الأحد، 20 سبتمبر 2015

السِّي ميلود بوحفظ أحد المربين لجيل الاستقلال


عباس أرحيلة
كنا نحن جماعة من التلاميذ في المرحلة الأولى نتعلم القرآن بكُتّاب يقع قرب ضريح أبي العباس السبتي بالزّاوية العباسيّة؛ أحد أحياء مدينة مراكش، وكان ذلك أواسط الخمسينيات من القرن العشرين، حين بدأ المغرب يُزيح كابوس الاستعمار الفرنسي، ويتنفّس نسيم الاستقلال؛ وهو مثخن بالجراح، مثقل بالأحلام والآمال...

             جاء سي ميلود (1) وهو في مقتبل العمر، قصد الالتحاق بالتعليم الأصيل بمدرسة ابن يوسف، بعدما حفظ القرآن وألمّ ببعض القراءات، وبدأ حياته بمراكش مساعداُ لأخيه السي علي في تسيير شؤون الكُتّاب، وما هي إلاّ مدة يسيرة حتّى حلّ محلَّه، بعد انتقال أخيه إلى التدريس بالتعليم الأصلي.
             وتولّى السي ميلود مهمّة تعليمنا القرآن، ومعه بدأ مرحلة جديدة من حياتنا، مرحلة ظلّ لها تأثيرها في مشاعرنا وعقولنا إلى يومنا هذا.)  عبد اللطيف الصغير، عبد الحق الصغير، عمر العرومي، لعبادي إبراهيم، ميلود الدركوتي، المواسني عبد الإله، محمد سليم، الإدريسي مولاي الحسن...(.
      شهدت شخصية السي ميلود كل التحوُّلات التي عرفتها مطالع استقلال المغرب، فقد دخل مدينة مراكش قادماً إليها من الرحامنة ( قبيلة بني حسان)، وكان المغرب يشاهد حينئذ تحولات عميقة في مساره الحضاريّ العام.
              أصبح السي ميلود فقيه الكُتّاب، والطالب بمدرسة ابن يوسف، يتابع ما تحفل به المرحلة من تطورات بحماس وإيمان، ويُقبل على المطالعة بنهَم شديد. كان شيخنا مسكونا بهاجس التغيير في كل ما براه وما يُحيط به، مهتمّاً غاية الاهتمام بضرورة التطور ومواكبة العصر. كان له طموح لا يُحدّ، وكنا نراه لا يشغل نفسه بالبحث عن أسباب الأوضاع بقدر ما كان يُفكّر فيما ينبغي فعله لمجابهة الواقع والانخراط في تقلباته.
             كان الكُتّاب الذي نتعلم فيه القرآن يطل على ضريح أبي العباس السبتي، وهو مأوى للعميان والبؤساء والمعتوهين. وكان يدعونا في بعض اللحظات إلى التأمل في مظاهر البؤس التي تشهدها ساحة الضريح، وما يتخللها من مشاهد لا تليق بكرامة الإنسان. كان يرى أنَّ العلم الصحيح هو الوسيلة الوحيدة للخروج من التخلف الذي نراه، ومن مخلفات الاستعمار التي كتم أنفاس المغاربة، وأن العلم هو الوسيلة الوحيدة التي يحقق بها الإنسان كرامته، ويسمو بها في مدارج الكمال.
             لم تكن علاقتنا – نحن التلاميذ – بالفقيه السي ميلود علاقة مَن يتعلمون القرآن من شيخهم في الكُتّاب فقط، كانت علاقتنا تتسم بخصائص المرحلة، وما تشهده من تحولات وطموح، ورغبة في التحوُّل إلى الأحسن. كانت علاقة تتميز بروح الأخوة والصداقة وتقوم على الحوار، وإن كانت أعمارنا آنذاك لا تسمح لنا بالعمق اللازم.
             كان السي ميلود يريد أن يعلمنا القرآن، وفي الآن نفسه يجعلنا نُقبل على عالم المعرفة عن طريق المطالعة، وننفتح على روح العصر. كان يحرص على توجيهنا، وتقوية الوعي في نفوسنا. وبتوجيه منه أصبحنا نقرأ القرآن في الصباح، وندرس النصوص الأدبية بعد الزوال. وكان يُثير معنا قضايا لغوية وفكرية؛ تتناسب مع مستوياتنا في تلك المرحلة. وخصّص لنا ضمن ذلك وقتاً للقراءة الحرة، وهي قراءة جعلتنا نتحسس طريقنا إلى عالم الكتاب ونحن في الكُتّاب.
              كان السي ميلود يُشركنا في همومه الفكريّة، وينقل إلينا انطباعاته عمّا يقرأ من أبحاث ودراسات وروايات. ويربط كل ذلك بما يُشاهده المغرب من تحولات، وما ينبغي أن نتوق إليه من قيم حديثة.
             كان الكِتَاب لا يفارق يد السي ميلود، كان يَحْمِلُهُ بعناية وأناقة، وكانت عناوين كُتُبه مثيرة لفضولنا؛ مما يجعلنا نشتهي أن نَلْمَسَها، ونُقَلِّيَها بين أيدينا، وأن نقرأها. كان يقرأ لنا منها بعض الشذرات، ويُعلق عليها بطريقة مؤثرة، ويربطها في أغلب الأحيان، بما يجري حولنا. ويبدو أنه كان ينتقي من الكتب ما ينسجم مع طبيعة المرحلة ويدعو النفوس إلى الانعتاق من التخلف، والتحرر من مظاهر التأخّر.
             ما رأينا السي ميلود يعاشر إلا أهل الفضل والخلق والعلم. وقد عرفنا له صديقيْن على امتداد حياته؛ هما الأستاذ التهامي شهيد والأستاذ عبد الرحمن كضيمي. وقد سكنوا جميعاً مدينة الدار البيضاء. ولم يُفارق السي ميلود الدار البيضاء منذ حلَّ بها معلماً، ثم مديراً إلى أن تقاعد. وما زال يعيش بها بحي البرنوصي أطال في عمره.
             من منا لا يتذكّر السي ميلود؟ ومن من لا يتذكّر ما كان لهذا الرجل من أثر في نفس كل واحد منّا؟ ألم يأخذ بأيدينا حين كنا نتعثر في بداية الطريق؟ وما كانت تعويضاته آنذاك على كل ما بذله من جهود؟ أكان همُّه أن يحصل على تعويضات؟ ألم يكن رمزاً للتضحية والتفاني بصورة تجعلنا اليوم ذلك ضرباً من الأساطير؟
                    كان السي ميلود رمزاً لما يحمله جيل الاستقلال من تضحية وتفاؤل ونكران الذات. وإلى جانب ذلك كان السي ميلود رمزاً للتفتح على الحياة، مُعادياً لكل ما يدعو إلى التخلف.
              كان يدعونا أن نُحسّ بقيمة الوقت، وألاّ نضيِّعه هدْراَ في العبث.
             كان يدعونا أن نتطلّع إلى القيم الرفيعة، وألاّ نشغل أنفسَنا بصغائر الأمور.
             كان يدعونا أن نحاسب أنفسنا، ونكون في مستوى تحديات المرحلة.
              كان لنا بحق – نحن تلاميذ ذلك الكُتّاب - المعلم والمربِّي، والأخ والصديق. مَن يُصدِّق أن معلماً للكُتّاب على ذلك العهد يذهب بتلاميذه إلى المسبح البلدي ويعلمهم السباحة؟ ولم يكن في المدينة آنذاك سواه. ولا ندري اليوم كيف كنا ننتقل إلى ذلك المسبح بالرغم من بعده على حيّ الزاوية العباسيَّة. وما هي إلا مدة قليلة حتى أصبح جميعا يتقن السباحة. وما زلنا نتذكّر جميعاً أننا تعلمنا السباحة على يد السي ميلود.
             لقد فَتَّحْتَ أذهانَنا على الأوضاع التي كنا نعيشها، ونحن في تلك المرحلة من أعمارنا، وأشعرتَنا يومَها بما علينا من مسؤوليات تجاه أنفسنا وتجاه وطننا، وجعلتَ من الُكُتّاب مدرسةً حديثةً منفتحة على الرياضة والفنون والآداب. فما زلنا نتذكّر النصوص الأدبية التي اخترْتَها لنا، وما زلنا نحفظ بعضها. لقد كتبْتَها بخط جميل على سبورة الكُتّاب، ونقلناها في دفاترنا، وشرحتَها شرحاً كان قريبا من عقولنا ونفوسنا. وكم كنتَ تحسن اختيارَها لتكون قريبةً من أذواقنا.
كنتَ – يا سيدي -  شعاعاً أنار الدرب، وما زال الشعاع يُنير الطريق، ويُغذّي الذكرى، ويُلهب الوجدان، ويُذكّر بالسي ميلود. فما تزال روح السي ميلود ماثلة في النفوس والأرواح، ولا نشكّ أن السرّ فيما يربط بيننا اليوم هو ذلك الرباط الروحيّ الذي جمعنا مع معلمنا الأول: السي ميلود.
             هاهم تلامذتك يدخلون اليوم أطوار الكهولة، وظائفهم محترمة، أوضاعهم محترمة، يُحدِّقون فيك وكأنهم في حلم، ها هم يسعدون اليوم بلقائك، يستحضرون معك أياماً خلت. كانت أجمل حياتهم  الأولى. لقد كنا نلهج دوْماً بأفضالك علينا، وما قدمتَه إلينا من توجيهات، وما أفدتنا به من معلومات. كلنا نتذكرُ تفاني السي ميلود في توجيهنا، نتذكر كيف كان يجمع بين الصرامة واللين، نتذكَّر رغبتَه في التطور والتغيير، كلنا نتذكر شهامته وعزة نفسه وسلامة طويته وإخلاصه في يأتي وما يترك.
             إننا في هذه اللحظة نتذكّر جهودَك، فنجد ذلك الماضيَ ماثلاً في النفس، فتغمرنا سعادة اللقاء، ونحس بطعم السعادة.
       ونخبرك أننا قلما التقينا في السنوات الأخيرة ولم نتساءل عن أحوالك، كم همَمْنا بزيارتك بالبيضاء، ولا عذر لنا في الاَّ نسألَ عنك، وأنتَ مِمَّن يُسألُ عنه إذا ذُكرَ أهلُ الفضل، وذُكِرَ عظماء الرجال: إننا نشعر بشيء غير قليل من الخجل في تقصيرنا هذا.
             على أية حال، نلتقي اليوم لنتذكّر لحظات عرفنا فيها السي ميلود، عرفنا فيها المعلم المربي والرجل الشهم الذي قاد خطواتنا الأولى في دروب الحياة. اعلم أيّها الرجل الكريم، أننا نَدينُ لك بأشياء كثيرة، أمّا هذا اللقاء فما هو إلا وقفة نتذكر فيها جهودك، ونُقدِّرُها بكل إجلال وإعجاب وإكبار.

     (1) السي ميلود: بهذا كنا نتحدث عن شيخنا في الكُتَّاب: واسمُه ميلود بن محمد بن علي، بو حفظ، أصله من دوار ولاد ناصر، قبيلة بني حسان لبرابيش، الرحامنة، قرأ القرآن أول مرة على أبيه، وأخذ عنه قراءة ابن كثير.
ملاحظة:

أُلقيت هذه الكلمة بمنزل عمر العرُّومي، بمراكش، بمحضر السي ميلود وتلامذته، وكل من الأساتذة: التهامي شهيد وعبد الرحمن كضيمي، ومولاي الحسن العمراني، وتولى هذا الأخير نشر هذه الكلمة في اليوم نفسه الذي تم فيه اللقاء بجريدة (بيان اليوم) - 8 ماي 2004، بعنوان: مراكش تكرِّم ميلود بوحفظ أحد المربين لجيل الاستقلال. وكان الفضل في نشرها للأستاذ مولاي الحسن العمراني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق