الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

ومات أيضا عبد السلام الخرشي


عبد السلام الخرشي
  
عباس أرحيلة

     رَنَّتْ هواتف الأقربين والأبعدين من داخل مراكش وخارجها، وتردد في الأثير عبر الفضاءات: لقد مات عبد السلام الخرشي. لقد مات عبد السلام… لقد مات…
كان عقرب الساعة يزحف نحو العاشرة مساء، من يوم يُودِّع فيه شهر شوال سنةَ 1432 للهجرة - الموافق لـ 28/9/2011- حين صعدت روح عبد السلام إلى باريها؛ لله ما أعطى وله ما أخذ…

أَيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلِي جَزَعَا  *** إنَّ الذي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقََعَا


 مزَّق رنين الهواتف سكون كثير من أحياء مراكش، وهز النعي جنبات المدينة؛ والتهبت الهواتف حاملة نبأ الفاجعة …

كَذَا فَلْيَجلَّ الخَطْبُ ولْيَفْدَحِ الأَْمُر***  فَلَيْسَ لعَيْنٍ لم يَفِضْ ماؤُها عُذْرُ

 وبعد برهة، تدافعت جموع من المحبين ليلاً نحو بيت قرة العين، بحي آسيف… الصمت يلف المكان، أزيز السيارات والدراجات النارية يقترب من البيت…
 أنفاس الوافدين تتصاعد متقطعة في ذهول… وظلت رنات الهواتف يتقاسم أصحابها العزاء، ولم يكن العزاء سوى تأوهات وبضع آهات…
 هدأ الليل، وتوزعت شرايين الحي ما تبقى من أزيز السيارات والدراجات النارية …
أنفاس الأحبة تتلاحق، وما عرف النوم طريقه إلى العيون إلا لماما… وما زالت رنات الهواتف تتقاطع مع الصمت، وتحاور الزمن بأنفاس خافتة…
أهكذا ترحَل يا عبد السلام؟… فَمَنْ بعدَك يَطْرُد الغفلة من ديارنا، ويُزيح الظلمة عن دروبنا… من بعدك ينفث عزة الإسلام في نفوسنا…
جسد الحبيب مسجى، وبقربه، مصادر من تراث الإسلام تحدِّق في الظلام…
وبعد حين، تجاوبت أصوات المؤذنين في أجواء الأحياء المتاخمة لآسيف، وتفجَّر نور الفجر؛ متسللا عبر نافذة الخزانة …وتراقصت أضواء باهتة على الجسد المسجى…
وبعد صلاة الصبح, اتجه كل من بلغه النبأ صوب رَبْع الحبيب، إلا مَن منعته الموانع فاستكان يُمضُّه الأسف، وتنهشه الحسرة…
 توارد على الرَّبْع أحبة من داخل المدينة ومن خارجها، تعتريهم حيرة ووجوم… أنظارهم شاردة، ونفوسهم منقبضة… أنفاسهم متصاعدة، ولسان حالهم يقول: أَحقّاً حلّ بديارنا المُصاب؟  أَحَقّاً رحل الحبيب…؟
بعد برهة، صار باب بيته بمثابة خلية نحل، ومع "الحاج واصل" – ابنه ووارث سرِّه - تعانقت الأرواح وتواصلت…
أما "الحاج يوسف" فكان يحظى بوداع خاص لصفيه وحبيبه…
وبدأت الجموع تتجه صوب المسجد القريب من بيته… وفي العاشرة صباحا غص بالمصلين، وكأني بمكانه في الصف الأول ما يزال ينتظر قدومه، كما عوّده على ذلك…ولعله بكاه حين رآه، بعيداً عنه، مسجى…
ضاق المسجد واكتضَّ بالواقفين، وضاقت جنباته بالسيارات والدراجات النارية وغيرها… وساد صمت خرقته تكبيرات أربع…
وتحرك حاملو نعشه صوب مقبرة باب دكالة. وملأت السيارات شرايين الحيّ، فشوارع المدينة…
أوقفت الجنازة الراجلين، والغرباء العابرين، وساد التسامح بين السائقين، وتاهت عيون السائلين والحائرين…
جنازة أيقظت النائمين، ونبهت الغافلين، وحيَّرتْ أرواح المحبين، وغاضت قلوب من أخلدوا إلى الأرض من المستكبرين…
من يكون هذا الميِّت الذي تحتشد في جنازته كل هذه الجموع، وتلتقي في مسارها كل هذه الوجوه؟ أما يزال في مدينة الحمراء من يحمل له الناس كل هذا التقدير، وهذا الوفاء؟
أما يزال لرجل كل هذا التأثير؟
افتقدناك يا عبد السلام افتقدناك، وحين رجعنا إلى دنيانا وجدناك؛ فأنت حيٌّ فينا، وسنسعد ما بقينا يوم عرفناك…
بكيناك حين غِبْتَ عنا، وحين رجعنا إلى دنيانا وجدناك…
ومات أيضا عبد السلام،…
مات رجل تحبه المساجد والمدرجات والمنتديات…
مات رجل تبكيه جلسات العلم وتفتقده المحاضرات…
مات من منح كلَّ مَنْ عرفه معنىً جديداً للحياة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق