الثلاثاء، 15 سبتمبر 2015

حقيقة كتاب «الأغاني» في ذاته وعصره[1]




عباس أرحيلة
         تمهيد:
عاش صاحب الأغاني ( عليّ بن الحسين، أبو الفرج الأصفهاني:284 - 356 –ـ)[2] في مدينة بغداد ملتقى العلم والعلماء، في مرحلة بلغت الحضارة الإسلاميّة العربيّة شأْواً بعيداً في الرقيّ والإبداع. وتنقل بين مراكز الحضارة: حلب، وبغداد وبلاد فارس. ولقي حظوة عند بني حمْدان في حلب، وبني بويه في بغداد، وما وراءها ( كتب لركن الدولة البُويهيّ، وانقطع لمنادمة الوزير المهلبيّ 252هـ). عايش نزعة شعوبيَّة فارسيَّة شيعيَّة في بغداد وما وراءها، ونزعة عربيّة قوميّة سنيّة في حلب، وعاصر نزعة أُمَوِيَّة سنِّيَّة في بلاد الأندلس؛ فتناعته الأهواء، وانطبعت باهتمامه وسلوكه ومؤلفاته. وبرز في مجالس الندماء والأدباء والعلماء. ألف ما يزيد على ثلاثين كتاباً، بقي منها كتاب (الأغاني)[3]و(مقاتل الطالبيين)[4] و(أدب الغرباء[5].
        وحظي أبو الفرج وكتابه (الأغاني) بدراسات مستقلة متعددة، وخاصة أواسط القرن العشرين[6].
أما كتاب (الأغاني) فقد اعتُبر من ذخائر التراث العربيّ؛ فكان نسيجَ وحْدِه في بابه؛ استثمره القدماء والمحدثون ونوهوا به، واعتبرَهُ بعض المستشرقين أهم مصدر للحضارة العربيَّة الإسلاميَّة. وأكتفي هنا بمسألتيْن:
 أولهما: مقدمة كتاب (الأغاني).
 ثانيهما: القول باكتساح الكتاب للعالم الإسلامي في عصره.
أولا: وقفة مع مقدمة كتاب (الأغاني)
        أريد أن أستحضر مع القارئ ما بدأ به أبو الفرج كتابه، وهو ما اصطُلح على تسميته بخطبه الكتاب أو مقدمته؛ ففي ذلك ما يُفيد في تحديد طبيعة هذا المشروع، وحقيقته وبواعث تأليه، ومقاصد صاحبه، مع إرفاق ذلك بالملاحظات المناسبة ( تقع المقدمة في ست صفحات، طبعة دار الثقافة ط4).
1 – بواعث تأليف كتاب (الأغاني):
        يقول أبو الفرج:« والذي بعثني على تأليفه أن رئيساً من رؤسائنا كلَّفني جَمْعَهُ له (...)، فتكلَّفْتُ ذلك له على مشقة احتملْتُها»[6][7].
        فمن يكون هذا الرئيس؟ فبالرغم من وفرة الأخبار حول كتاب (الأغاني) وانتشاره في الحواضر، ودخوله خزانات أمراء العصر، وعلاقات صاحبه بأولئك الأمراء؛ من أمثال سيف الدولة، وعضد الدولة البويهيّ، والصاحب بن عباد، والوزير المهلبيّ، وابن العميد، وابن البريدي، والمستنصر بالأندلس؛ فإنَّ الأخبار لم تذكر اسم الرئيس الذي كلَّفه بتأليف الكتاب، إلاَّ ما كان من قول ابن زاكور الفاسي في شرحه لـ(قلائد العقيان) من أن الصاحب بن عباد هو الذي عمٍلَ له أبو الفرج كتاب (الأغاني)[8].
        وتأخرُ خبر ابن زاكور الفاسي في التاريخ، لا يجعل الإهداء إلى الصاحب مستبعداً؛ إلا أن الصاحب تولى الوزارة سنة (350هـ)، فكيف يبدأ أبو الفرج تأليف كتابه سنة (360هـ)، ويستغرق خمسين سنة في تأليفه، وتقول الرِّواية الشائعة أن أبا الفرج توفي سنة 356هـ! ثم ها هو المهلبي المتوفى سنة 352هـ يستقبل الكتاب، ويسأل أبا الفرج:« في كم جمعت هذا الكتاب؟» فقال: في خمسين سنة، ويخبره أنه كتبه مرة واحدة في عمره، كما ذكر ياقوت[9].
        وكيف يُخفي أبو الفرج اسم الصاحب، وقد توفي الصاحب وهو في عز مجده وسلطانه،« وكان يُسعد أبا الفرج، فيما نعتقد، أن يُهدَى الكتاب إلى الصاحب، وأن يذكره في مقدمة الكتاب باسمه لا بصفته تلك التي يُفسرها بالرياسة»[10].
        وأظن أن إخفاء الرئيس يعود إلى ملابسات خاصة، جعلت الرئيس الذي أمر بتأليف الكتاب في وضعية لا يُحسد عليها، وفي (كتاب الغرباء) الذي ذكر محقِّقُه: صلاح الدين المنجد، أنه كُتب بعد 362هـ؛ نجد أبا الفرج في مقدمة ذلك تائها يائسا في غربته، يُعاني من عوارض الهم ونوازل الغم، ومن تقسم القلب، وحرج الصدر. يقول أبو الفرج:« فأشغل النفسَ في بعض الأوقات بالنظر في أخبار الماضين (...) فربما أسلتُ ذا الشجَن (...)، فأنا في ذلك كغريق اللجة بما يجد يتعلق، ويتشبث للحياة ما لحِق»[11].
        ثم إن أبا الفرج خُلطَ قبل موته كما تقول الروايات[12].
        أ - ومن المحتمل أن يكون المقصود بالرئيس الحَكَم المستنصر(355 - 366هـ)؛ نتيجة تعاطفه مع الدولة الأُمويَّة بالأندلس، فقد ذكر الخطيب البغداديّ (463هـ) أن أبا الفرج كان يؤلِّف الكتبَ إلى الأندلسيين، ثم يُرسل بها إليهم، فتظهر عندهم قبل ظهورها في المشرق، بل لا يكاد المشرق يعرف عنها إلا العنوان[13].
وتردّد في كتب التراجم أنه كان يُصنف الكتب لبني أمية فيُسيِّرُها إليهم سِرّاً، وتأتيه الجوائز سِرّاً. وذكر أبو علي المحسن التَّنُوخي (384هـ) صاحب (نِشْوار المحاضرة) أنه كان معه في مجلس أبي الفرج، شيخٌ أندلسيٌّ قدِم من هناك لطلب العلم، ولزِمَ أبا الفرج. وكنتُ – يقول التنُوخي – أرى أبا الفرج يُعظِّمُه ويُكرمه ويذكر ثقتَه[14].
        ومن المعروف أن أبا الفرج أرسل نسخة من كتاب  (الأغاني) إلى الحكَم المستنصر فأجازه عليها.
        ب - ومن المرجح أن يكون المقصود بالرئيس الوزير المهلبي (352هـ)، وذلك لاعتبارات أهمها:
        - أن أبا الفرج والمهلبي لم يفترقا منذ مطلع شابيهما، إلى أن فرَّق بينهما الموتُ. فقد ظل أبو الفرج منقطعاً إلى المهلبي، مختصا به، نديماً له يؤاكله ويُشاربُه. وانتقلا معا من الفقر إلى الغنى.« على ما بينهما من التمازج النفسي، والالتقاء الكثير في الإرادات والاختيارات والشهوات، فتتوثَّق بينهما صداقة عقلية، ومؤاخاة روحيّة»[15].
وذكروا أن لمهلبي كان مُعْدِماً، وحين صار وزيراً؛ تهالك على الملذات، وأصبح يتناول كل لقمة بملعقة خاصة من ذهب.
        واحتمل المهلبي منادمة أبي الفرج ومؤاكلته، على قذارة هذا الأخير في المطعم والمشرب والملبس؛ إذ وجد في أدبه ما يُرضي هواه وغرائزه، ووجد فيه مادحَه، ومؤلِّفَ كتُبٍ له. وبناءً عليه تكون شخصية المهلبي هي المعنية بالرئيس؛ إذ مات المهلبي مغضوبا عليه من معز الدولة. فما أمكن لأبي الفرج أن يُفصح عن اسم من أهدى إليه كتابه. ووجدتُ د. محمد أحمد خلف الله يذهب إلى هذا الرأي ويعتقده[16].
        2 - ما هي مقاصد أبي الفرج من تأليف هذا الموضوع؟
إن الرئيس الذي كلفه بتأليف الأغاني عرَّفَ أبا الفرج،« أن الكتاب المنسوب إلى أبي إسحاق (بن إبراهيم الموصليّ) مدفوعٌ أن يكون من تأليفه، وهو مع ذلك قليل الفائدة، وأنه شاكّ في نسبته؛ لأن أكثر أصحاب إسحاق يُنكرونه، ولأن ابنَه حمّاداً أعظمُ الناس إنكاراً لذلك... يقول: ما ألّف أبي هذا الكتابَ قط ولا رآه... وإنما وضَعَهُ ورّاقٌ كان لأبي عند وفاته» [5]. ويمكن إجمال مقاصد أبي الفرج من تأليف كتاب (الأغاني) في أربعة مقاصد:   
        المقصد الأول: تصحيح المادة الفنِّية والأدبيَّة والإخباريَّة المتعلقة بالأغاني العربيَّة؛ إذ كتاب (الأغاني الكبير) المنسوب إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، العالم بصناعة الغناء؛ مشكوك في نسبته إليه، بل هو موضوع.
        المقصد الثاني: إتمام النقص الموجود في الكتاب؛ وذلك بإغناء الكتاب بالفوائد المقنعة؛ إذ الكتاب المنسوب إلى إسحاق الموصلي« قليل الفائدة»، ولاحظ أبو الفرج أن الأغاني الواردة فيه ليست « مذكورة الطرائق، ولا هي بمقنعة من جملة ما في أيدي الناس من الأغاني، ولا فيها من الفوائد ما يبلغ الإرادة» [6].
        المقصد الثالث: جَمْعُ أحسن ما كُتب من الأغاني العربيَّة. فقد ضمن كتابه « صفوة ما أُلِّف في بابه، ولُباب ما جُمع في معناه»، على حد قوله [4]، كما ذكر أنه جعل مواد كتابه «منتخبة من غُرر الأخبار، ومنتقاة من عيونها»[2].
المقصد الرابع: تقريب المادة المعرفية من أذهان المتعلمين. وأبو الفرج لم يُخفِ الجانب المعرفي في مشروعه، ولا أهمية الهدف التعليمي منه. فالمواد المتنوعة التي ساقها،« تجمُلُ – على حد قوله – بالمتأدبين معرفتُها، وتحتاج الأحداث إلى دراستها، ولا يرتفع (...) الكهول عن الاقتباس منها»[2]. من هنا راعى المنحنى التعليميّ في عرض مواد كتابه، وحاول تقريبها « على شرح ذلك وتلخيص وتفسير للمشكل من غريبه، وما لا غنى عن علمه من علل إعرابه وأعاريض شعره التي توصل إلى معرفة تجزئته وقسمة ألحانه»[1].
        3 - فما هو موضوع كتاب (الأغاني) ؟ وما هي طبيعته؟
سماه (الأغاني) لأنه دوّن فيه الأصوات العربيّة أي الأغاني العربيّة بنصوصها الشعريّة وألحانها. وبنى مادة كتابه على مائة صوت كان الرشيد أمر مغنيَه إبراهيم الموصلي أن ينتخبها له، وضمّ إليها أبو الفرج الأصوات إلى زيدت لحفيده الخليفة الواثق، ثم دوّن ما اختاره من مصادر أخرى فهو يقول في موضوع كتابه أنه جمع ما أمكنه جمعُه « من الأغاني العربيَّة قديمها وحديثها، ونسب كل ما ذكره منها إلى قائل شعره، وصانع لحنه، وطريقته من إيقاعه...
واعتمد على ما وجده لشاعره أو مغنيه، أو السبب الذي من أجله قيل الشعر أو صُنع اللحن، خبراً يُستفاد ويحسن ذكره (...)، وأتى في كل فصل بنتف تشاكله، ولُمَعٌ تليقُ به...[1] ومُتصرفا فيها بين جد وهزل، وآثار وأخبار وسيَر وأشعار، متصلة بأيام العرب المشهورة، وأخبارها المأثورة، وقصص الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام...»[2].
        فأبو الفرج يورد الصوت في النص المُغَنَّى (الكلمة واللحن)، يترجم لصاحب النص ولصانع لحنه، ويذكر السب الذي من أجله قيل الشعر وصُنع اللحن، ويستطرد في ما يتصل بالشاعر والملحن، وما يُحيط بهما من ظروف وملابسات، وما يرتبط بهما من آثار وأخبار.
        ففي الكتاب نجد:
-          ثروة شعرية (إذ يقدم منتخبات للمترجَم لهم تجعل من الكتاب موسوعة شعريّة، وتجعله من دواوين الشعر العربي).
-          ثروة موسيقيّة (تدوين الألحان والإيقاعات).
-          ثروة من تراجم الشعراء ( مع تفصيلات دقيقة عن أحوالهم، والظروف المحيطة بهم، وبيان خصائصهم الفنية).
-          ثروة إخبارية وقصصية من أيام العرب وملوكها من الجاهلية إلى نهاية القرن الهجريّ الثالث (يتوقف كتاب الأغاني عند حدود سنة 279 هـ).
-          ثروة حضارية ورد الحديث عنها أثناء تصويره للمراحل والمجالات التي تحرك فيها كل من الشاعر وصاحب اللحن، من قصور ومنتزهات ومنتديات ومجالس ومآكل ومشارب وقيان وخمور وآلات طرب...
فما هي طبيعة الكتاب؟
لعل أبا الفرج اختصر طبيعة كتابه بقوله:« روْنقٌ يروق الناظر ويُلهي السامع»[2]، فما قدمه في كتابه يروق النظر ويُبهجه، ويمتّعه بما عرض فيه من أوصاف لألوان من المظاهر الحضارية في العصور الأولى، وما اشتملت عليه من ملذات الحياة، وما قدمه في كتابه ممّا يُلهي السامع بألحانه، وإيقاعاته، ويُلهيه بفوائده وفرائده، ومُلَحِه وطرائفه، وقصصه التي لا تنتهي. فأبو الفرج لم يذكر في كتابه من أنواع الغناء إلا ما عَرَفَ له « قصةً تُستفاد، وحديثاُ يُستحسن»[2].
    فهو كتاب جمع بين الجد والهزل، ونبه على ذلك مرتيْن في مقدمته. والحق أن أبا الفرج استفاض في الهزل واختار الجوانب الشاذة من حياة المترجَم لهم من الشعراء والمغنين، وبعض الخلفاء؛ فأشبع نهمه من المجون والهزل، وأرضى غرائز الوزير المهلبي وندمائه؛ إذ قدَّم لهم ما يروق ويُلهي السمع. فجاء الكتاب حافلا بأخبار الخلاعة والمجون والزندقة، به مساس مكشوف بآل البيت النبوي، وبالخلفاء الأمويين، وبكثير من الخلفاء والعلماء، بل لا يخلو من استخفاف ووقاحة وبذاءة وافتراء[17].
    ولعل أبا الفرج أدرك خطورة هذا الجانب في مشروعه حين ذكر في نهاية مقدمته خوفه أن يبقى ما كتبه مخلدا على الأيام، « وإن كان مشوبا بفوائد جمة، ومعالم من الآداب شريفة»[6]. وكأني به قد أحس بوطأة الخلاعة والاستهتار بالقيم الإسلاميّة في كتابه، وأن حجم المجون يطغى في كتابه، وإن شابته فوائدُ جمّة. ويكشف دعاؤه في الأخير عما يعتلج في نفسه من حسرة حين يقول:« ونعوذ بالله مما أسخَطه من قول أو عمل، ونستغفره من كل موبقة، وقولٍ لا يُوافق رضاه، وهو وليّ العصمة والتوفيق، وعليه نتوكل وإليه نُنيب»[6].
فكأنَّ الرجلَ أحسَّ بأنه أتى بما لا يُرضي الله عز وجل من موبقات وخطايا في القول والعمل، وأنه أسخطه فطلب منه التوبة والغفران.
4 - طريقة أبي الفرج في تأليف (الأغاني):
أ– تضمين الكتاب أحسن ما في موضوعه. يبدو أن أبا الفرج نخل خزانةً ضخمةً في مجال الأغاني العربية، فانتقى لموضوعه « أحسنَ جنسه، وصَفْوَ ما أُلِّفَ في بابه، ولُبابَ ما جُمع في معناه»[4].
ب – إلغاء الحشو والتكثير: اشترط على نفسه الإيجاز في اختيار موادِّه؛ فاعتمد « على أقصر ما أمكنه وأبعدَهُ من الحشو والتكثير بما تقِلُّ الفائدةُ فيه»[4].
ج – اعتماده في منقولاته على أهل الخبرة: ولبيان صدق مروياته، ذكر أن عيون الأخبار التي انتقاها كانت « مأخوذة من مظانها، ومنقولة عن أهل الخبرة بها»[2].
وكيف غاب عن أبي الفرج أن مسألة الصدق في روايته هي أخطر ما في كتابه! وقد خصص لهذا الجانب د. محمد أحمد خلف الله كتابه:( صاحب الأغاني أبو الفرج الراوية). كما تناول هذا الجانب الشاعر العراقي وليد الأعظمي في كتابه: (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني)، وقد كشف ما نفثه أبو الفرج في كتابه من سموم  في تحقير الإسلام والعرب؛ مما يترجح معه أنه أهدى كتابه للمهلبي صنيعة آل بويه؛ وكأنه إهداء لكل آل بويه!
د - الانتقال من فائدة إلى أخرى: اختار في طريقة تأليفه أن يجعل قارئه ينتقل من فائدة إلى أخرى دفعا للملل. يقول أبو الفرج:« وفي طباع البشر محبةُ الانتقال من شيء إلى شيء، والاستراحة من معهود إلى مستجد، وكل منتقل إليه أشهى إلى النفس من المنتَقَلِ عنه. والمنتَظَرُ أغلب على القلب من الموجود»[4].
    فهو لم يرد أن يُرتب كتابه على طرائق الغناء أو على طبقات المغنين، أو على ترتيب النصوص الشعرية التي غُنِّيَ بها؛ بل فضَّلَ أن يترك الأصوات الغنائية تتوالى بين هزل وجد؛« جارية على غير ترتيب الشعراء والمغنين، وليس المغزى فيه ما ضمنه من ذكر الأغاني بأخبارها، وليس هذا مما يضر فيها»[3 – 4].
والخلاصة أن كتاب (الأغاني) جاء فيه ما يروق النظر ويُلهي السمع، فهو كتاب غناء، وأدب، وتراجم، وأخبار، وقصص، ونوادر، وملح، وتصوير لمظاهر حضارية عامة. فلا ينبغي أن نتخذ الكتاب مصدراً تاريخيا شأن المستشرقين[18]، ومن لف لفهم، أو أن ننخدع برواياته المسندة! فمن قدم رونقا يروق الناظر ويُلهي السامع لا تُلتمَسُ عنده الحقائق التاريخية، ولا تُعتمَدٌ أخبارُه في تقويم التراث العربي الإسلامي، وتقويم أعلامه وشخصياته. فالكتاب في تقدير ياقوت الحموي « جليل القدر، شائع الذكر، جمّ الفوائد، عظيم العلم، جامع ين الجد البحث، والهزل النحت ( الخالص)»[19].
    فما عسى أن تكون أصداء هذا الكتاب في عصره؟
ثانيا: انتشار الكتاب في عصره
1 – الأغاني كتاب يُقرأ في عواصم العالم الإسلامي:
أ – يعرف الكتاب النور في حلب، بعد خمسين سنة من إنجازه، ويُهدى إلى سيف الدولة الحمداني (356هـ)، فيُمنح صاحبه ألف دينار. وتجعله الرواية يعتذر لصاحبه عن ضآلة الجائزة. ويبلغ خبر الجائزة الصاحب بن عباد (385هـ)، فيقول:« لقد قَصَّرَ سيف الدولة وإنَّهُ يستأهلُ أضعافَها»[20].
ب – وطار الكتاب إلى الأندلس قبل أن تتلقفه أيدي الوراقين ببغداد؛ ذلك أن الحكم المستنصر (366هـ) لولعه باقتناء الكتب « بعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج، وكان نسبُه في بني أمية، وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يُخرجه إلى بغداد»[21].
    ويبدو أن الكتاب ظل متداولا في الغرب الإسلامي حتى أصبح أقل محفوظات عبد المجيد بن عبدون، كما ذكر عبد الواحد المراكشي في كتابه: (المعجب)، وحتى بلغ غاية الإعجاب من نفس أبن خلدون(808هـ) حين قال:« ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلمت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يُعدَلُ به كتابٌ في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنّى له بها»[22].
ج – وفي الريِّ من أرض فارس، لما دخل كتاب الأغاني خزانة الصاحب، وهي زانة قيل إن فهرسها يقع في عشرة مجلدات؛ أنساه مجموع كتبه، «ووصف الكتاب فأطنبَ ثم قال: ولقد اشتملت خزائني على مائتيْن وستة آلاف مجلد ما منها ما هو سميري غيره، ولا راقني منها سواه»[23]. ومن هنا أصبح يستغني به في أسفاره عن حمل ثلاثين جملا من الكتب.
    وأرض فارس أيضا يُخبرنا كاتب عضد الدولة البويهي، أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، أن كتاب الأغاني لم يكن« يفارق عضد الدولة في سفره ولا في حضره، وأنه كان جليسه الذي يأنس إليه، وخدينه الذي يرتاح نحوه»، ورُوي عن عضد الدولة قوله:« لو أمكن لجعلتُه تميمةً أتقلدها كما تُتقلد الرُّقى»[24].
د – وفي بغداد يسأل المهلبي أبا الفرج:« في كم جمعت هذا الكتاب؟ فقال في خمسين سنة. قال إنه كتبه مرة واحدة في عمره، وهي النسخة التي أهداها لسيف الدولة»[25]. وأمر أبو تغلب بن ناصر الدولة كاتبه ابن عرس الموصلي أن يشتري له كتاب أبي الفرج بعشرة آلاف درهم، فلما « وقف عليه، ورأى عظمه وجلالة ما حوى، قال: لقد ظلم ورّاقه المسكين. ولو فُقِدَ لما قَدَرتْ عليه الملوك إلا بالرغائب (الأموال الكثيرة)، وأمر أن تُكتب له نسخة أخرى، ويُخلد عليها اسمه»[26].
2 – ملاحظات وتعليقات:
أ – يلاحظ أن الكتاب لم يبق أحدٌ من أمراء العصر إلا اقتناه، وأن أيدي رجالات الدولة في القرن الرابع تداولته في حلب والأندلس وبغداد وفي أرض فارس، وأنه حظيَ لدى البويهيين بمكانة خاصة حتى تمنى عضد الدولة أن يجعله تميمة. والغريب حقا أن يصمت صاحب الأغاني عن العهد البويهي، ويُوقف مشروعه عند المعتضد العباسي سنة 279هـ، فلا يزيد ذلك البويهيين إلا إعجابا بالكتاب! وكأن أمر الغناء توقف!
ب – يلاحظ أن الأخبار حول شيوع الكتاب وتداوله في الأصقاع، وُجد أغلبها في (معجم الأدباء) لياقوت الحموي(626هـ)؛ أي بعد أكثر من قرنين ونصف من موت أبي الفرج، وكأنها من وضع النساخ واختراعهم حتى يكثر النسخ ويتسع الرزق؛ ذلك أن كتاب الأغاني – كما لاحظ د. محمد أحمد خلف الله – لم ينل حظه الفائق من الشهرة إلا بعد أن فقدت المكتبة العربية كثيرا من الكتب، وكثيرا من المرويات التي اعتمد عليها أبو الفرج، من هنا وَجَدَ شخصية أبي الفرج عادية، واعتبره أديبا مغمورا لا يُؤبَهُ لتاريخ وفاته[27].
ج – وهل أُهديَ الكتابُ إلى سيف الدولة الحمْداني؟
    نقل ياقوت الحموي من مقدمة منتخب كتاب الأغاني للوزير أبي القاسم الحسين بن علي المغربي أن أبا الفرج أهدى كتاب الأغاني إلى سيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار[28].
    كيف يُهدى الكتابُ إلى رأس الحمدانيين بحلب وهو العدو اللدود للبويهيين ببغداد؟ كيف يُهدى الكتاب إلى سيف الدولة، وعدوّهُ معز الدولة يودُّ لو اتخذ الكتابَ تميمةً يتقلدها كما تُتقلد الرقى؟ كيف يُهديه لسيف الدولة وهو لا يُفارق المهلبي عدو سيف الدولة؟ وكيف يُقبَلُ ما تناقله الناس من أقوال الصاحب حول جائزة الكتاب، والاستغناء به عن خزانة؟
    د - هذا أبو الطيب المتنبي يصل إلى بغداد سنة 352هـ، سنة وفاة المهلبي، حين يرفض مدحَ البويهيين، يتعرض له الحاتمي (388هـ) بالمناظرة، بإيعاز من معز الدولة ووزيره المهلبي، وتأتي «الرسالة الموضِحَة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره»؛ لتُصوِّر الصدام بين حلب وبغداد. وقد حدّد الحاتمي أسباب المناظرة في بداية الرسالة الموضحة بقوله:« لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي – مدينةَ بغداد، منصرفاً عن مصر...- التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعَّرَ للعراقيين خَدَّه (...)، يُخيَّلُ عُجْباً إليه أن الأدب مقصورٌ عليه (...) وساءَ معزَّ الدولة... أن يَرِدَ حضرَتَه وهي دارُ الخلافة، ومستقر العز وبيضةَ الملك، رجلٌ صدر عن حضرة سيف الدولة، وكان عدوا مبايناً؛ فلا يلقى أحداً لا يستطيع مساجلته، ولا يرى نفسه كفؤا له؛ نهدتُ له متتبعاً عُوارَه، ومقلما أظفارَه، ومُذيعاً أسراره»[29].
    وصرح الحاتمي قبل ذلك أن الوزير المهلبي قد كلفه بمهاجمة المتنبي وإخراجه من العراق، فقال:« لما تثاقل أبو الطيب عن خدمته ( المهلبي)...ولم يوفق لاستطمار كفّه... سامني ( أي كلفني وألزمني) هتْكَ حريمه، وتمزيقَ أديمه، وتصفُّحَ أشعاره، وإحواجَه إلى مُفارقة العراق»[30].
    هـ - والثعالبي (429هـ) الذي كان معجبا بسيف الدولة عقد فصلا في (يتيمة الدهر) لجوائز سيف الدولة، فلم يُشرْ إلى خبر الإهداء أو إلى الجائزة. ورجح د. محمد أحمد خلف الله أن الكتابَ لم يُهْدَ إلى سيف الدولة؛ نظراً للتنافس العلمي بين حلب وبغداد، وقال إن إهداء أبي الفرج كتابه إلى عدو المهلبي وعدو معز الدولة؛ يُعتبر بعيدا عن المألوف[31].
    وما في الكتاب من دعارة وفجور وشذوذ وتهالك وتحامل على العرب؛ يتنافى مع مزاج شخصية عربية تراقب الثغور في الشمال، وتتابع تساقط الخلافة تحت صلف البويهيين، شخصية هالها ما حدث لبلاد الإسلام على أيدي الأعاجم، شخصية لا تهتز إلا لسيفيات المتنبي وروميات أبي فراس!
    وفي الختام
أقول إنَّ كتاب الأغاني حفظ ثروة شعرية وأخبارا لها أهميتُها، وقدم أوصافا دقيقة لجوانب عديدة من الحضارة العربية الإسلامية، وحفظ ثروة من الأساليب النثرية غابت أصولها، ولم تُدرس بعد. ورسم منحنيات لتاريخ الأدب العربي، وقدم موسوعة من تراجم الشعراء العرب صورة أسهمت في تقدير النصوص وفهمها وتذوقها. كما اختزن الكتاب ثروة من الأحكام النقدية. وأرى أن الجوانب الحضارية في الكتاب لم تُستثمر بعدُ في دراسات خاصة، وأن المعلومات الواردة في الكتاب حملت جراثيم أهواء مختلفة توزعت نفس أبي الفرج، وتحتاج من القارئ إلى استعداد خاص لتقويمها.



[1]  نشر هذا المقال بمجلة المناهل المغربية، تصدرها وزارة الشؤون الثقافيّة ( قراءات في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني)، العدد47، السنة العشرون، محرم 1416هـ/ يونيو 1995م، ص27 – 42.
[2]  ذكر النديم الذي عاصره أنه توفي سنة نيف وستين وثلاثمائة، ص184[ تحقيق: علي يوسف الطويل]– وجعل الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد وفاته سنة 356هـ فتابعه كتاب التراجم – ودعا ياقوت الحموي في معجم الأدباء [ تحقيق: د. إحسان عباس: 4/1707] إلى النظر والتأمل في تاريخ وفاة أبي الفرج بوقوفه على ما جاء في كتاب أبي الفرج: (أدب الغرباء) - وينظر تفصيل ذلك في مقدمة تحقيق: (أدب الغرباء)، واختلاف الرواة في تاريخ وفاة أبي الفرج، وهو اختلاف لا يخلو من دلالة. و وفي ضوء ذلك  تكون وفاته بعد 362هـ.
[3]  ظهر الجزء الأول من كتاب الأغاني في عالم المطبوعات سنة 1840م، وظهرت الطبعة الأولى بمطبعة بولاق في عشرين جزءا سنة 1858م. 
[4]  مقاتل الطالبيين، طبع بطهران سنة 1890م، وبالنجف سنة 1924م، وحققه أحمد صقر، مطبعة عيسى الحلبي بالقاهرة سنة 1949م.
[5]  أدب الغرباء، نشره عن مخطوطة فريدة د. صلاح الدين المنجد، بيروت، دار الكتاب الجديد، ط1، 1971م.

[6]  أشهر الدراسات المستقلة التي تناولت كتاب الأغاني وصاحبه: - أبو الفرج الأصفهاني وكتابه الأغاني: محمد عبد الجواد الأصمعي، القاهرة، دار المعارف، 1951م. - صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية: د. محمد أحمد خلف الله، القاهرة، 1953م, - حل رموز كتاب الأغاني للمصطلحات الموسيقية العربية: هاشم الرجب، بغداد، 1967م. - معاني الأصوات في كتاب الأغاني: جرجيس فتح الله، بغداد، 1958م. - منهج أبي الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني: في دراسة النص والسيرة: داود سلوم، بغداد 1969م. - أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني: ممدوح حقي، بيروت، 1971م. - أبو الفرج الأصفهاني ناقدا: محمد خير شيخ موسى ( شهادة لنيل دبلوم الدراسات العليا، نوقشت بالمغرب سنة 1981م. - السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني: وليد الأعظمي، المنصورة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1988م.



[7]  الأرقام الواقعة ين معقوفين هكذا [     ] تشير إلى كتاب الأغاني، دار الثقافة.
[8]  صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية، ص85 [ ط3].
[9]  معجم الأدباء: ياقوت الحموي (626هـ)، تحقيق: د. إحسان عباس – ط1[ بيروت، دار الغرب الإسلامي،1993م]:4/1708

[10]  صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية، ص86 - 87
[11]  أدب الغرباء، ص21
[12]  تاريخ بغداد:11/398 – وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس – ط1 [ بيروت، دار صادر،1970]:3/309.
[13]  تاريخ بغداد:11/398.
[14]  معجم الأدباء: 4/1720
[15]  مقاتل الطالبيين، مقدمة المحقق، ص (ب).
[16]  صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية، ص91

[17]  ينظر: النثر الفني في القرن الرابع: د. زكي مبارك: 1/288 – 289، وخص وليد الأعظمي لهذا الجانب كتابه: السيف اليمانيّ في نحر الأصفهانيّ صاحب الأغاني.

[18]  خُصَّ أبو الفرج بترجمتيْن في دائرة المعارف الإسلامية:1/570 – 572 – ينظر: معجم المطبوعات العربية والمعربة: يوسف إليان سركيس:1/338 – وتاريخ الأدب العربي: بروكلمان:3/68 .
[19] معجم الأدباء: 4/1708.
[20]  نفسه: 4/1708 - وفي وفيات الأعيان:« وحمله إلى سيف الدولة ابن حمْدان فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه»:3/307.
[21]  نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: المقري ( أحمد بن محمد 1041هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد:1/362 – د.ط [ بيروت، دار الكتاب العربي، د.ت].

[22]  مقدمة ابن خلدون:3/1278 [تحقيق: عبد الواحد وافي، ط3].
[23]  معجم الأدباء:44/1720 - في وفيات الأعيان:« وحُكيَ عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمْلَ ثلاثين جَمَلا من كتب الأدب ليُطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه؛ استغناءً به عنها»:3/307 – 308
[24]  معجم الأدباء:4/1708
[25]  نفسه:4/1708

[26]  نفسه:4/1708
[27]  صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية، ص17.
[28]  معجم الأدباء:4/1708.

[29]  الرسالة الموضحة: الحاتمي، تحقيق: د. محمد يوسف نجم، ص6 – 7 – ط1[ بيروت، دار صادر، 1965].
[30]  المصدر السابق، ص6 – 7 .
[31]  صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني الراوية، ص78.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق