث الضائع من أخبار ابن رشد ومؤلفاته، وتم الإفصاح عن فترة مجهولة، عُرف فيها الصراع الفكريّ في الغرب الإسلاميّ.
2 -  رغبة دائمة تؤرقه أن تنفتح الجامعات « على الدِّراسات الشرقيّة في مفهوما الواسع وبعدها الشَّاسع»[6]؛ وأن تقوم بدور الكشف عن الوضع المعجميّ في العصر الوسيط، وعن تفاعلات اللغات العروبيّة (الساميّة) مع اللغة العربية في لغويّاتها ومعجميّاتها، إلى جانب قضايا التعريب والمصطلحات، مع حرصه على أن تحتفظ العربيّة بمقوماتها الشخصيّة.
3 – إحساسه بسوء الفهم وسوء النيَّة داخل الحرم الجامعي، إزاء مشروعه العلميّ؛ فمما قاله عن معاناته في تحقيق مشروعه: «هموم كثيرة شغلتنا على مدى مسيرتنا العلمية في الجامعة، وتُقِضُّ المضجعَ اليوم، ونحن نلتفت خلفنا لنرى سراب الخَلْف، وما أقساه لأنه يلوي العنق، ولأنه تضمن سوء فهم، أو سوء نيّة، أو هما معا؛ صدرا من أناس كان من المفروض أن تهذب فيهم روح الجامعة سلوك الإنسان، فأخَّروا المسيرة، وكنا أردنا أن تكون أسرع وأجود. سامحهم الله» [1/10].
4 – ومما تعرض له مشروعه في لحظة من مساره، أنه تم رفضه ضمن الوحدة التي اقترحها في إطار نظام الوحدات، وقد اختار لها عنوان (الأدب العبريّ في الغرب الإسلاميّ) ، بعد أن قدم في شأنها تصورا متكاملا؛ أبرز فيه أهداف الوحدة وشروط إنجازها، كما أعد لها برنامجها التفصيليّ. وكانت غايته أن يقدم التراث العبريّ باعتباره امتدادا للتراث المغربيّ من جهة، والاهتمام بحلقة أساسية ربطت بين الفكر العربيّ الإسلاميّ والفكر الغربيّ؛ «فحَكم على المشروع مَن لا علاقة له به حكماً مسبَقاً، وهو أبعد ما يكون عن الأعراف الجامعيّة البسيطة التي تُرجع الأمور إلى أهلها»[7].
5 - لم تُثنه عقبات الطريق عن مكابدة السير، فلم يتوقف أو يتراجع، بل كان هو المشارك في أغلب الندوات الجامعيّة. بهدوئه، وصبره، وصفاء طويته، وتسامحه، وعمله الدائب، وقدرته على الإقناع والإفصاح؛ كان صاحب رأي، وصاحب موقف، وكانت له مشاركات في قضايا دقيقة، أبان فيها عن باحث مقتنع بمشروعه، صادقٌ فيما يراه، وكانت له فتوحات في مجالات لم تطرق من قبل؛ بكل ذلك حقَّق أرقى مكانة في تخصُّصه، وصار فيه معلمة مغربية بارزة، وأصبح محط نظر من لدن الجامعات البارزة في العالم.
المبحث الثاني:  د. أحمد شحلان في معترك الرُّشديَّات
أولا: ظاهرة الرُّشدية في الفكر الفلسفيّ

1 - هيمن ابن رشد على القرن الهجريّ السادس، الثاني عشر الميلاديّ في الغرب الإسلاميّ، في لحظة اتخذت فيها دولة الموحدين وجهة عقلانيّة؛ فعبد المومن (487 – 558ه/1094 – 1163م) يُسند مهمّة إصلاح التعليم إلى ابن رشد سنة (1152م)، وأبو يعقوب يوسف (1162 – 1184م)، يسند إليه مهمة شرح كتب أرسطو، أما أبو يوسف يعقوب (1184 – 1199م) فيثيره الفقهاء عليه، ويتمّ أحراق كتب الفلاسفة، وإبعاد كل من يتكلم في شيء من هذه العلوم.
ولعلَّ من أسباب ذلك أن ابن رشد تبنّى منهجا عقليا في فهم الإسلام وتأويل الوحي، وقدم ما اعتبره حلا لإشكال النقل والعقل عن طريق البرهان. وبسعيه إلى عقلنة ظاهرة الوحي؛ وجد نفسه، داخل مناخه الخاص، في مواجهة ثلاث جبهات: فلاسفة الشرق، المتكلمون والأشاعرة، والفقهاء.
وفي المناخ العام وجد نفسه وسيطاً تاريخيّا بين ثلاث طوائف دينيّة: اليهود والمسيحيون والمسلمون. وفي ضوء ذلك دخلت فلسفة ابن رشد إلى أوربا لتشكِّل معلماً من معالم تطوُّر الفكر الإنسانيّ.
2 - اكتشاف الرشدية في الثقافة العبريّة: اكتشف د. أحمد شحلان جهود ابن رشد الحفيد في التراث العبريّ من خلال شروح لباحثين ومترجمين يهود لنصوصه.
وقد ذكر في (ندوة ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلاميّ) سنة 1978م أنَّ الفلاسفة والمترجمين اليهود قد حافظوا على الكثير من آثار هذا الفيلسوف؛« وذلك إما بترجمتهم آثاره إلى العبريّة أو بنقلها إلى حروف عبريّة؛ وقد كانت هذه العملية خيراً في ذاتها، ولكنها أيضا كانت سجناً منغلق الأبواب متين التحصين على من لا يقرأ هذه الحروف (...) ومن بين هذه الأعمال (تلخيص كتاب النفس لأرسطوطاليس) لابن رشد»[8].
واتضح له أنَّ ابن رشد كان المحطة الفكريَّة التي تقاسمها الفكر اليهود والفكر اللاتينيّ، وقال: « وشعرت أن الفهم العميق لهذه الحركة لا يمكن أن يتأتى إلا بالوقوف عند هذا الرجل وتتبع آثاره في المجتمعات الثلاثة: المجتمع الإسلاميّ واليهوديّ واللاتينيّ المسيحيّ»[1/12].
 3 – حضور قويّ ومثير لابن رشد لدى اليهود واللاّتين في العصر الوسيط الأوربيّ: احتلَّت فلسفة ابن رشد وأعماله مكانة خاصة في تفكير اليهود واللاّتين عامة، ولاحظ د. أحمد شحلان: « أن مؤلفاته أصبحت ربيبة للتوراة لدى اليهود، وأصبحت مرتكز التفكير والبحث والنقد عند اللاتين، في حين دثَّرها نسيان غامض عند المتأدبة والمفكرين من أعلام بني جلدته». وقال: « فأخذتني الحيرة في هذا الأمر، فبمقدار ما كان الرجل عظيما في فكره وتفتحه وإنسانيَّته، بمقدار ما ناله الظلم وُجوداً، وهو حيّ، وذكرى بعد مماته زمنا طويلا. ويصبح أبو الوليد مصدراً للخصام والجدل، فيتحيَّز له من يتحيَّز ويتنكر له من يتنكر. فطرحنا السؤال الآتي: ما مصدر هذا التناقض المثير الذي وقع فيه مفكرو المجتمعات الثلاثة في مكانة هذا الفيلسوف الفذ (...) وتوسمنا الجواب في الرجوع إلى النصوص الرُّشديَّة في أصلها العربيّ وفي ترجمتها العبريّة، وفيما آلت إليه وهي تنتقل إلى الفكر واللغة اللاتينيْن. لقد كانت حقّاً هذه النصوص هي الخيط الواصل بين المرحلتين المذكورتين، وهي أيضا سبب كل ما نال ابن رشد في المجتمعات المشار إليها»[1/12]. 
وحين تنكَّر السلطان لابن رشد، وأحرقت كتبه، وحين صار نِسياً منسيّاً، ولم يبق منه إلا الفقيه؛ أصبح عند اليهود « ربيب التوراة، ورأوا في أفكاره توافقاً لما جاء في كتابهم المقدس». وبهذا الموقف أضحوا « واسطة بين الفلسفة العربيّة، والأرسطيّة منها على الخصوص، والفكر اللاتينيّ، عن طريق الشرح والترجمة والتبنّي» [1/12].
4 - انكبابه على الشروح العبرية لابن رشد
ومن أجل أن يبنيَ د. أحمد شحلان مشروعه؛ وجد نفسه مضطرا أن ينكب « على قراءة شراح ابن رشد من اليهود من أبناء تبون وابن جرسون وموسى النربوني وغيرهم»[1/12].
ويقول: « مخطوط النص الرُّشديّ المكتوب بالعبريّة كان وثيقتنا الأولى والأساسيّة (...)، واعتبرناه الأداة العلميّة الرئيسيّة التي أرَّخت للحركة الفلسفيّة التي رأت النُّور في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا في العصر الوسيط» [1/13]. ومن أجل هذا واجه الباحث مشكل الترجمة؛ باعتباره محوراً جوهريا في أطروحته؛ يضع « بين أيدينا أهم قضية توخينا الوقوف عندها وهي انتقال النَّصِّ الرشديّ من لغته العربيّة إلى العبريّة، إلى اللاتينيّة» [1/14]. وهنا يكشف د. أحمد شحلان عن أهمية الترجمات العبريّىة في مسار فهم الفكر الرُّشديّ، ومقاربته بصورة جدية وأقرب ما تكون إلى الدقة.
وقد عرفت مؤلفات ابن رشد في طليطلة أيام حياته، ويعتقد الباحث أن Gerard de Cremone الذي توفي سنة 1187 كان قد ترجم بعضاً منها إلى اللاتينية[1/189].
وعن تعلُّق الباحث بابن رشد، وإكباره لمجهوده الفكريّ؛ نجده يقول: « رجل عظيم فذ... جلست بين يديه متواضعاً، وأحببته وهو في جلاله، وتألمتُ له وهو في معاناته، وأُعجبتُ به وهو في شموخه، وافتخرتُ به وأنا أتقرب من عمله»[1/15].
 
ثانيا: إعادة بناء الرؤية الرُّشديَّة

1 – تصحيح زاوية النظر إلى الرؤية الرُّشديَّة: كشف الباحث عن أهمية المخطوطات العبريّة في معرفة حقيقة فكر ابن رشد، وأنه لا يمكن فهم الدور الذي اضطلع به « من كتب التراجم التقليديّة أو من الكتابات المتأخرة؛ لأنَّ هذه جميعها لم تقدم أبا الوليد إلا في جزئياته، وأحيانا من متخيَّل أسطوريّ، ولا تتم معرفة الفيلسوف إلا بالوقوف، وأحيانا من متخيل أسطوريّ، ولا تتم معرفة الفيلسوف إلا بالوقوف عند هذه المخطوطات وعدد ما بقي منها ومحتويات هذا الباقي»[1/23].
2 - توسيع الرؤية للرشدية: حاول د. أحمد شحلان أن يقدم رؤية جديدة للرشدية من خلال هذه المجتمعات الثلاثة، وأن يكون ذلك من خلال المجتمع اليهوديّ، ومن خلال  قراءة خاصة لشراح أبي الوليد من العلماء اليهود. ويبدو أن غالبية الرُّشديِّين اقتصروا  في رشديَّتهم على المجتمع العربيّ الأندلسيّ، وبعضهم على المجتمع اللاتينيّ.
ويرى الباحث أن الترجمات العبريّة الرشدية هي التي تكشف عن الصراع الفكريّ ( العَقَديّ الجدليّ) في الغرب الإسلاميّ وكذا في مشرقه، وهو ما عجزت المصادر التقليديّة عن بلورته والتأريخ له، فخفت صيت ابن رشد وأربك هذا الخفوت المؤرخ والباحث.
3 – كانت الرشدية تتطلع إلى تصحيح مسار التفكير النظري في المجتمع الإسلامي. فإذا كانت العامَّة ترى أن الأصل الثابت هو القرآن ولا حاجة إلى الفلسفة، وأن القرآن الكريم يدعو إلى النظر العقليّ، ووجد أن الفِرَق والمذاهب الإسلاميّة أوقعته في تأويلات خاطئة؛ فإنه يرى أن أمر تأويل القرآن الكريم ينبغي أن يسند إلى الفلاسفة؛ لأنهم وحدهم أقدر على فهم باطنه وتأويله التأويل الصحيح، وإذا تعذر ذلك فإنهم يسلمون بالظاهر.
وفلسفة أرسطو التي تمثل قمة العقلانيّة وبنائها للعلم على أساس الكليات؛ هي بدورها تعرضت للتشويه على أيدي الشراح اليونانيين وعلى يد المترجمين السريان والعرب، وعلى يد الفارابيّ وابن سينا. ففلسفة أرسطو تحتاج بدورها إلى الكشف عن حقيقتها.
وهكذا سارت كتب ابن رشد في أربعة مسارات:(1) نصوص عربيَّة متواضعة التحقيق(2) نصوص لاتينية لها قيمة تاريخية (3) ترجمة عبريّة مثلت دور الوساطة (4) ترجمة حديثة لمن يهتم بالفلسفة تاريخا ومضمونا [1/23].
4 - مشكل العقل والنقل وكتاب (فصل المقال): ما حقيقة ما أثارته فلسفة ابن رشد، وما كان سبب محنته، حتى تنكَّر له السلطان، كما تنكَّر له تلامذته؟ وما كانت خلفيات الصدام بين  الطوائف اليهوديّة في الأندلس وغيرها، وبين رجال الكنيسة ومتأدِّبة اللاتين؟[1/121].
لاحظ د. أحمد شحلان أن« مشكل العقل والنقل من اكبر القضايا وأعوصها لذى الطوائف على اختلاف منابتها» [1/14].
واتضح لديه أن كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، أصبح « أهم عِلْم تقصر دون علمه علوم البيعة، ويبعث الشك في رواء التلمود، ويقرب الفيلسوف الأول لينافس موسى، خصام عنيف يلهب نار فريقي الرِّبيين والعلمانيِّين المتأدِّبين اليهود، ويُحدث رجات سياسيّة فكريّة هزَّت الطوائف في ذاتها، وهزت حولها رجال الكنيسة الذين وصموا اليهود بتهمة نشر بذرة الزندقة والكفر؛ أي آراء ابن رشد»[1/21].
وكتاب (فصل المقال) عبارة عن رسالة موجهة إلى من تبحر في علوم الدين وعلوم الأوائل، ممن توافر فيهم ذكاء الفطرة والعدالة الشرعيّة؛ فيتفق لديهم العقل والنقل في النظر إلى العلوم الشرعيّة. وقسم الناس طبقات:
 الخَطَابيون ( عمة الناس أو الجمهور)
الجَدَليون ( ارتفعوا عن الجمهور في تفكيرهم)
البرهانيُّون ( الراسخون في العلم، أهل التأويل)
وهدفه أن يبين أن فهم الشرع ميسَّر للكل كل حسب عقله وفهمه. والفهم النظريّ ضرورة من ضرورات الإسلام.
وعلى كل، فإنَّ قول ابن رشد بضرورة فصل الدين عن الفلسفة قاد بعضهم إلى القول إنه يميل إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة.
كلمة في الأخير:

لأعمال د. أحمد شحلان مكانة خاصة في قراءة المخطوط العبريّ والتعريف به، وترجمة بعض نصوصه، وتقريب ما في التراث العبريّ من قضايا فكريّة وفلسفيّة. وجاءت جهوده بمثابة أعمال حفريَّة في الثقافتين العربيّة والعبريّة. ولعله أول باحث مغربيّ قدم رؤية علميَّة واضحة عن الحضور الثقافيّ لليهود في تاريخ الثقافة الإسلاميّة عامة وبالأندلس خاصة.
كما كشف بوضوح عن أجواء التسامح الإسلاميّ التي جعلت العنصر اليهوديّ في قلب القرارات السياسيّة، وجعلته يُثري ثقافته، بانفتاحه الكامل على التراث الإسلاميّ وعلومه؛ وفي ضوء ذلك عرفت الثقافة اليهوديّة تطوراً ملحوظا في المجالات المعرفيّة؛ فانتقلت كثير من مصادر التراث العربيّ إلى الحرف العبريّ من جهة، وتمَّ الإبقاء على بعض منها في حرفه العربيّ. وبهذا انصبت جهود د. أحمد شحلان للكشف عن فاعلية التأثر والتأثير بين الثقافتيْن: العربيّة والعبريّة.
وجاء مشروع د. أحمد شحلان متساوقاً مع عودة ابن رشد إلى الحياة العلميَّة في العصر الحديث، مع عناية منقطعة النظير بفلسفته، وبرصد أعماله، وإخراجها إخراجاً علميّاً يتناسب مع نفوذه العلميّ في البحوث والدراسات الحديثة، وإقامة عشرات الندوات في العالم حوله. وستظل أعمال د. أحمد شحلان إضافة حقيقية إلى التراث الإنسانيّ، في مرحلة دقيقة من التاريخ، وسيظل فضله ماثلا بما فتحه من آفاق جديدة في إعادة قراءة فكر ابن رشد، وإعادة النظر في الرُّشديَّات، وكسر حاجز الحساسيات بين التراث العربيّ والتراث العبريّ. وسيظل السّي أحمد ممن نفخر بهم ونعتز بوجودهم في الحقل العلمي العربي والإسلامي، ونباهي بهم جلة الباحثين في التراث الإنساني عامّة.

[نشر ضمن الأعمال المهداة إلى أحمد شحلان في ذاكرة أصفيائه، بعنوان: أيوب دليل الأنبياء الآخر، جمع وتنسيق: مولاي المأمون المريني – ربيع 2013م، ص41 - 54].

















[1]  ابن رشد والفكر العبري الوسيط، فعل الثقافة العربية الإسلامية في الفكر العبري اليهودي – ط1[ المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 1999م] - :1/22 – ملاحظة: الأرقام الواقعة بين معقوفين تحيل إلى هذا المصدر.
[2]   جورج فاجدا Georges Vajda (1326 - 1401 هـ / 1908 - 1981 م) مستشرق فرنسي يهودي. من آثاره: «المدخل إلى التفكير اليهودي في القرون الوسطى» و «مذهب يحيى بن فاقوذا» و «دراسة في تاريخ الخط العربي».

[3]  مجمع البحرين من الفينيقية إلى العربية، دراسة مقارنة في المعجم واللغات العُروبية (السامية)، ص13 – ط1[ دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط : 2009م].
[4]  مجمع البحرين من الفينيقية إلى العربية: د. أحمد شحلان، ص25
[5]   مجمع البحرين من الفينيقية إلى العربية، ص91
[6]  مجمع البحرين من الفينيقية إلى العربية ، ص243
[7]  مجمع البحرين من الفينيقية إلى العربية، ص352
[8]  " تلخيص كتاب النفس لأرسطو" لابن رشد: مخطوط بحروف عبرية، وصف واستفهام، ضمن : أعمال ندوة ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي، بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاة ابن رشد، ص143

هناك تعليق واحد: