الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

ابن عبد البر القرطبي وديوان أبي العتاهية[1]




عباس أرحيلة

أولا: ابن عبد البر من رموز إثبات الذات الأندلسية
يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، أبو عمر النَّمَري، القرطبي (368-463ﻫ). ولد في قرطبة مهوى الأفئدة والعقول، في أهم مركز للإشعاع الثقافي في الغرب الإسلامي، وتنقل بين شرق الأندلس وغربها أيام ملوك الطوائف. وقد عمر طويلا وتولى قضاء الاشبونة ( عاصمة البرتغال الآن) وشنترين في أيام ملكها المظفر بن الأفطس، وكانت وفاته بمدينة شاطبة من شرق الأندلس[2].
فاق في علم الحديث من تقدمه، وما وجد أحد في زمنه يضاهيه، أو يبرَع براعته فيه. فقد أصبح إمام عصره في الحديث والفقه، ونعته بعضهم ببخاري المغرب، كما اعتبر شيخ الإسلام، وحافظ المغرب، «على أنه لم يخرج من الأندلس، لكنه سمع من أكابر أهل الحديث بقرطبة وغيرها، ومن الغرباء القادمين إليها»، كما قال الحميدي (420-491ﻫ)؛ أحد تلامذته[3].
عاصر ابن عبد البر الفتنة القرطبية (399-421ﻫ)، وعايش التفكك الطائفي في الأندلس، وما رافقه من تحرك للمد المسيحي في الشمال، ووجد علماء زمانه قد ابتعدوا عن مصادر التشريع، واهتموا بالمختصرات وكتُب الفروع، فتشعبت بهم الطرق، ذلك «أن الفروع لا حدَّ لها تنتهي إليها أبدا، فلذلك تشعبت. فلذلك من رام أن يحيط بآراء الرجال، فقد رام ما لا سبيل له»[4].
وهكذا رد ابن عبد البر الناس إلى فقه الكتاب والسنة، وشرح الموطأ على طريقة أهل الحديث. وأسهم في ترسيخ المذهب المالكي في ربوع الأندلس، بتخصصه في الفقه المالكي. وأذاع بمؤلفاته المغازي والسير والأنساب وتواريخ الرجال؛ لتكون النماذج الإسلامية ماثلة أمام أنظار سكان هذا الثغر الإسلامي.
وقد شاعت تآليفه بين الناس، وكانت لها آثارها في توجيههم وتكوينهم يقول ابن بسام (542ﻫ)، صاحب الذخيرة:«وتواليفه اليوم تيجان رؤوس العظماء، وأسوة العلم والعلماء»[5].
صار ابن عبد البر أكبر علماء الأندلس بفضل موسوعيته في الحديث والفقه، ورفضه للجمود، واعتماد الاستدلال في تمحيص آراء المجتهدين؛ فكان من كبار المجتهدين الذين تميزوا بالاستقلال في التفكير. وأرى أن ابن عبد البر قد اعتمد الموارد العلمية المحلية، وجاءته الإجازات كتابةً من مكة ومصر، فقدم نموذج الاكتفاء الذاتي بالأندلس، وكان رمزا لإثبات الذات الأندلسية أمام المشرق. وحين كانت الخلافات تمزق ملوك الطوائف، والمد المسيحي يتربص بشمال شبه الجزيرة الإيبيرية، كان ابن عبد البر يحصن الذات الإسلامية في هذا الثغر الإسلامي، وحتى حين اتجه صوب الأدب فقد اختار منه ما يقوي تلك الذات ويسمو بها روحيا.
ثانيا: عناية ابن عبد البر بالأدب
بالرغم من انشغاله الدائم بالحديث والفقه والتاريخ، فقد كان أديبا يحفظ عيون الشعر العربي، ويستشهد بها في دراساته وأبحاثه. وقد كان والده من الشعراء وأهل الترسل. وكان ابنه عبد الله، أبو محمد (474ﻫ) من كتاب ملوك الطوائف «حل من كتاب الإقليم محل القمر من النجوم... تهادته الآفاق، وامتدت إليه الأعناق»[6]، وجعله ابن خلكان من أهل الأدب البارع[7].
وقد تبحر أبو عمر يوسف في العربية كما تبحر في الفقه والاخبار، وألف كتابا دل على اطلاعه الواسع. وتتبعه الدقيق لمعاني الشعر العربي. وهو كتاب «بهجة المجالس وشحْذ الذاهن والهاجس» (حققه د. محمد مرسي الخولي). ضمنه عيون المعاني التي اختارها من الشعر والنثر؛ مما يمكن أن يُستشهد به في المحاضرات، والمواقف، وقد قسم الكتاب إلى مائة واثنين بابا، وكل باب يستقل بموضوع خاص، يفتتحه بالآيات والأحاديث ويتبعها بما يناسبها من الأخبار والأشعار والحكم والأمثال والنوادر.
 ومن مميزات الكتاب التي حددها محققه: محمد مرسي الخولي أنه حفظ لنا «مادة مشرقية فقدت مصادرها في المشرق نفسه، ولم تصل إلينا إلا من طريقه، ومن أهم ذلك: شعر منصور الفقيه الأديب المصري الموطن؛ الذي كان شعره مشهورا في الأندلس في ذلك الحين... وما أورده للشاعر البغدادي محمود الوراق"... وأن " الكتاب هام ومفيد لمعرفة ألوان الثقافة المشرقية التي وصلت إلى الأندلس حينذاك".
كما أن ابن عبد البر "أورد قدرا ممتازا من شعر الشعراء الأندلسيين؛ كيحيى بن حكم الغزال ويوسف بن هارون الكندي الرمادي..."، وأتى بأمور هامة تفيد في دراسة  تطور الأدب الأندلسي في القرنين الرابع والخامس الهجريين»[8].
ويلاحظ أن ابن عبد البر اختار في كتابه من الحكمة السامية ما به يتحقق تقويم السلوك الإنساني. ووجد محقق الكتاب أن ما جمعه ابن عبد البر في بهجته كله من الشعر العفيف؛ الطي لا تجرح ألفاظه حياء، مع الحرص على استقصاء المعنى وإيراد عدد وافر مما قيل فيه نظما ونثرا[9].
ولا أعرف كتابا في العربية جمع فيه صاحبه هذه المعاني، بهذا التفصيل والتنويع والتدقيق والاستيعاب، من خلال قراءاته في الأدب العربي. وهكذا اشتمل الكتاب على ثروة أدبية لا توجد في غيره. وكان من جملة الشعراء الذين استشهد بهم كثيرا في بهجته: أبو العتاهية.
ثالثا: ديوان أبي العتاهية «الاهتبال بما في شعر  أبي العتاهية من الحِكَم والأمثال»
لعل اهتمام أصحاب التراجم بالجانب الفقهي من ثقافة ابن عبد البر؛ صرفهم عن عنايته بديوان أبي العتاهية. فلم يلتفت كثير منهم إلى مجهوده هذا. وعنايته بشعر أبي العتاهية وجمعه ذكرها في كتابيْن من كتبه:
الأول: جامع بيان العلم وفضله، جاء فيه:" قال أبو عمر: تدبرت شعر أبي العتاهية عند جمعي له؛ فوجدتُ فيه ذكر البعث والمجازاة والحساب والثواب والعقاب"[10].
الثاني: نزهة المجالس  وأنس المُجالس وشحذ الذاهن والهاجس، حيث قال في تعليقيه على بيتيْن أوردهما لأبي العتاهية:" وأشعار أبي العتاهية في ذم الدنيا كثيرة جدا، وقد جمعتُها شعرا على حروف المعجم مما قاله في المواعظ والحكم".[11]
ووردت الإشارة إلى عنايته هذه، على سبيل المثال، في المصدريْن الآتييْن:
أولا: جاء في ترجمة أبي العتاهية في سير أعلام النبلاء: " وقد جمع أبو عمر بن عبد البر شعره وأخباره"[12].
ثانيا: ورد في توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم لابن ناصر الدين الدمشقي 842هـ، أنه " رتَّبَ شعر أبي العتاهية على الحروف"[13].

وديوان أبي العتاهية الموجود حاليا في أصوله الخطية هو من صنعة ابن عبد البر، بل يقع ديوانه ضمن مجموعة ابن عبد البر في المكتبة الظاهرية العمومية بدمشق. كما جاء عند بروكلمان. وعلى صنعة ابن عبد البر اعتمد المهتمون بشعر أبي العتاهية دراسة وتحقيقا.
وأول من أخرج ديوان أبي العتاهية، في العصر الحديث، كان الأب لويس شيخو (1859-1927). ظهر الديوان بعنوان «الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية» (ط 1، بيروت، المطبعة اليسوعية، 1886). وقد اعتمد شيخو على الديوان الذي صنعه ابن عبد البر؛ إذ قام بناء الديوان، دون شك، على نسخة الظاهرية، الواقعة ضمن مجموعة ابن عبد البر. ولاحظ د. شكري فيصل في مقدمة تحقيقه لديوان أبي العتاهية؛ أن صنيع لويس شيخو لم يخضع لخطة تُذكر، ولا لمصادر موثوقة، وأنه طمس معالم عمل ابن عبد البر حين سكت عنه وأغفل التعريف به، ولم يشر إلى مدى ما أفاده منه،  كما لاحظ عليه التحريف في الكلمة الواحدة وفي التركيب، وحذف البيت، وطي الأبيات ذوات العدد[14].
ونشر فؤاد إفرام البستاني مجموعة من شعر أبي العتاهية في بيروت سنة [15]1927، وأشار بروكلمان إلى ترجمة زهديات أبي العتاهية إلى الألمانية (ريشر Rescher).
وجاء د. شكري فيصل فأعاد تحقيق ديوان أبي العتاهية «الزهديات» كما صنعه ابن عبد البر، اعتماداً على نسختين خطيتين:
الأولى: نسخة الظاهرية (ظ)، وقد جمع فيها ابن عبد البر شعر أبي العتاهية؛ مقتصرا على جانب الزهد فيه، «إلا ما كان من تسرب أبيات من اللامية، وعدد من أبيات الأرجوزة»، ولعل ابن عبد البر كان من غاياته أن يبرئ أبا العتاهية مما نسب إليه من الزندقة [ص8].
النسخة الثانية: نسخة توبنجن (ت)، وقد عثر عليها د. شكري فيصل أثناء زيارته لألمانيا سنة 1956. وهي أقدم المخطوطتين، وقد كتبت بخط مغربي مشكول. والشعر فيها مرتب تبعا للقوافي في ترتيب الألفباء المغربية، بخلاف نسخة الظاهرية.
ومقدمة ابن عبد البر توجد في النسختين معا، وإن حاول كاتب النسخة (ب) أن يغير بدايتها. لقد أثبت د. شكري فيصل مقدمة ابن عبد البر كما وردت في النسخة الظاهرية المعتمدة في التحقيق. وأصبح عنوان الديوان:«أبو العتاهية. أشعاره وأخباره»؛ إذ اعتبر المحقق الأخبار والأشعار وجهين لحقيقة واحدة: هي وجود هذا الشاعر من حيث هو إنسان، ومن حيث هو فنان[ ص17].
رابعا: مقدمة ابن عبد البر
أ‌-     جمع ما صح عند أهل العلم بالأدب في موضوع الزهد
يقول ابن عبد البر في مقدمة الديوان:«فإني رأيت أن أجمع في كتابي هذا، إن شاء الله تعالى، من شعر الأديب الأريب، والشاعر اللبيب، أبي العتاهية إسماعيل بن القاسم... المعروف في زهدياته بالنزاهة والرفاهية... وهو في الزهد والمواعظ والأمثال والحكم، أشهر من نار على علم؛ مما صح عند أهل العلم بالأدب والأخبار، ورواة النوادر والأشعار، وما صنفوه واختاروه، وألفوه وذكروه»[ص26].
وقد شهد ابن عبد البر لأبي العتاهية بالنزاهة في الزهد، وبالشهرة فيه، مما صح عند أهل العلم بالأدب، كما شهد له بالأدب والعقل، فلماذا هذا الاختيار؟ وما هي الغاية من صنعة هذا الديوان، وجمع ما تناثر فيه من المواعظ والحكم؟
ب‌-أهمية الديوان في أحوال الناس ومآلهم
أحس ابن عبد البر بأهمية موضوع هذا الديوان في ارتباطه بأحوال الناس، وما يضطربون فيه بين الحال والمآل. فوجد أن هذا النوع من الشعر «يُعين أهل العقل والدين والتقوى، ويبعثهم على الزهد في الدنيا، ويذكرهم فقْد الفَوْت وما بعده، وما فيه من موعظة وتذكرة بالغة راسية، عسى أن تَلين القلوب القاسية. فما أحوجها إلى ذلك مع غفلتها عما يراد منها، وقساوتها وتشاغلها عما خلقت له، وإليه مصيرها، وكان الأولى بها ادكارها وتذكيرها»[ص26].
وأكد هذا بقوله:" والذي حملني على اختصاص شعر هذا الشاعر... كثرة ما في شعره من ذكر التقوى، وما يزهّد في الدنيا ويُرغّب في الأخرى، وهو في شعر غيرِه وجودٌ في عدم، وفيه أيضا ضروب من الحكم" [ص27].
اختار ابن عبد البر من الأدب ما يوقظ النفوس من غفلتها، ويجعلها تحس بلحظتها، وتتذكر مآل أمرها. أدب يحمل رسالة توجيهية، تنبه الإنسان إلى ما خلق له، وتعينه على النظر في حياته ومماته، أدب يبعث على الزهد في الدنيا وزخرفها. ويحمي النفوس من الإقبال عليها، والنفوس في حاجة إلى الموعظة والتذكير، وصرفها عن الأهواء والرغبات والشهوات. وهكذا جعل ابن عبد البر للأدب وظيفة إنسانية، في المجتمع الإسلامي، تعين العقل، وتقوى الدين وتُلين القلب القاسي، وتذكر وتنبه، وتنهي النفس عن غيّها ومناها على حد قوله.
وغاية ابن عبد البر أن يُفيد نفسه أولا، ويُفيد قارئه ثانيا. يقول:«ولولا أني رجوت لنفسي ذلك، ولمن طالعه وتدبره كذلك...؛ لما جمعته، ولا رسمته وكتبته» [ص26].
ج- لماذا شعر أبي العتاهية دون غيره؟
أحس ابن عبد البر أن القارئ قد يتساءل عن سر اهتمامه بشعر أبي العتاهية، دون غيره من كبار الشعراء؛ فقال:«والذي حملني على اختصاص شعر هذا الشاعر، دون غيره من الأكابر، كثرة ما في شعره من ذكر وتقوى، وما يزهد في الدنيا ويرغب في الأخرى. وهو في شعر غيره وجود في عدم. وفيه أيضا ضروب من الحكم، قد احتوى عليها نظمه الرائق، وقاده إليها طبعه الفائق. وقد شهد له شيوخ الأدب بالطبع السليم، وأثنوه عليه بتقدمه في الفهم المستقيم» [ص27].
فأبو العتاهية فاق شعراء العربية في موضوع الزهد؛ إذ  اشتمل ديوانه على ما يزهد في الدنيا ويرغب في الأخرى. فقد حاك فيه ضروبا من الحكمة قاده إليها طبعه. وأسعفته عليها ذائقته، وشهد له العلماء بالطبع واستقامة الفهم.
ومما أورده ابن عبد البر من أقوال شيوخ الأدب في أبي العتاهية:
-         قول الفراء (207ﻫ): «أزعم أن أبا العتاهية أشهر أهل العصر».
-    وقول ابن الأعرابي (231ﻫ): «والله ما رأيت شاعرا قط أطبع، ولا أقدر على بيت شعر منه، ولا أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر».
-    وقول المبرد (285ﻫ): «كان إسماعيل بن القاسم، أبو العتاهية، حسن الشعر، قريب المأخذ. لشعره ديباجة، ويخرج منه كمخرج النفس قوة وسهولةً واقتداراً».
وبعد أن ذكر رأي كل من أبي نواس وبشار بن برد في أبي العتاهية، قال ابن عبد البر:«فهؤلاء أئمة النحو والفقه والشعر يشهدون له بالطبع والإحسان والتقدم في صناعة الشعر» [ص28 – 32].
وأثر الثقافة، الحديثية، على ابن عبد البر، واضح في مقدمته هذه، فتراه يسوق أسانيد الأخبار على نحو قريب من طريقة المحدثين في ضبط السند، يقول مثلا:«أخبرنا عبد الوارث بن أبي سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: سمعت مصعب بن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى، يقول...» [ص27].
كما يتضح علمه بأخبار الرجال من خلال حديثه عن لقب أبي العتاهية. «قال أبو عمر: أبو العتاهية لقب غلب عليه، وعرف به، كما غلب على أبي الزناد، فقيه أهل المدينة وفارضها ومحدثها أبو الزناد، واسمه عبد الله بن ذكوان، يكنى أبا عبد الرحمن» [ص34].
د- شاعر خرج من الضلال  إلى الهدى
إلى جانب الاعتبارات الذاتية والموضوعية التي ساقت ابن عبد البر إلى صنعة هذا الديوان، هناك تجربة شاعر كبير خرج من الضلال إلى الهدى، وانصرف ـ كما يقول ابن عبد البر ـ «عن طبقته من الشعراء المستخفين، إذ بان له من ضلالهم، ما زهّده في أفعالهم، فمال عنهم، ورفض مذاهبهم، وأخذ في غير طريقهم، وتاب توبة صادقة، ونوَّر الله تعالى قلبه، فشغله بالفكرة في الموت وما بعده» [ص37].
لقد أدرك ابن عبد البر ما حدث في نفسية أبي العتاهية من انتقال من حياة ماجنة إلى حياة زاهدة تعاف اللهو والعبث.
هـ- مواعظه كأنها مأخوذة من الكتاب والسنة
يكشف ابن عبد البر سر إعجابه بشعر أبي العتاهية، حين يجد مواعظه وحكمه التي بثها في ديوانه قريبة من الكتاب والسنة. ومن كثرة تذوقه لأشعار أبي العتاهية وجدها «كأنها مأخوذة من الكتاب والسنة، وما جرى من الحكم على ألسنة هذه الأمة». فنبه ابن عبد البر بقوله هذا إلى أن زهد أبي العتاهية نابع من المناخ الإسلامي، وأرجعه إلى القرآن والسنة وأقوال الزهاد والعباد من معاصريه.
 وقد حاول بعض المستشرقين إرجاع حركة الزهد في الإسلام إلى تأثيرات من خارج المحيط الإسلامي: بوذية حينا ومسيحية أحيانا أخرى، وحاولوا أن يجعلوا النواحي الإسلامية أقل ما في الزهد الإسلامي[16].
ويذكر بروكلمان أن أبا العتاهية كان مولعا كثيرا بافتتاح أبياته بلفظ:«أين» ولعل ذلك راجع إلى تأثير وعاظ النصاري، كما أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن تذكرنا المعاني الشعرية في ديوانه بنظرات الشاعر السرياني: يعقوب السروجي ... وقد بين الأستاذ ريشر Rescher في ترجمته الألمانية لديوان أبي العتاهية ما في زهدياته من المعاني والأفكار النصرانية»[17].
والاستشراق مسكون دائما بهاجس البحث عن المؤتمرات الخارجية. حين يتناول أي جانب من الفكر الإسلامي! أما ابن عبد البر فوجد معاني أبي العتاهية تنبثق من الفضائل التي حضت عليها آداب الإسلام، وجاءت على ما جرى من الحكم على ألسنة هذه الأمة،على حد قوله.
و- دفع الزندقة عن أبي العتاهية
لما درس ابن عبد البر شعر أبي العتاهية وجد تجربة دقيقة في حياة إنسان انقلب من النقيض إلى النقيض، خرج من حياة المستخفين الماجنين إلى حياة التائبين الصالحين، «مال إلى الطريقة المثلى... ونور الله تعالى قلبه»: واحتكم ابن عبد البر إلى شعره، فوجد عمق التوحيد في سويداء صاحبه، وراح يدفع الزندقة عن أبي العتاهية، ويضع حدا للافتراء عليه. وعجب من ابن قتيبة (276ﻫ) كيف جاز عليه ما نسبه أهل الفسق حسدا له، ولم يتدبر أشعاره في التوحيد والإقرار بالوعد والوعيد، والمواعظ التي لا يفطن لها إلا التائب السليم القلب»[18].
والخلاصة:
أن ابن عبد البر كشف في مقدمته لديوان أبي العتاهية عن حس نقدي مرهف. نبه إلى جانب من الأدب الإسلامي، كأنه أخذ من الكتاب والسنة. واستوعب تجربة شاعر انتقل من حواسه وآنيته إلى روحانية وانشغال بفكرة الموت وما بعده. ومقدمة الديوان مقالة منهجية تفيد دارس الأدب ومؤرخه، وتدعوه إلى تدبر الشعر وتفحص الأخبار في ضوء ما صح عند أهل العلم بالأدب، ثم أي أدب؟ الأدب حين يكون رسالة تنبه الإنسان إلى ما خلق له، وتجعله يحدق في مصيره، ولا يتنازل عن عقله ودينه.
مصادر البحث ومراجعه
1 - مشاركة في تكريم د. عباس الجراري، نشرت في : زهرة الآس في فضائل العباس" ط1[ دار المناهل، وزارة الشؤون الثقافية]:2/774 - 804
2 - وفيات الأعيان: ابن خلكان، تحقيق: د. إحسان عباس – ط1[ دار صادر، بيروت، د.ت]:7/67 - 71
3 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، الحميدي – ط1[  الدار المصرية للتأليف، القاهرة، 1966م].
4 - جامع بيان العلم وفضله: ابن عبد البر: تحقيق: أبي الأشبال الزهيري – ط1[ دار ابن الجوزي، السعودية، 1944م].
5 - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة: ابن بسام الشنتريني، تحقيق: د. إحسان عباس – ط2[ دار الثقافة، بيروت، 1979م]:2/3/125
6 - نفسه:3/1/126
7 - وفيات الأعيان:7/71 - 72
8 - بهجة المجالس وأُنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس: ابن عبد البر، تحقيق د. محمد مرسي الخولي – مقدمة المحقق،:ب – ط2[ دار الكتب العلمية، بيروت، 1982م]: 1/19 – 20
9 -   نفسه: 1/20 ]
10 - جامع بيان العلم وفضله: يوسف بن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري: 1/1111
11 - بهجة المجالس وأُنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس: 2/293
12 سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي 748هـ، أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرنؤوط، وحقق هذا الجزء محمد نعيم العرقسوسي – ط2[ مؤسسة الرسالة، دمشق،2003م]: 10/195 – وجاء فيه أن أبا نواس كان يعظم أبا العتاهية، ويتأدب معه لدينه، ويقول: ما رأيته إلا توهمتُ أنه سماويٌّ وأنا أرضيٌّ.
13 - توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم: محمد ابن عبد الله، ابن ناصر الدين الدمشقي 842هـ، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي – ط1[ مؤسسة الرسالة، بيروت، 1993].
14 - أبو العتاهية: أشعاره وأخباره، تحقيق: د. شكري فيصل – ط1[ دار الملاح للطباعة والنشر، 1964م] – الأرقام الواردة بين معقوفين هكذا: [ تحيل إلى صفحات هذا المصدر].
15 - تكرر صنيع لويس شيخو في نحو أربع طبعات، وظهرت طبعة دار صادر في بيروت سنة 1964م، وظهرت أيضا طبعة دار بيروت  للطباعة والنشر 1986م.
16 - تنظر آراء المستشرقين في كتاب: اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني: د. محمد مصطفى هدارة – ط1 [ دار المعارف القاهرة، 1963م]، ص 284 - 285
17 -   تاريخ الأدب العربي: بروكلمان، ترجمة: د. عبد الحليم النجار – ط4 [ دار المعارف، القاهرة، 1977م]:4/35
18 - مقدمة ابن عبد البر لديوان أبي العتاهية، ص37





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق