الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

تقديم لكتاب محاضرات في علوم القرآن والحديث للدكتور عبد السلام الخرشي (1943 – 2011م)




عباس أرحيلة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، والعاقبة للمتقين، وبعد؛
فهذه محاضرات د. عبد السلام الخرشي؛ عالِمٍ افتقدتْه الأمَّةُ، وهو في أوج نضجه وعطائه، وهي في أشدِّ الحاجة إليه. عالم عرفته مدينة مراكش في الثلث الأخير من القرن العشرين، وفي العشر الأوائل من القرن الواحد والعشرين؛ داعيا إلى الله بحاله ومقاله، مع علوِّ  همَّة، وشموخ معرفة، وحرية فكر، وزهد في سفاسف الأمور، مع نزوع إصلاحيّ وإحساس قويّ بوطأة العصر وما آل إليه حال المسلمين في معترك هذه المرحلة من تاريخهم.
محاضرات ألقاها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وقد تناثرت في دفاتر طلبته وما طَبَعَه منها لهم، وما تزال أصداؤها تتردَّد في ردهات الكلية، كما أن تلك الأصداء ما تزال راسخة في أذهان كل من استمع إليها من طلبة شعبة الدِّراسات الإسلاميَّة وغيرها.  وها هي تلك المحاضرات اليوم، تعرف طريقها إلى النور، بعد أن يسّر الله تعالى جمعها وطبعها؛ ووضعها بين أيدي طلبته خاصّة، وأيدي القراء من محبيه وغيرهم عامّة؛ لتستفيد منها أجيال الطلبة والباحثين على مدى السنين.
هناك من سيقرأ هذه المحاضرات من طلبته ومن غيرهم؛ فيخيَّل إليه أن صوت عبد السلام الخرشي ما يزال يتردّد عبر  أثير مدينة مراكش؛ صوت تختلج في نبراته رغبة في إيقاظ أمة من غفوتها، وإخراجها من تيهها وغفلتها، وإحياء روح العزَّة في كيانها، وتنبيهها إلى مواطن تلك العزة في عقيدتها.
صوت ينصهر فيه شموخ الماضي بجلاله وجماله، صوت يستحضر مسار حاضر يتعثّر في أوهامه وأهواله، ويتطلّع لمستقبل تتهاوى فيه الإيديولوجيات، وما أحدثته في البشرية من اختلالات وتناقضات وانحرافات. صوت يصدح بالحقيقة الإسلاميَّة باعتبارها منطلقاً للتجربة البشريّة على الأرض، ودون تلك الحقيقة تتلاشى أوهام الحداثة بتلويناتها وأصوات التغريب التي تتخللها. صوت يجعل الوحي هو المنطلق في حركة الوجود؛ إذ لا استقامة للبشرية في الحال والمآل دون جعله صدىً لحركتها في الوجود.
صوت ينبض بهموم الأمّة حين تنبثق من النَّصيْن المؤسسيْن لهويتها. ومن ذلك الانبثاق تجد نفسك أمام نوع من الرجال لا تُنسيهم السنون، وتظل أحاديثهم حيَّة في خلجات النفوس.
أشرتُ يوم تكريمه إلى هذه المحاضرات سنة (23 مايو 2009م)، التي كانت تغمر أجواء كلية الآداب بأريجها، وحرارة إيمان صاحبها؛ فقلت إنها كانت « توقظ الصمت، وتوقظ الهِمم، وتذكّر دنيانا بمجالس العلم في زمن عزّة الإسلام، وتُحفّز من لا طاقةَ له بالعلم أن يَجدّ في طلبه، ويرغب في الدخول إلى معتركه؛ وحينها تستشعر النفس مسؤوليتها فيما هي مطالَبَة به في دنياها، وما أعدته من عُدَّة لأخراها»[1].
صوت يُذكر الأجيال بالأستاذ حين يستوعب في قراءاته وتجربته ما قيل، ويتجا وز في ممارساته وموقفه ما يُقال، وتستقيم له آلَتيْ الفهم والاستنباط، ويكون صاحب قضية؛ فتصبح الحقيقة الإسلاميّة لديه مُنسابةً بأدلتها وبراهينها من نصوصها، محصَّنَةً بآلياتها وقناعاتها وجاذبيتها وحضورها في معترك الحياة.
يُطلُّ علينا الأستاذ عبد السلام الخرشي من خلال هذه المحاضرات بروح متوثِّبة، مهمومة بأوضاع المسلمين، وما يعترضها من تحديات، وما تتخبَّط فيه من حيرة وفشل وانقسامات. وكان الأصل في مثل هذه المحاضرات ألا تخرج في مساقاتها العامة عن الحقائق والمعلومات التي واكبت مسار القرآن الكريم والسنة النبويَّة؛ مما تقرَّر في المصادر القديمة والحديثة على السواء؛ غير أننا نجد صاحب هذه المحاضرات يقدم تلك الحقائق والإفادات، في موكب شعورِه الحادّ  بمأساة أمة تعيش معاناةَ الحفاظ على هويتها، والدفاعِ عن وجودها، وصيانةِ مقوماتها.
فالوحي في محاضرات الأستاذ عبد السلام منهج يضمن التعايش بين بني البشر، يحصِّن حركة الحياة من آفات الانحراف، وبه تتحقق شمولية النظر لكل ما يُحيط بمسار التجربة البشرية على الأرض في الحال والمآل. وما القرآن إلا برهان النبوة المتجدّد بمخاطبته للعقل مناط التكليف في أمور العلم والعدل والسياسة ونظام المال والتكافل والتراحم، كما يقول.
وأثناء تحديده لمفهوم القرآن الكريم، لاحظ ما آلت إليه حقيقة الوحي في الوجدان البشريّ، وقدّم مفهوماً خاصّاً، جديراً بالتقدير والاهتمام؛ أقامه على ضرورةِ استكناه حقيقة ذلك المفهوم – كما تصوره -«والعملِ بمقتضاه، والدعوةِ إليه، والمطالبةِ به، وتبليغِه، والتضحيةِ من أجله، حسب الوسع والإمكان».
وستظل محاولته لتحديد مفهوم القرآن؛ ممّا يُخلّد محاضراته هذه، ويجعلها من العلامات الدالة على تكوينه العلميّ، وشخصيته القوية، وروحه الوثابة نحو آفاق التغيير؛ مما يتأكد  معه أن الأستاذ عبد السلام كان صاحب موقف، وصاحب رؤية إسلامية؛ يُعرب عنها نزوع إصلاحي واضح المعالم؛ لا يخلو من أبعاد إنسانيّة عميقة.
فما كان هَمُّ الأستاذ عبد السلام تقديمَ معلومات حول علوم القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف؛ وإنما ظل همّه أن يجعل المعلومات والإفادات لها غايات من أجلها كان التدريس، ومن أجلها كان التعليم والتّعَلُّم، وفي ضوئها  تقرّرتْ ضرورة طلب العلم في تاريخ البشرية عامة، وفي حضارة الإسلام بشكل خاص؛ فلنستمع إليه يقول:
 « فلتكن علوم القرآن مادّةً تعمل على شحذ الذهن وتمرينه على توليد الأفكار، وإرهاف الحسّ، واستعداده للنوازل قبل حلولها؛ وهي مادة صالحة لتربية العقل على التحليل والتعليل، ورفضه للاستسلام والقبول لكل ما يُعرَض عليه».
ولنقرأ قوله في محاضرته الثانية:
« ولولا القرآن لتمكّن أصحاب الإيديولوجيات والمذاهب وسماسرتهم من التحكم في الإنسان، وصُنْعِه على الشكل المرغوب فيه، وَوَضْعِه ضمن دائرة محددة سلفاً، حتى وهو يُعارض؛ فإنما يُرَوِّجُ لما يخدُم وجهاتٍ معينةً، وَعَتْ مصالحَها وحدَّدَتْها في قوالبَ وأطروحاتٍ توخَّتْ فيها السهولةَ لكل بَبَّغاء على استعداد لتَردادها. ومن غير شك أن كل مسلم ملزَمٌ بأن يعتقد أن الحق المطلق المجرد التام الواضح في القرآن وحده، ويدعو كل مرتاب في هذه المسلمة أن يقرأ القرآن ليتمكن من ذلك أو يرفُضه.
لابد، أن نتعلم من دراستنا لعلوم القرآن ضبطَ كل تحرك، وتحديدَ كل لفظ يصدر عنها، ومراعاةَ المراحل وترتيبَ الأعمال، وتوثيقَ الأخبار والمعلومات، وحلَّ الإشكالات، والردَّ الحاسمَ على الشبهات، وكيفيةَ الجدل مع الأغيار، وعمليةَ الاستقراء والملاحظة ثم الاستنتاج؛ فهي الأساس لكثير من علوم القرآن الكريم».
أما السُّنَّة فلا غناء عن دورها في التعامل مع كتاب الله، «ولا تَغِيبُ هذه الحقيقةُ الناصعةُ إلا بطغيان الغفلة وغلبة الجهل».
حين تسمع الأستاذ عبد السلام في محاضراته تلك، تجد نفسك في لحظة أمام عالم من طينة غير ما عهدتَه في حياتك العلميَّة. تراه يخترق وجدانك وعقلك فيحلق بك من خلال لحظتك الراهنة؛ ليعْبُرَ بك إلى ما تتخبط فيه الإنسانيّة اليوم من تيه وضياع باسم الحداثة، وما رسخته في مسار الإنسانية من أوهام في حياتها المعاصرة.

ستظل هذه المحاضرات – وإن جاءت في سياق دروس تُقدّم معلومات وإفادات حول علوم القرآن والسنة – دعوةً إلى الاحتكام إلى منهج الله عز وجل في حركة الحياة، دعوة من أحد دعاة التنوير الحقيقيّ، والتغيير الحقيقيّ، دعوة تناهض مظاهر الاستلاب في الأمة، وتكشف عن الاختلالات الواقعة في الفكر المعاصر، والقصور الواقع في عقول كثير من دعاة المرحلة الراهنة.
قد يفتقد بعض قراء هذه المحاضرات شيئاً ممّا أقول، ولكن الأجيال التي تابعت هذه المحاضرات تعرف حقيقة ذلك من خلال ما كان يسري بين تضاعيفها من شروح وتعليقات، وما كان يُضفيه عليها صاحبها من ملاحظات وتوجيهات حيوية؛ تجعل من الدرس لحظة انتشاء وسعادة غامرة، لحظة يستحضرها، بكل تفاصيلها، كل من تابع هذه المحاضرات.
كانت رحلة الأستاذ عبد السلام في حياته العلميّة مع النصوص التي انتظمتْ بها العقيدة الإسلاميّة، وانبنت عليها حضارة الإسلام في التاريخ الإنسانيّ. وتميزت تلك الرحلة بحرصه الدائم على الاستمداد من النَّصيْن المؤسسيْن للهُوية الإسلامية، وصلاحية منطلقاتهما في تأهيل الحضارة الإنسانيّة عامة أن تستقيم على المنهج الذي ارتضاه الله تعالى لخلقه.
وكانت حياة الأستاذ عبد السلام تجربة فريدة مع الثقافة العربية الإسلامية في مدينة مراكش، كانت له متابعة دائمة لما ظهر من مصادرها ومراجعها قديمها وحديثها؛ تراه  باحثا عما طُبِعَ منها، أو مسافراً بحثاً على بعض نوادرها. وفي لحظة من تلك التجربة انشدّ بشكل خاص إلى الدراسات الحديثة التي ارتبطت بالواقع الإسلاميّ وما يعترضه من تحديات. وقد انكشف لديه، في تجربته تلك - وهو يعايش اليقظة الإسلامية التي عرفتها الأمة في سبعينيات القرن العشرين - زيفُ الإيديولوجيات التي شغلت كثيرا من العقول من أبناء جيله.
ولا شك أن الفكر هنا يستحضر الأطروحة الرائدة للدكتور عبد السلام الخرشي العلمية التي تحمل عنوان (فقه الفقراء والمساكين في الكتاب والسنة أو الحل الإسلامي لمعضلة الفقر)؛ وسيجد التناغم الحاصل بين هذه المحاضرات وتلك الأطروحة.
لقد سبق لي أن قلت بمناسبة تكريمه بمؤسسة البشير سنة 2009م أن الأستاذ عبد السلام «كان صنيعة الإسلام، عجنته الثقافة الإسلامية بقيَمها، وشدته إلى مقاصدها، وغمرت روحه بسِيَرِ أهلها، وطبعته السنة النبوية بحقائقها وبضوابطها لحركة الحياة؛ فعرف حقائقها مما صحَّ منها؛ وانضبطت بها حركة حياته.
فما عادت تنفكّ روح عبد السلام عن منهج الإسلام، وما عاد شيء ينفك في حياته عن قول الله عز وجل، وعن قول الرسول الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه.
امتلأت روحه بذلك المنهج فما عاد فيها متسعاً لما يجري في معترك عصرنا من أوهام تحركها خلفيات صهيونيّة؛ غايتها إطفاء نور الله في الأرض، وصدّ الناس عن سبيل الله».
لقد حظيت هذه المحاضرات بمراجعة دقيقة من لدن كريمته الفاضلة السيِّدة مهجة الخرشي، وابنه البار الأستاذ واصل الخرشي، ثم تولّى مراجعتها ثانية أخوه الفاضل الأستاذ عبد الرحمن الخرشي.
أدعو الله عز وجل أن تظل هذه المحاضرات من مصادر ومراجع ما كتب في علوم القرآن والسنة؛ تقديراً لأهميتها، وإكباراً لمقاصدها، ووفاءً لجهود صاحبها.
وإني لتغمرني سعادة خاصة وأن أكتب هذه العبارات في تقديم هذه المحاضرات؛ ومبعثُها أني أقرأ فيها العِلْمَ حين يكون في خدمة الحق، وأسمع فيها صوت عبد السلام وهو يذكِّر الدنيا بعزة الإسلام، وأتذكر من خلالها حبيبا افتقدتُه، وأجده حيّاً في هذه المحاضرات.
ووفاءً لذكرى صداقة كانت من مفاخر العمر؛ كان حرص السيِّد يوسف عبد الله لعبيد أن تعرف هذه المحاضرات النور في طبعتها الأولى على نفقته الخاصة.
 تغمّد الله الأستاذ عبد السلام، وأسكنه بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وجعل هذه المحاضرات علماً يُنتفع به إلى يوم الدّين. والحمد لله رب العالمين.






[1] كلمة ألقيت بمناسبة تكريم العلامة الدكتور عبد السلام الخرشي، وبمناسبة صدور الطبعة الثانية من كتابه ( فقه الفقراء والمساكين في الكتاب والسنة أو الحل الإسلامي لمعضلة الفقر)، في حفل  نظمته مؤسسة البشير بمشاركة النادي الأدبي بمراكش بتاريخ 23 مايو 2009م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق