الخميس، 17 سبتمبر 2015

الرَّحاليّ الفاروق (1907 – 1985)وقضية التعريب في المغرب[1]




عباس أرحيلة
تمهيد:
عاصر الشيخ الرحّالي الفاروق – رحمه الله عليه - معاناة المغرب وهو يرزح تحت نير الاستعمار الفرنسيّ، وواكب ما شهده المغرب من تحولات إثر استرجاعه لاستقلاله، وما عرفه من حيرة وهو يبحث عن ذاته في معترك العصر الحديث. وكان المغرب، شأن كثير من بلاد الإسلام، قد استشرى فيه الاستعمار الفكريّ وتعرّض لتغريب كل مقوماته؛ بقصد بتر صلته بالإسلام عقيدةً وأخلاقاً ولغةً تاريخاً.
وكان الشيخ الرحاليّ من العلماء المغاربة الذين شاركوا في معركة التعريب بمواقفهم ومحاضراتهم ومقالاتهم، وممن ظلوا يدعون إلى استرجاع اللغة العربيّة لتتفاعل مع حركة الحياة المعاصرة بشكل عام، وتأخذ تلك الحركة دورها في مجالات التعليم بشكل خاص. وقد لاحظ الشيخ كيف ضرب الاستعمار الفرنسيّ حصاره الثقافيّ على عقلية المغاربة، وسعى إلى فرض لغته وبثِّها بين أجيال المغاربة، وكيف عمل على إبعاد اللغة العربيّة؛ فكان من الأصوات القوية والواضحة في الدفاع عن العربيَّة وعن عروبة المغرب.
وتطبيقاً لدور العلماء في أداء المسؤولية، سعى الشيخ أن يجعل كلمة الله هي العليا، وأن يولي اهتماماً خاصا بلغة القرآن، وأن يُرشد  قومه إلى العناية بالعربيّة في ديارنا المغربيّة. فدعا إلى « العض بالنواجذ على لغة الوحي والقرآن، التي هي أصل أصيل، وركن ركين... وكذلك التشبث والاعتزاز بالعلوم العربيّة، والأصالة الإسلاميّة» [ 3/271 – 272 ][2].
فما سكت عن الاحتلال اللغويّ للمغاربة، ورأى فيه أصل كل داء يُصيب الجسم المغربيّ، وما كان له أن يسكت، وهو القائل: « إنَّ السكوت على الحق معناه إقرار حكم الباطل، وإذا كنّا نخضع للجاهلين، ولا ننكر على المستهزئين؛ فسوف نتعرّض في يوم من الأيام إلى مقت الله وغضبه» [ 2/268 – 269 ].
 وقد انتقل الرحالي إلى عفو الله تعالى سنة 1985، بعدما قضى نحو من ثلاثين سنة يدعو إلى تعريب التعليم والعناية بالتعليم الأصيل، وما فاتئ، طيلة تلك المدة، ينصح الأمة المغربيَّة ويكشف لها عن مغبة الإبقاء على فرنسة التعليم المغربيّ، وخطورة ذلك كله على هُوِيَّة الأمة المغربيّة، وعلى كيان الدولة ومصالحها وشخصيتها القانونية ونفوذها ومستقبلها.  فكيف عالج الشيخ معضلة التعريب؟ كيف نصح؟ وكيف حذر؟

(1) مفهومه للتعريب  

 التعريب عنده أن تجعل الشيء عربيّاً. أن تحُلّ اللغة العربيّة محل اللغة الفرنسيّة بعد خروج الاستعمار من المغرب، وأن يُصبح لها التصرف المطلق في حركة الحياة المغربيّة؛ فتستعيد عزتها ورِفعتَها. ومنطلقُه في مفهوم التعريب أنَّ اللغة من مقومات الأمم الذاتية، ومميزاتها الطبيعيّة، وأنَّها مدار السيادة؛ إذ هي التي تربط بين قلوب الشعوب، وتطبع المجتمعات بطابع الوحدة والألفة، كما تربيهم على العزة والألفة [ 4/181 – 182 ].
 ومن كثرة معاناته في الدعوة إلى التعريب، نجده يقول: «  إن التعريب الذي بُحَّتْ حناجرُنا في الدعوة إليه هو الرجوع لاستعمال اللغة العربيّة، وتعريب المصطلحات الفنيّة والعلميَّة التي تتوالد يوماً بعد يوماً » [ 3/269 ].
 ولما كانت اللغة العربيّة هي لغة الدين والعلم والحياة في تاريخ الكيان المغربيّ؛ فإنَّ التعريب « ضرورة وطنيّة، ومصلحة قوميّة» [ 1/277]. والتعريب عنده إيمان بقضية قبل أن يكون قولاً باللسان. «  فمن أراد أن يُعرِّب فليتعَرَّبْ بقلبه ولسانه وسيرته، وليؤمن بذلك في ظاهره وباطنه؛ إذ المدار على الإيمان والإذعان، لا على القول واللسان» [1/277 ].
فالتعريب عنده ضرورة وجود، ورُكن من أركان الاستقلال، بدونه يكون الاستقلال خُدعة، وتظل التبعية لفرنسا سارية المفعول على توالي الأجيال. وأي استقلال يكون ولغة الاستعمار تُتكلَّم، وأنظمته، تَتحكّم؟  أليس هذا خلاف الصواب، كما يقول ؟ وما التعريب عند الفقيه الرحالي إلا إنقاذٌ «  من التشبُّع بروح أجنبيّة تُسيء إلى استقلال هذه الأمة وعقيدتها وشريعتها » [ 1/347 ].
 والتعريب عنده هو الضامن للعقيدة، والقاعدة للتفاهم، وهو أساس كل نهضة ثقافية. من هنا ألحَّ في مقالاته ومحاضراته على أهمية تعريب التعليم، ووجد أنَّ « من الحكمة والمصلحة، ومن صواب القول وسداد الرأي، إعادة النظر في سياسة التعليم، وتخطيط برامجه ومناهجه على أساس أنَّ لغة التلقين هي اللغة الوطنيَّة» [ 1/287 ].
والشيخ الرحالي يُرجعُ أزمات الأمة إلى احتلالها لغويّاً، ويؤكد أنَّ مشاكلها مرتبطة بالفكر الأجنبيّ؛ الذي يسعى أن يُفقدها هُوِيَّتها.
وهو يربط قضية التعريب بسَرَيَان الوعي العربيّ في الحياة بأسرها، حتى يكون هذا الوعي ماثلا في حركة الحياة المغربيّة، ملموسا في المراكز والمصالح « ولا يكون هذا إلا إذا قاد إليه إيمان وعزم» [ 2/76 ]. ونجده يرى التعريب قضية حتمية لا مناص من تحقُّقها في بلاد المغرب. فبالرغم من أنَّ هذا التعريب قد أصبح من أشكل المشاكل في سياسة التعليم وفي سياسة الإدارة فإنّه يعدُّه من الوجهة الشرعيّة والقانونيّة أمراً لازماً لا مناص من الخضوع لأمره [ 2/246 ].
والشيخ الرحالي لا يرفض تعلم اللغات الحية، بل نراه يكشف عن أهميتها وضرورة إتقانها، ولكنه يرى أنَّ «  تعلم اللغات لا يتنافى مع ما ينبغي أن تكون عليه لغة القوم من إعزاز مكانها، ورفع مقامها حتى يكون لها التصرف المطلق في ظاهر الحياة وباطنها»[1/352 ].
وهو يرى أنَّ تعلم اللغات وتعليمها محفوظ في الإسلام، وخاصة في عصرنا « الذي أصبحت فيه اللغات مفتاحاً للتعارف والتفاهم، وتأمين الحقوق والمصالح، وطريقاً إلى طلب العلوم الكونيّة التي تعتبر في مفهوم العصر شيئا ضروريّاً، وتدخل في حياته دخولا أوليا » [ 1/351 ].

(2) وما أهمية أمّة بدون لغة؟

 أي نفوذ لدولة لا لغةَ لها؟ «  نفوذ اللغة معناه قيام الدولة ونفوذها» [ 1/277 ]. وأمّة بلا لغة أمة بدون عزة ولا كرامة. « وأمّة بدون لغة أو بلغة يسودها الفوضى، لا تستحق الذكر والثناء» [ 1/282 – 283 ].
وهو يرى أنَّ قيمة الأمة في الميزان الدولي يحتم عليها أن يكون لها طابع خاص يتبلور في ثقافتها وحضارتها. ولا ثقافة ولا حضارة بدون لسان. وكل مجموعة من البشر لها صفات وخصائص توجب عليها أن تأخذ بلسانها. واللغة عنده إذا غابت عن الحياة ضاعت الأمّة. « وإذا ضاعت اللغة ضاعت الأمّة، والمسؤول عن ضيعتها أبناؤها؛ المفروض فيهم أنهم يحمونها من آفات الفساد» [ 1/288 ].
وكيف يكون الأمر إذا كانت تلك  اللغة هي لغة القرآن أي لغة الإسلام؟ والإسلام رسالة نُشرت في أفاق الدنيا بالصيغة العربيّة، وكانت هذه الصيغة هي أداة الإسلام التي أرسى بها حضارته. « فواجب ممارسة الحياة بهذه اللغة الطيبة، التي اختارها الله لعباده، وأنزل بها وَحْيَه، والتي شهد لتاريخ أنها لغة العلم والحضارة من قبلُ ومن بعدُ (...) وما من شكّ أن التحول عن مثل هذا الوضع ( ...) يُشكِّل فساداً في الفطرة، وشذوذاً في الفكرة » [ 1/286 ].
وهو يرى أنَّنا حين لا نمارس الحياة بلغة القرآن فإننا « لا نسير بطبيعتنا، ولا نأتمر بالشريعة التي تحفظ توازننا» [ [1/286 ]؛ فنسير بدون غاية، وننحرف عن السلوك الصحيح.
وأيّة عزة لمن يسير على غير هدي من طبيعته؟ « أفليس الإنسان يذهب بذهاب فتوته وإنسانيته؟ أفليس يعتز بخصائصه ومميزاته؟ فإذا كنا لا ننسجم مع عقائدنا وتقاليدنا، ولا نتقدم بمفهوم طبيعتنا ولغتنا؛ فالأولى بنا أن نُفرغ الفضاء لغيرنا، ونذهب مع الذاهبين؛ فإنَّ الطبيعة لا ينجح مَن يُقاومُها، وأنَّ الشريعة لا تهدي مَن يُخالفُها»[ 1/286 ].
والشيخ لا يتصور تقدما يُملى علينا من طرف فرنسا وأذنابها. ومَن لا يُكبر شأن لغته يُذَلُّ « ومن السهل استغلال أرضه، واحتلال عقله» [4/270 ].
 ويرى أنَّ الاستقامة في النظر والتفكير، والرغبة في النهوض من التخلف، والتخطيط لبرامج التعليم ومناهج التعليم، من القضايا الجوهريّة التي لا ينبغي الاعتماد فيها على الرؤية الأجنبيّة المشبوهة. ونجده يكشف خطورة تدريس العلوم باللغات الأجنبيّة وتنشئة الشعوب عليها، فيقول: « أما الشعوب التي تُهمل شأن أبنائها في تقنية اللغة التي تقوم عليها الثقافة والحضارة (...) وتعتمد تدريس العلوم الاجتماعيّة والطبيعيّة والرياضيّة بلغات أجنبيّة، فإنها تهدم فوق ما تبني، وتُسئ أكثر مما تُحسن؛ لأنّ التعليم باللغة الأجنبيّة نوع من التربية السيئة، وطريق إلى الانحلال والانزلاق. وما أحوجنا إلى معاهد وجامعات تخلق من يخدم وطنه بنسبته وأصالته، وبعقيدته وطبيعته.
ومن كان يعتقد أنَّ اللغة العربيّة غير قادرة على تعليم هذه العلوم، ومن كان يرى أنَّ التربية الدينيّة لا تساير التربية الحديثة؛ فقد أخطأ، وكان بمعزل عن الحق والصواب» [ 1/294 ].

(3) خطورة فَرْنَسَةُ التعليم على أهل المغرب

لاحظ أنَّ الإبقاء على اللغة الفرنسيّة بعد استقلال المغرب يدعو إلى الشك في قيمة الاستقلال وغايته، فهو يرى أن« اعتماد لغة مكان اللغة العربيّة، ولو إلى أجل، يترك أزمة نفسيّة خطيرة، ويُشكك في قيمة وغاية الاستقلال»[ 1/299 ].
وأنّى لشعب أن يتحرر ولسانُه تستعبده لغةٌ أجنبية؟ وأية كرامة لشعب يتنكّر للغته؟ وأكد أنَّ الإعراض على اللغة العربيّة مما « يُسبب فساد الأفكار، ويُشجع على تخريب الديار».
والشيخ يربط استقلال المغرب باستقلاله اللغويّ، ويرى « أنَّ الاستقلال لا يتجزأ، وأنَّ مَن استقلت أمتُه،؛ استقلت لغتُه، وليس من المعقول أن تستقل أمةٌ ذات مجد وتاريخ ولسان أجنبيّ يُصرَّف الحكم فيه كما شاء، لسانُها الأصلي يُصاب بالشقاء، ويُعاب بالعياء ( ...) واللغة الفرنسيّة، وإن سلَّمنا أنها لغة التعلم والثقافة، فليس هي لغة التقدم والازدهار في عهد الصواريخ العابرة للفضاء، بل هي غيرُها قطعاً...
وإن احتكار اللغة الفرنسيّة في أرضنا تحُكّمٌ مجرد، وانسياقٌ مع الهوى، وتعقيد لمسألة التعريب»[ 4/218 – 219 ].
ولاحظ الفاروق طغيان الحياة الغربيّة التي خاصمت الملة وهاجمت اللغة، وتأكد لديه فشل الاستقلال في اقتلاع الفرنسيّة من الديار المغربيّة. وخابت الآمال في المكلفين بسياسة التعليم؛ فبدل أن يُحرروا اللغة العربيّة من سجن الاستعمار، وبدل أن يُوثِّقوا عهد العروبة بأبنائها، ويُسارعوا إلى ردّ مكانة اللغة الضائعة؛ استمروا على نهج الاستعمار. «وأصبح المؤتَمَنُون على حياة البلاد يتيهون باللغة المستعارة، وينافسون في تعليمها، ويجتهدون في تركيزها (...) متوهِّمين أنَّ التعريب لا يتمّ ولا يتيسّر إلا بعد مضي عدة أجيال» [ 1/342 ].
وكان لأعداء العربيّة ما أرادوه من إبعاد العربيّة عن مجالات الحياة. «وهاهم أصحاب الكلمة المرفوعة يُغلفون التعليم من جديد بغلاف أجنبيّ، ويُوطِّدون أمر التعجيم في مدرسة المغرب العربيّ» [1/342 ].
 فقرر أنَّ لا شرفَ للوطن العربيّ إلاّ بإشراف لغته على مؤسسات تعليمه بصفة فعليّة لا بصفة رمزيّة [ 1/337 ].
ومما حزّ في نفس الشيخ الرحالي ما رآه في عهد الاستقلال من مضايقة اللغة الفرنسيّة للغة العربيّة في كل مجالات الحياة. وظل يستغرب كيف « ظل هذا التطابق حتى مع الاستقلال بمرأى ومسمع من أبنائه، وهم بذلك يتناقضون مع أنفسهم، ويتناكرون وواقع حياتهم، فلا يوجد على وجه البسيطة مَن يهون عليه دينُه ومذهبُه، ويرضى أن تموت لغتُه ويُستبدَلَ لسانُه» [ 2/32 ].
وأرجع صعوبة التعريب إلى استمرار مزاحمة الفرنسيّة للعربيّة «  في صفوف الدراسة، ورفوف الإدارة»، وهيمنتها على مرافق الحياة المغربيّة عامة.
(4) وهل كان هناك إيمان قوي بالتعريب في المغرب ؟
لا حظ الفاروق أنّ الموقف من التعريب كان يطبعه « التباطؤ والتثاقل» بقصد « التلاعب بمقدَّرات الأمة ومصالحها الكبرى»[ 1/277]؛ فعاشت العربيّة في وضع شاذ بين أهلها. وجاءت عرقلة التعريب من هؤلاء الأهل؛ وهم الأبناء والأولياء الذين تغرّبت ألسنتهم؛ ممن ضاعت منهم الغيرة في الطريق، وافتقدوا العزة والكرامة، وأضحت مصالحهم مرتبطة باللغة الفرنسيّة. و« التقدم الشريف لا يكون بطبيعة الغير» [ 1/287 ].
هكذا ظل الموقف من التعريب متذبذباً؛ يفتقر إلى الإيمان  بأهميته. « ولا يستطيع التعريب أن يبرز للعيان (...) إلا إذا كان هناك إيمان قويٌّ بالتعريب لا مخادعةَ فيه ولا مخاتلة»[1/280 ].
وفي مواجهة التعريب وجد فئتين من المغاربة: فئة تنصر التعريب وأخرى صامتة متقاعسة؛ الأولى تُخادع  وتُخاتل والأخرى تتحدث عن القضية بدون إيمان. أما الدستور الرسمي للبلاد فلا عليه أن يجعل العربيّة اللغة الرسميّة للبلاد !
ولاحظ منذ سنة 1960، حين اجتمع المجلس الأعلى للتربية الوطنية، عدة ملاحظات ، منها:
أولا: وجود غموض في التصميم الخماسيّ الذي يرسم السياسة التعليميّة لمستقبل الأمة المغربيّة.
ثانيا: اللامبالاة بمعاهد التعلم الأصيل وتجاهل قيمتها وتاريخها.
ثالثا: حقيقة التعليم العصريّ لا تلائم الروح العربيّة الإسلاميّة.
رابعا: بتوحيد التعليم الابتدائي، بين العصريّ والأصيل، كان القضاء على حفظ القرآن الكريم في بلاد المغرب.
وتبين للشيخ بالملموس أنَّ ما أسمّاه «مدرسة الاستعمار» ظلت تبذل مجهوداً ضخماً لتركيز لغتها، وأنَّها نجحت في تخريج مَن يستميتون في الدفاع عن وجودها وإعلاء شأنها. ويقول إنَّ هذه المدرسة « قد نجحت نجاحاً كبيراً في سياستها، وإنَّ التركة التي تركها لنا الاستعمار عجميّة من أولها إلى آخرها؛ لأنَّ العربيّة كان قد حُكِم عليها بالنفي والإبعاد»[ 4/218 ].
وتأكد لديه أنَّ صعوبة التعريب تكمن في تعريب الرجال؛ فـ « ليست الصعوبة في تعريب المفردات اللغويّة، وإحصاء ما يُتداول منها، وتحويل المصطلحات الفنيّة (...) وإنما هي في تعريب أخلاق الرجال وأفكارهم؛ فإذا تعرّبت الأفكار والمشاعر؛ تعربّت الألفاظ والمصطلحات لا محالة» [ [4/220 ].
أما كيف يتمُّ التعريب؟ فإنه يرى أنَّه يبدأ من المدرسة، ومن تعريب الكتاب المدرسيّ، وتعريب القائمين على التعليم في المدرسة، وأن تتعهَّد الدولة بإعلان كلمة العربيّة في وطنها، وربط أسباب الحياة بجهازها [ 4/222 ].

(5) وسادت سياسة الاستعجام

لاحظ أنَّ المسؤولين عن قطاع التعليم، بعد الاستقلال في المغرب، قد عملوا على توطيد التعجيم في المدرسة المغربيَّة، وأنَّهم جلبوا من الخارج (طابوراً) يُعزِّزون به ما عندهم من طوابير المعلمين والأساتذة الفرنسيِّين لقهْر العربيّة بين أهلها.
ووجد أنَّ أذناب الاستعمار قد « ظلوا يُرددون هم وحفدتُهم أنَّ العربية قاصرةٌ عن أداء المعاني العالية، ويتلذذون بمخرج الغين الباريسية على حساب مخرج الراء العدنانية» [4/3383 ].
فما رحل الاستعمار حتى رسّخ لغتَه في أبناء المغاربة واحتلّهم لغويّاً، ولم يرحل حتى « خلَّفَ جيلا يسير في ركابه، ويعيش في رحابه، ويسعى إلى تنفيذ أفكاره وأوامره» [ 2/253 ].
ومن هنا أصبحت قضية التعريب أشكل المشاكل في سياسة التعليم على امتداد تاريخه المعاصر. ووجد الشيخ الرحالي في قهر العربيّة بين أهلها « تحديا للمشاعر العربيّة، وإيغالا في تشكيل القضية، وإغراقاً في تعسير أمرها...
على أنَّ هذا السير المنحرف، والإجراء المُنافي لرغبة الشعب، خلاف ما توحي به شخصية الاستقلال اللامعة، وخلاف ما تسمعه الأمة من الأقوال الصاخبة.
فإمَّا أن نؤمن بلغة الاستقلال، وبعقيدته وتاريخه، وإمَّا أن نفقد التوازن في أصول الحياة، ونتفكك تفككاً لا رجاء بعده، فتجتاحنا الفوضى الخلقيّة والمذهبيّة، وتغشانا موجة التعسف والإلحاد والعقوق» [ 1/342 ].
 ولاحظ أنَّ الناس، منذ مطلع الاستقلال يطرقون موضوع التعريب « على اختلاف عباراتهم وأساليبهم وأهدافهم، ويتحزنون ويتوجعون، ويشرحون وينصحون، ويضعون الخطوط الإيجابيّة؛ باعتبار أنَّ التعريب ركن من أركان الاستقلال العربيّ»[ 1/343 ]. وما تحقق شيء من ذلك. فانهدَّ ركن التعريب وهو من أركان الاستقلال، وأصبحت سياسة التعجيم أمراً واقعاً لا خلاص منه، وتكشفتْ نوايا من كانوا يتسترون خلف المصلحة، ووراء الضرورة. وحينئذ أيقن الفاروق أنَّ الاستقلال قد انحرف عن أهدافه، وانكشف الغطاء. فقال: « تبيَّن بعد الحَسّ والجَسّ أنَّ المكلفين بالأمر لم يستطيعوا أن يجعلوا حداً لسياسة الاستعجام التي آلفها إطار الحكم، وناصرها الجهاز الرسميّ، ولا أن يُجبروا أحداً  على الخضوع للتعريب، والشروع في أسبابه؛ وإن كانت متابعة هذه السياسة تتناقض مع مفهوم الاستقلال الذي هو عدم التبعية والانحياز» [1/343 ].
وهذا الموقف المنحاز لسياسة فرنسا يتنافى مع مقررات اللجان الوطنيّة، وفي مقدماتها: التعريب والتوحيد. ولاحظ أنَّ وزارة التربية الوطنيّة قد اغتنمت فرصة التوحيد، « وتشككت في التعريب، وفاتها أن توحيد التعليم مربوط بتوحيد اللغة، ولا تكون لغة البلاد الأصلية، ولا يتأتى التوحيد إلا على أساس وجودها، وبالتالي تتخالف مع الاتفاقات العربيّة الناتجة عن المشاورات والمؤتمرات» [1/343 ].
وهكذا انخدعت الشعوب باسم الاستقلال السياسيّ، وتغافلت عن الاستعمار اللغويّ والفكريّ المتحكم فيها[ 1/344 ]. لقد أصيب بالخيبة حين حل الاستقلال المأمول، ولم يتوثق عهد اللغة العربيّة بأبنائها. « فبدلا من أن تُردَّ مكانةُ اللغة العربيّة بجهود استقلالنا، ونرفع راية الإسلام الكبرى فوق رؤوسنا (...)؛ ذهب بنا تيار التقليد السريع، ودُفِعنا إلى مسالك ضيقة، وزُجَّ بنا في مشاكل جديدة؛ فأصبحنا ونحن نتحدث عن التعريب نُصوِّر الوصول إليه بصورة العسير البعيد» [4/201 ].
وكان التغريب حين غاب التعريب. فما استطاع المغرب أن يخرج « من الورطة التي أوقعنا فيها نظام أجنبيّ طائش متحكم، إلا أننا انتظرنا طويلا وكثيراً، والتفتنا يمينا وشمالا؛ فما أطل علينا بشير التعريب، ولا بان معْلَمٌ من معالمه، وبرح الخفاء؛ فأصبح من الأمر اليقين أننا غارقون في بحر التعجيم من مفرقنا إلى قدمنا، ومن مدرستنا إلى إدارتنا (...) فالرسائل والوثائق العجميّة تتسلل إلى المعاهد العربيّة، وتتخلل مصالحها بسرعة وجرأة، لتقهرها بسياسة الأمر الواقع التي هي من أخص سمات الاستعمار» [4/216 ].

(6) وكيف كانت رؤيته لإصلاح التعليم؟

-            أن تكون برامج التربيّة والتعليم أساسُ كل إصلاح ونهوض.
-            وأن تكون هناك سياسة قارة للتعليم ولبرامج التعليم مع الالتزام بالمقومات الوطنية.
-            وأن تستجيب تلك البرامج لمتطلبات العصر، وأن تُؤديَ ما تدعو الحاجة إليه.
-            وأن تكون قادرة على تكوين المواطن، وتكييفه تكييفاً صحيحا وصالحا؛ « بحيث يكون نقيّاً في أخلاقه، قويّاً في أفكاره، منتجاً في أعماله، شاعراً بمسؤولياته»[ 1/296 ].
-            تحديد برامج تتسم بالدقة في الوضع وبالحيوية والصلاحية مع إحاطتها بالضمانات الكافية والتجهيزات الضروريّة.
-            السهر على تنفيذ هذه البرامج من أهل الأمانة والخبرة، ومن ذوي الكفاءة والصدق.
وأرجع الفاروق تدهور التعليم وارتباك سياسته، وعدم استقرار برامجه إلى ما كانت تتخبط فيه برامج التعليم من أخطاء وعيوب؛ وقد حدّدها في الأسباب الآتية:
-            ضعف فنية المناهج وعدم وضوحها.
-            عدم استقرار البرامج والمناهج.
-            كثرة شحن الأدمغة بالمواد وقلة تحصيلها.
-            أصبح التلاميذ « يكتفون بكتابة ما يُملى عليهم في دفاترهم، ولا يهمّهم أمر الكتاب الذي يُهيئ ملكة البحث، ويوسع مرآة الفكر» [ 1/297 ].
-            الجهل بمناهج التربية. فـ « ليس كل معلم قادراً على ترقية العقول، وتحويل النفوس، وحائزاً على مقومات التكوين، وعناصر التثقيف (...) ولعل الجهل بالتربية (...) هو الذي جعل كثيراً من الشعوب تتأخر وتتخلف عن ركب الحضارة السائر» [ 1/328 ].
-            غياب مادة التربيّة الإسلاميّة من برامج التعليم. وكيف يقوم تعليم بدون تربية؟
-            قلة التجهيز الضروريّ لتعليم العلوم التي تتوقف على أدوات الإيضاح وتوفير المخابر العلميّة.
-            أصبح «  الناس لا يتعلمون اليوم حبّاً في العلم والمعرفة، وإنما يتعلمون طلباً للمال والوظيفة» [ 1/297 ].
وعلى كل حال فإنّ التعريب لم يفشل في المغرب وحده، ولكنه فشل في جل الدول العربيَّة.
(7) فلِمَ فشِل التعريب في العالم العربي؟
 لاحظ الرحالي الفاروق أنَّ المسلمين « ناموا وما استيقظوا إلا بعد أن فاتهم الركب» [ 1/330 ]، وأنَّ العربيّة أصبح يتهدَّدُها الجهل والضعف والاختلاف، وأنَّ التعليم قد ارتكس في العالم العربيّ؛ لأسباب من أهمها:
-            حضور النفوذ الأجنبي بمخططاته في عقول العرب وألسنتهم.
-            غياب وحدة الأمة العربيّة نتيجة ما استفحل من عوامل الاختلاف بين أنظمة الحكم في الدول العربيّة، ونتيجة المخلفات الاستعماريّة التي نهض بها الأبناء البَرَرَة من أبناء يعرُب ! فبغياب وحدة الأمة غاب التعريب عن إداراتها ومجالاتها الحيويّة، وبغيابه فشل التعريب في الأمة العربيّة، وظل حلماً ضائعاً. فالتوصيات بالتعريب في المؤتمرات العربيّة ظلت حِبْراً على ورق.
-            وعجزت الدول العربيّة أن تقوم « بتحويل تركة الاستعمار من قوانين ورسوم، وخطط ومصالح خرائط إلى لغتنا وطبيعتنا ومصالحنا» [ 1/289 ].
-            وفشلت معاهد التعريب في واقع الأمة العربيّة، نتيجة غياب سلطة الإجماع في تلك الأمة.
-             غياب الإيمان بأهمية التعريب جعل الأمة العربيّة لا تُبادر إليه وتلجأ إلى التباطؤ والمخاتلة.
وخلاصة ما ذهب إليه قوله إنَّ استقلال العرب لا يتِمُّ إلاّ بتعريب ألسنتهم وأفكارهم وهِمَمِهم وذِمَمِهم [4/383 – 384 ].

(8) وشاهد الفاروق نهاية التعليم الدينيّ


منذ فجر الاستقلال، انطلقت الأصوات لإصلاح التعليم ليكون ملائماً لعهد الاستقلال، كانت « اللجان تجتمع وتحتشد (...) وجلسات المجلس الأعلى تتوالى وتتواصى، وأصوات المناظرات في مستواها العالم تتعالى وتتغالى، كل ذلك كان قصد إصلاح التعليم وجعله ملائماً لعهد الاستقلال حتى يكون قائماً على مقوماته» [ 1/289 ].
 وأحس الفاروق أنَّ القوم يتحدثون عن المقومات ولا يُفارقون صورة المدرسة التي تركها الاستعمار، وأنهم  يُبيِّتون لإفراغ التعليم الدينيّ من روحه. وكتب سنة 1970م، وقد انكشفت المؤامرة على التعليم الدينيّ في المغرب، قائلا: « والآن وقد برز ما كنّا نخافُه، ووقعت التصفية، وتحققت المؤامرة وإفراغ التعليم الدينيّ في بوتقة التعليم العصريّ الذي يقوم على اللغة الأجنبيّة؛ وهي لا تمثل عنصر الدين ولا عنصر الدولة، وإنما تُفرِّق بين عناصر الأمة»[ 1/289 – 290 ].
وظل يأمل أن تعود اللغة العربيّة إلى وطنها الغيور المستقل إلى أن لقي ربه، وهو يحمل في نفسه قضية التعليم الدينيّ، وهو يحمل اسم عميد كلية اللغة العربيّة بمراكش.
 واستغرب كيف أنَّ وزارة التعليم التزمت أوائل الاستقلال بعملية التعريب التدريجيّ؛ بناء على توصيات المجلس الأعلى للتعليم، ومناظرة المعمورة، وبينما كان المغاربة ينتظرون الإيفاء بهذا الالتزام؛ « قرَّرت وزارة التعليم في فاتح أكتوبر سنة 1971م تحويل المدارس الابتدائيّة التابعة للتعليم الدينيّ، وللتعليم المعرب إلى المدارس الابتدائيّة العصريّة، التي مازالت تتعثر في فتنة التعريب وتوصياته، هذه المفاجأة الغريبة التي وقعت وقع الصاعقة، تنقض كل قرارات التعريب وتوصياته، وكل ما أذاعته وأشاعته هذه الوزارة عن التعريب فقطعت بذلك كل أمل، وجعلت العليم الدينيّ أمام الأمر الواقع؛ كما هي  سياسة هذا العصر التي  امتازت بالأزمات النفسيّة، والمراوغات التقنيّة، وهل هذا إلا خُلْف وتناقض، يجعل التعليم في نكسة وركسة (...).
وبذلك تدخل جامعة القرويِّين في خبر كان، ويتحقق أمل الاستعمار الذي منذ كان وهو يُحارب التعليم العربيّ... فهي بين الغَرْغَرة والحشرجة... » [1/346 ].
ورأى الآمال التي عقدها على التعليم الأصليّ تتهاوى، فقال: « وها هو التعليم الأصلي الذي هو من صميم وجود الأمة العربيّة (...) بدأت صورته الحقيقية تختفي من الأبصار تبعا لحكم المنطق الجديد (...) ولم تعد برامجه ومناهجه قادرة على التكوين والتثقيف» [ 4/201 ].
أهكذا يكون مصير القرويِّين وابن يوسف وهما السند القويّ للعروبة في بلاد المغرب، ومرجعا صحيحا من مراجع الإسلام!

خاتمة :

لقد عايش الشيخ الرحالي المدرسة المغربية وهي تتفرنس، وتُودِّع الثقافة الإسلاميّة. وظل ينصح الأمة أن تُعرِّب كيانها، فسمع كلاماً كثيراً حول التعريب، وانتظر طويلا فلم يحدث من ذلك شيء. فما وجد من  يؤمن بقضية التعريب. وحقيقة التعريب لديه « لا تقوم على الكلام الطويل الذي لا تتبعه نتائج، ولا تصدقه أعمال؛ وإنما يقوم على الإيمان الصادق» [ 4/219 – 220 ].

لقد ظل الشيخ الرحالي من رعاة لغة الضاد، منذ مطلع استقلال المغرب إلى وفاته سنة 1985م، ينادي بضرورة التعريب، ويحثُّ على استعادة العربيّة إلى معترك العصر؛ حتى تعمُّ  مجالات الحياة، وتحقق رغبة المواطنين في التعبير عن مصالحهم بلغتهم. ومن يقرأ ما كتبه الشيخ الرحالي حول التعريب يجد أنَّ الرجل قد ذهبت نفسه حسرات أمام ما عانته العربيّة تحت تأثير الغزو الفرنسيّ، وما لقيه التعليم الأصيل من إهمال. فسياسة التعليم « لم تُوفَّق أن تُعطي معاهد التعليم الأصيل كل ما تستوجبه من عناية ودراسة حتى تتفهم رسالتًها ووضعيتها »[ 4/196 ].
 لقد أيقن الشيخ الرحالي أنَّ المدرسة المغربيّة لن تُعرّب « ولو بُحَّت الحناجر، وضجَّت الضمائر، إلى أن يُضطر إلى خوض معركة اللغة، كما اضطُر إلى معركة السياسة، والشعب العربيّ المسلم يأبى أن تُهان كرامتُه في أصوله، ومقوِّماتُ وجوده الذاتي» [ 4/220 ].

وهل بقي في ديارنا من يُحس بالاضطرار إلى خوض معركة تحرير لغته؛ خوفاً من أن تُهان كرامتُه؟  هل ما زال في ديارنا من يحمل هذا الإحساس تجاه العربيَّة؟!

 






[1]   نشر ضمن كتاب: التربية والتعليم في المغرب الحديث ( أشغال الندوة العلميّة المنظمة احتفاء بعلماء جامعة ابن يوسف وتخليداً لوفاة العلامة محمد بن عثمان المراكشيّ – منشورات جمعية متقاعدي التعليم بولاية مراكش (1)، ص 107 –122.
[2]  الأرقام الواردة بين معقوفين تحيل إلى كتاب  مقالات ومحاضرات الشيخ الرحالي الفاروق  بأجزائه الأربعة، جمعها وقدم لها الأستاذ أحمد متفكر، صدرت الأجزاء الثلاثة سنة 1998، وصدر الجزء الرابع سنة 2000م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق