الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

السُّورة القرآنيُّة مدينة مُسوّرة حول ما قاله الزمخشريّ في تفسيره: (الكشّاف)




عباس أرحيلة
أولا: السُورة القرآنيَّة مدينة مُسَوَّرة
السورة القرآنية طائفةٌ من القرآن أقل آياتها ثلاث. مصطلح جاء به القرآن الكريم. حين تكون واو سورة أصلية؛ يستدعي جذرها اللغوي مجال البناء؛ فتكون مأخوذة من سُور المدينة؛ وهو الحائط الذي يُحيط بالمدينة ويشتمل عليها. ويؤنثُ السور لأنَّه بعض المدينة، فيقال سورة المدينة. والسورة: ما طال من البناء وحسُن، ومنه سميت سورة القرآن[1].

قال صاحب (التَّحرير والتَّنوير): زادوا السُّورَ هاءَ تأنيثٍ في آخره مراعاة لمعنى القطعة من الكلام؛ الذي يقوله القائل خطبةً أو رسالةً أو مقامةً[2]. فالسورة طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسوَّر. فاشتقاقها من سُور البناء؛ لأنها تحيط بمجالها وبقارئها، وتحفظَه كما يَحفظُ السُّورِ ما بداخل المدينة. ففي (تاج العروس) أنَّ سورة القرآن كانت تشبيها بسور المدينة؛ لكونها محيطة بآيات وأحكام إحاطة السُّور بالمدينة[3].
والقرآن نزل منجّماً، وكل سورة فيه درجةٌ إلى غيرها، مقطوعة عن سابقتها؛ شبيهة « بسورة البناء؛ أي القطعة منه؛ لأن كل بناء فإنما يُبنى قطعة بعد قطعة، وكل قطعة منها سورة، وجمع سورة القرآن سُوَر بفتح الواو، وجمع سُور البناء سُورٌ بسكونها»[4].
 فالسُّوَرُ بالفتح مفتوحة على الآفاق البشرية، متفاعلة مع حركية الوجود، أما الأسوار فهي ساكنة جامدة! فما العلاقة بين سورة القرآن وسورة البناء؟
ثانيا: في أي شيء تشبه سورة القرآن سور المدينة؟
لعل جار الله الزمخشريّ (538هـ) كان خير مَن أبرز التشابه بين السورة القرآنية وسورة المدينة، أي حائطها في (كشافهفاعتبر السورة القرآنية « طائفة من القرآن محدودة مُحوَّزَة على حيالها، كالبلد المُسوَّر، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد كاحتواء سورة المدينة على ما فيها»[5].
فالسور المحيط بالمدينة، والحامي لها من كلّ آفة خارجية؛ يضم مبانيها وشوارعها وأسواقها ومرافقها وبساتينها وسائر معالمها الحضارية. وداخل السور يتشكّل كل ذلك بأحجام مختلفة وطرق هندسيَّة متطوِّرة حسب الأزمنة وما عرفته من تقدم.
 والسورة القرآنية عبارة عن طائفة من الآيات تشكّلت، حسب توالي نزول الوحي، داخل سورة قرآنية، لها بداية ولها نهاية تتآلف فيها الآيات في نظم خاص، وتُعطي في صورتها النهائية شكلا هندسيّاً ربّانيّاً ما تزال الجهود البشريَّة لم تقتحم حتى اليوم أسوارها، لتتعرف على معالمها في ضوء تعدُّد أغراضها ومعانيها.
إذا كانت أسوار المدن تضم مكونات معمارية متناغمة مع متطلبات الحياة البشرية، فما هو البناء المعماري لكل سورة من سور القرآن؟
رأينا الزمخشري يرى أن السورة تكون « محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد كاحتواء سورة المدينة على ما فيها».
فداخل سور كل سورة قرآنية مجموعة من الحقائق الإلهية والتوجيهات الرَّبّانيّة التي لا غنى عنها للتجربة البشريَّة على الأرض.
وبهذا تكون السورة القرآنيّة (كالبلد المُسوَّر)، أي أنها تكون شبيهة بمدينة لها معمارها الخاص، ولها مكوِّناتها التي تتعايش فيها نتيجة عوامل تتعلق بعلوم القرآن عامة. وكما يترقَّى سكان المدن في المباني والأشكال والمستويات؛ فإن للسورة معالمها الخاصة ولها أشكالها ومستوياتها.
وكما تكون في المدينة دور وقصور حسب مستويات أصحابها الاجتماعية؛ « فإن السور بمنزلة المنازل والمراتب، يترقى فيها القارئ: وهي أيضاً في أنفسها مترتبة: طوال وأوساط وقصار، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين». ولأن السُورَ – كما قال البيضاوي - : « كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ، أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة».
وسميت السورة بذلك« لشرفها وارتفاعها كما ارتفع من الأرض سور، وقيل: سميت بذلك لأن قارئها يُشرف على ما لم يكن عنده كسور البناء»[6].
  وكما يقوم على هندسة المدينة مهندسون وخبراء في مجالات العلوم، تأتي السورة القرآنية لها هندستها التي أودعها الله فيها، وجاء ترتيبها على ما هو عليه في المصحف عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، أو على وجه الاجتهاد من الصحابة؛ «وهم الهُدى المستقيم»، كما قال اعبد الله بن مسعود[7].
 وهندسة السور في أبنيتها تحتاج من المخاطبين بها أن يكتشفوا معمارها الفني.
وجاء البقاعي 885هـ في (نظم الدرر) ليقول إن سُوَر القرآن « حكيمة المعاني متلائمة المباني، مُنتظم أولها بآخرها كسور المدينة في صحة الانتظام وحسن الالتيام والإحاطة بالمباني التي هي كالمعاني والتقاء الطرفين حتى صار بحيث لا يدرى أوله من آخره؛ سواء كانت القطعةُ المأتيُّ بها تباري آية أو ما فوقها لأن آيات القرآن كسورة يعرف من ابتدائها ختامها ويهدي إلى افتتاحها تمامها»[8].
وكما تتعدَّد مرافق المدينة تبعاً لتعدُّد السكان وكثرة المرافق؛ تتعدد الآيات داخل السورة القرآنية، وتتعدد عطاءاتها ومنافعها وفوائدها وفضائلها...
ثالثا: بين تقطيع القرآن سُوَراً وتقسيم المصنفات أبواباً
في أي شيء يشبه ترتيب السُّور القرآنيّة، ترتيب أبوابَ المصنَّفات البشريّة؟
قارن الزمخشري بين توالي السور في القرآن الكريم وتعدّدها، وبين مسار تبويب الموضوعات في الكُتب والمصنفات. وعن طريق المقارنة بيّن فوائد تفصيل القرآن، ومنافع تقطيعه سوراً. فالقرآن مجموعة سور لها نسقها الخاص. ولكل سورة اسم خاص، وقد يحمل اسمها وبدايتها إيحاءات بمضمونها، كما يحمل الكتاب عنواناً وتأتي مقدمته لتحدد وجهة صاحبه. 



فوائد تقطيع سور القرآن الكريم:
ذكر الزمخشري الفوائد التي يجنيها القارئ من تقطيع القرآن سوراً ومن تقسيم الكتاب أبواباً. وساقها كالآتي:
 الفائدة الأولى: الحاجة – النفسيّة والتربويّة والمنهجيّة - التي من أجلها « يُبَوِّبُ المصنفون في كل فنّ كتبَهم أبواباً موشَّحة الصدور بالتراجم».
الفائدة الثانية: « أنّ الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف، كان أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون بياناً واحداً»[9]. من هنا وضع المصنفون كتبهم في أبواب وفصول...
الفائدة الثالثة: « أن القارئ إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهزّ لعطفه، وأبعث على الدّرس والتحصيل منه لو استمرَّ على الكتاب بطوله. ومثلُه المسافر، إذا علم أنه قطع ميلاً، أو طوى فرسخاً، أو انتهى إلى رأس بريد: نَفَّسَ ذلك منه وَنَشَّطَهُ للسير».
الفائدة الرابعة: « أن القارئ إذا حفظ السورة، اعتقد أنَّه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة، فيعظم عنده ما حفظه، ويجل في نفسه ويغتبط به. ومنه حديث أنس رضي الله عنه: (كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جَدَّ فينا) ».
الفائدة الخامسة: « أنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحظ المعاني ويتجاوب النظم، إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع) ».
وعن مميزات السورة القرآنية قال ابن عاشور:
« تنزَّل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنىً عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام، وصحَّة التقسيم، ونكت الإجمال والتفصيل، وأحكام الانتقال من فنّ إلى آخر من فنون الغرض، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع، وفصل الجمل ووصلها، والإيجاز والإطناب، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نَظم الكلام»[10].
رابعا: نتائج وملاحظات
استخلص الزمخشري نتيجتيْن:
الأولى: « جزَّأَ القرّاء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً».
والثانية: « قراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل».
ومن الملاحظات التي يمكن سوقها هنا:
تَوَقُّفُ المفسرين عند فوائد تقطيع القرآن سوراً، فقد أوجز البيضاوي – مثلا – هذه الفوائد بقوله:
« والحكمة في تقطيع القرآن سوراً: إفراد الأنواع، وتلاحق الأشكال، وتجاوب النظم، وتنشيط القارئ، وتسهيل الحفظ، والترغيب فيه»[11].
ويلاحظ أن قراءة الكتاب شبيهة برحلة تحتاج إلى محطات للاستراحة، وما المحطات إلا أبواب الكتاب وفصوله.
ولا شك أن هذا التصوُّر للسورة باعتبارها مدينة مُسوّرة بعلم التناسب في القرآن، وهو علم يبحث في جانب هام من إعجاز القرآن يُعنى بالترابط والتآلف والتناسق بين الآيات والسور، ومن فوائده أنه يساعد في تفسير القرآن والكشف عن السياقات، وعن الهندسة المعمارية لأجزاء البنيان في السورة الواحدة.
وعندما يتقرر لدينا أنَّ السورة هي مدينة مسوّرة؛ أنها لها معمارها الخاص يتم تحديد معالمه بالدخول في مكوناته ومظاهره العامّة والخاصة من خلال مساقاته وعلائقه وجمالياته. وبوجود ذلك السور حول معالم السورة في القرآن الكريم؛ تمّت حماية العمران الموجود بداخلها؛ فلا يستطيع كائنا من كان أن يستبيحها، أو يقترب من أسوارها. ومما قاله ابن الجزري ( أبو الخير محمد بن محمد 833هـ) في ديباجة كتابه (كفاية الألمعيّ في آية ﴿ يا أرض ابلعي) وهو يتحدث عن مكانة القرآن، وعمّا فضله الله تعالى به عن بقية الكتب؛ فقال: «  وفضله على الكتب، فجاء به آخراً، أوجب له تقدماً منع سُورَ سُوَرِه أن يُستباح له حماه»[12].
وفي الأخير سؤالان:
الأول: هل دخلنا إلى السور القرآنية على اعتبار أنها مدن مسوَّرة لها معمارها الفني؟
الثاني: قال الزمخشري: « ولأمر ما أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه على هذا المنهاج مسورة مترجمة السُّوَر». فهل اطلع الزمخشريّ على هذه الكتب، وهل كانت مترجمة مسورة مترجمة على عهد الزمخشريّ؟







[1]  لسان العرب [ مادة: سور].
[2] تفسير التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور 1973 – د.ط [ الدار التونسية، تونس، د.ت]:1/85.
[3] تاج العروس [ مادة: سورة].
[4] مجاز القرآن: أبو عبيدة ( معمر بن المثنى 209هـ)، تحقيق: د. محمد فؤاد سزكين – ط1[ مكتبة الخانجي، القاهرة، 1954]:1/3 -   المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطية ( عبد الحق بن غالب 546هـ)، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد - ط1[ دار الكتب العلمية، بيروت،1993]:1/57 .
([5] ) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: الزمخشري ( محمود بن عمر538هـ)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض - ط1[مكتبة العبيكان، الرياض، 1989]:1/218 – 219، بيروت، 1988]: 218 – 219.
[6] أنوار التنزيل وأسرار التأويل: البيضاوي ( عبد الله بن عمر 791هـ) – ط2 [مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1986]:1/35.
[7] الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ( محمد بن أحمد 671هـ)  - ط1[ دار الكتب العلمية، بيروت، 1988]:1/47.
[8] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: البقاعي ( إبراهيم بن عمر 885هـ) – ط1[ 1969]:1/163.
[9]  أثبت ابن عاشور بيّاناً واحداً؛ أي شيئا واحدا ( بيّانا واحدا بموحدتيْن ثانيتهما مشددة. قال السيد، وكأن الكلمة يمانية:1/86 هامش.
[10] تفسير التحرير والتنوير:1/336.
[11] تفسير البيضاوي:1/35.
[12] كفاية الألمعيّ في آية يا أرض ابلعي – ط1[ دار الآفاق الجديدة، بيروت، 2003م]، ص 71.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق