الجمعة، 11 سبتمبر 2015

د. محمد ابن شريفة وفنّ التراجم


د. محمد ابن شريفة



د.عباس أرحيلة
تمهيد :

 تُشَكِّلُ تراجم الأعلام والسير في التراث الإسلاميّ العربيّ حلقات من التاريخ الحضاري العام، في أبعاده السياسية والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة.

وموضوع التراجم والسير تنتظم به تجربة المسلمين في تفاعلاتهم مع معترك الحياة خلال أطوار تاريخهم.  وهو موضوع ارتبط - أساسا - بالبعد الدينيّ في المرحلة الأولى من التَّدوين، حين كانت العناية بتاريخ الرجال تهدف إلى توثيق السُّنَّة النًّبوية، وضبط سندها.
وتوالت كتب التراجم والسير والطبقات، وتنوَّعت وتعدَّدت؛ بتنوُّع مجالات المعرفة وتعدُّدها، وحملت في طواياها صور أعلام العصور الإسلاميّة، وما عايشوه  فيها من ملابسات سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وفكريَّة.
وكتب التراجم بصنيعها هذا، قدَّمت مواد علميَّة غزيرة، لا تقف أهمِّيَّتها عند تصوير الأشخاص ووضعهم في سياقاتهم التَّاريخيَّة؛ وإنَّما أسهمت من خلال التعريف بالأعلام، في تحديد سمات تلك العصور، واستبطان ما حدث فيها من ظواهر وقضايا وتحولات.
وكان من ضمن اهتمامات مرحلة النَّهضة العربيَّة الحديثة، العناية بإحياء سير الأعلام، وإعادة تركيب صورهم الحياتيَّة في ضوء المصادر القديمة، وفي ضوء ما جد من مناهج وأبحاث تتعلق بوضعيَّة الفرد وتفاعلاته مع محيطه الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ؛ وما لكل ذلك من تأثيرات على تشكُّلِه النفسيّ والاجتماعيّ.
والدكتور محمد ابن شريفة، تميز من بين الباحثين المغاربة بعنايته الفائقة بتراجم أعلام الغرب الإسلاميّ، وأبان عن مهارة منقطعة النظير في وضع هذه التَّراجم، وترميم المجهول ونحت المغمور منها، إلى أن أخرجها صوراً حيَّة ناصعة تتَّحرك في سياقاتها التاريخيَّة.
وقد اتَّخذ من تراجم هؤلاء الأعلام وسيلة لترسيخ هُوِيَّة الغرب الإسلاميّ، وحضوره في معترك الحضارة الإسلاميّة بصورة فعّالة، كما اتَّخذها وسيلة لضبط حركية تاريخ هذا الجناح من الغرب الإسلاميّ.
وسأحاول في هذه الكلمة تقديم تجربته الرائدة في وضع التراجم، وتفنُّنه في صياغتها وبنائها ونحتها، وكل ذلك بمهارة، لا أجد ما يماثلها عند إلا عند فئة قليلة – فيمن عرفت - من الباحثين مشرقاً ومغرباً.

أوّلا: من أسباب عنايته بسير أعلام الغرب الإسلاميّ

1 -  إحساسه العميق بتقصير المغاربة في التَّعريف بأعلامهم، والتقاعس في إظهار مفاخرهم. فقد لاحظ في مطالع الستِّينيَّات، وهو بصدد تهيئ رسالته الجامعية حول ابن عميرة (582 - 658هـ)؛  أنَّ الآداب المغربيَّة، لم تحظ إلا بالنـزر اليسير من جهود الباحثين العرب، وأن الأدب الأندلسيّ الفسيح ما يزال يفتقر إلى العناية ومزيد الاهتمام. وقد لاحظ د. محمد ابن شريفة آنذاك، أن الدِّراسات عن أعلام هذا الأدب ظلَّت « مقصورة على طائفة مشهورة... بينما بقيت شخصيات أدبيَّة جديرة بالدِّراسة في حاجة إلى من يُعنى بها»[1].
وقد وجد د. محمد ابن شريفة  أن ابن عبد الملك المراكشي، المتوفى سنة ـ703 ه، ينعى على المغاربة إهمالهم وتقصيرهم في التأريخ لأعلامهم[2].
 والأستاذ محمد الفاسي، رحمه الله تعالى، في تصديره لكتاب ( أبو المطرف، ابن عميرة المخزومي: حياته وآثاره)؛ اعتبر هذا التقصير من « البديهيات عند علماء المغرب وذلك بسبب إهمالهم لتخليد أخبار رجالهم، وتسجيل حوادث أمجادهم،  خصوصا في ميادين الأدب والفكر، مما جعل تراثنا يضيع أو يبقى مشتتا في زوايا الإهمال »[3].
كما لاحظ أنَّ الحياة الأدبيَّة بالمغرب ظلت على هامش الحياة الفكريَّة، مما نتج عنه ضياع لأخبار أدبائه وآثارهم.
وقد أحسَّ د. محمد ابن شريفة بهول هذا التقصير من لدن المغاربة، في التعريف بأعلامهم، وتقديم سيرهم؛ فقام بهذا العبء، وكابده تحقيقاً وتأليفاً طيلة حياته العلميَّة الماضيَّة.
2 - انشغاله بالتحقيق العلمي لجوانب من تراث الغرب الإسلاميّ، كان لابدَّ أن يفضيَ به إلى العناية بكتابة التراجم؛ إذ مقدمة كلِّ تحقيق علميّ تقتضي التعريف بصاحب الكتاب، واستيعاب  ما يتوافر حوله من معلومات؛ وذلك حتى يتأتى للمحقِّق أن يضع الكتاب المحقَّق في إطاره العلميّ الصحيح.
 3 - اهتمامه المتزايد بتاريخ الغرب الإسلاميّ في جميع مراحله، مع عناية خاصَّة بالحركات الفكريَّة، والظواهر الثقافيَّة بشكل عام.
 4 - إيمانه بأنَّ أهل المغرب هم أقدر من غيرهم على تذوُّق أدب الغرب الإسلاميّ، وهذا لا يتناقض مع القول إن  التراث الأندلسيّ تراث عربي مشترك، وإنه تراث محسوب على المغرب وراجع إليه، وإنَّ كثيراً من أعلامه هم من أصول مغربية؛ من أجل هذا  كله« تحمل العبء الأكبر في إحياء هذا التراث»[4]، والتعريف برجالاته.
كان هذا هو الشعور القوميّ الذي استشعره د. محمد ابن شريفة في تلك الفترة من حياته العلميّة، فوطَّد العزم، منذ ذلك الحين، على رفع ذلك الحيف الذي لحق آداب الغرب الإسلاميّ.
 وهكذا وجد نفسه في غمار المخطوطات يبحث، وينقِّب ويؤسس ، ويفتح النوافذ والآفاق...
وقد رافقه هذا الشعور القوميّ طيلة حياته العلميَّة الماضية، فقد كتب سنة 1975 في مقدمة مقالته عن (تحقيق اسم سبتي: ابن بيَّاع لا ابن زنباع)، يقول: « نصَّ المؤرِّخون المتقدِّمون والمتأخرون من المغاربة، بحسرة مؤثرة، ولوعة موجعة، على الإهمال الذي علق بأعلام المغرب، والإجحاف الذي لحق بآثارهم »[5].

  ثانيا: ومن مقاصده في إنجاز هذا المشروع القوميّ

1                  - تحقيق رغبة دفينة في نفسه تحفزه دوما إلى ضرورة الإسهام في إحياء تراث الغرب الإسلاميّ، وإبرازه حيّاً داخل منظومة الفكر الإسلاميّ العربيّ في الشرق، والاضطلاع بمهمَّة تاريخيَّة هيَّأ لها نفسه باقتدار، وتحمَّل أعباءها بتفانٍ،  وأداها بخبرة نادرة، وبنزاهة فكرية قلَّ نظيرها.
2                  - الكشف عن إسهامات المغاربة، وربطها بتاريخ الحضارة الإسلاميَّة عامَّة، وإبراز مظاهر التفاعل بين تراث المشارقة وتراث الغرب الإسلاميّ. فكان له ما أراد، ونجح في أكبر تحدٍّ علميٍّ وقف عليه حياته العلمية،  فبرَّز فيه، وأصبح فيه قدوة، وظاهرة، وعمدة.
3 - استخلاص المادَّة العلميَّة المبثوثة في كتب التراجم؛ إذ  نجده لا يستخلص من هذه الكتب سير الأعلام، وما يتعلق بأوضاعهم السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة فحسب؛ بل يجعل تلك المادة العلميَّة  تسهم كذلك، في بلورة رؤية فكريَّة للمسار الحضاريّ العامّ لتراث هذا الجناح من العالم الإسلاميّ.
وبهذه المادة العلميَّة المستخلصة، وضع د. محمد ابن شريفة  جانباً هامّاً من التاريخ الثقافيّ للغرب الإسلاميّ، وحدَّد  الكثير من مظاهره وأطواره وخصائصه.

ثالثا: المنهج العام في كتابته للتراجم

1 – منهج في الترجمة يتشكل من طبيعة المادة المعرفية
ظلت غاية د. محمد ابن شريفة من وضع التَّراجم والسير، إبراز الصورة الشخصيَّة للمترجَم، وتحديد أطوار حياته، ووضعه في سياقه التاريخيّ العام، وجعل آثاره مرآة لعصره، وحياته صورة تتماثل مع هذا العصر.
وآخر عبارة في بحثه الذي دشَّن به البحث الجامعيّ بكلية الآداب بالرباط سنة 1964، تحت إشراف د. أمجد الطرابلسي – طيَّب الله ثراه - كانت هي:
« وليس من رأيي أن تخضع كتابة السِّيرة إلى تخطيط ثابت، وإنما ينبغي أن تتناول السِّيرة حسب طبيعة صاحبها وطبيعة عصره »[6].
ذلك أنَّ المنهج يتشكَّل من طبيعة المادّة التي تُسهم في بناء السِّيرة، ولا وجود لمنهج خارج ما يتوافر عليه الباحث من معلومات وحقائق حول الشخص المترجم.

3                  – ضرورة توافر ركنيْن في بناء الترجمة

 لا تتحقَّق كتابة ترجمة بغير توافر شرطين: أولهما: استيعاب ما كَتَبَهُ الشخصُ المُتَرْجَم.
وثانيهما: استيعاب ما كُتِبَ عنه.
وما كَتَبَه وما كُتِبَ عنه، يقوم عليهما بناء الشخصية، وتتحدَّد بهما سماتها، وملامح عصرها، وما تتميز عن سواها. وإذا رجعنا إلى البحث، المشار إليه أعلاه؛ نجد أن د. محمد ابن شريفة، اعتمد على ركنيْن في بناء شخصية ابن عميرة (582 - 658هـ)، وقد كشف عنهما في حديثه عن منهجيته في بحثه هذا.
- الركن الأول الذي اعتمده في بناء شخصية ابن عميرة يتشكل من رسائله وأشعار وآثاره التي قال عنها: « فقد كانت عمدتي في تبين كثير من معالم حياة ابن عميرة وأطوارها »[7].
- الركن الثاني: « ما  كُتِبَ عن ابن عميرة في القديم والحديث بالعربيَّة أو بغيرها من اللغات الأجنبية »[8].
ومزج د. ابن شريفة بين الجانبين، فأخرج صورة متألقة لابن عميرة؛ تتماثل مع صورة النصف الأول من القرن الهجري السابع في الغرب الإسلاميّ،  وتُمثِّلُه خير تمثيل؛ لأن ابن عميرة جمع « بين نواحي السياسة والعلم والأدب، ولما اشتملت عليه حياته من السِّمات التي تمثل عصره المضطرب المتقلِّب؛ سواء في مظاهره السياسيّة والاجتماعيّة أو في ملامحه الثقافيّة »[9].
وهكذا تمكَّن في نهاية خاتمة بحثه هذا من القول: « وأوضحت الوشائج الموجودة بين أدبه وحياته وعصره، وحرصت على فهم الأجواء والظروف التي أحاطت بكتابته وشعره»[10].

3 – كيفيَّة استكشاف معالم شخصيَّة المترجَم
نجد د. محمد ابن شريفة يحدِّد في تراجمه، الخطوات الضرورية لاستكشاف معالم الشخصيّة، ويذكِّرنا  بالمواد الأوليَّة المسعفة على بنائها.  فتراه، مثلا، يحدد لنا هذه الموادّ عند غيابها في بحثه عن تعريف بابن بياع السبتي، حين يقول: « إننا لا نعرف شيئا مما يتصل بحياة هذا العَلَم المغربيّ البارز كسلسلة نسبه، وتاريخ ميلاده، وعائلته، وشيوخه في العلم والأدب، وأسانيده في الرِّواية، ومراكز دراسته، والتلاميذ الآخذين عنه، والخطط التي تقلدها - غير القضاء - وفي أي بلد أو بلدان،  ثم تاريخ وفاته»[11].
ومرة يجد في مصدريْن « ترجمة موجزة لا تحدِّد بلداً، ولا تؤرِّخ ولادةً، ولا تُعَدِّدُ شيوخاً، ولا تذكر تأليفاً، ولا تسرد نماذج من الشعر الحسن الذي كان يقرضه الرجل»[12]. 
وحين تغيب المعطيات الضرورية لبناء سيرة المترجم له، حين تصمت كتب التَّراجم، وبعد أن يستعمل أدواته الاستكشافية؛ يتجه صوب آثاره، فيتخذها مصدراً لمعرفة ضالته، ويستخرج منها ترجمته؛ كما فعل مع أبي الحسين ابن فركون والبسطي، فحين أغفلت كتب التراجم ذكر هذا الأخير؛ اتجه إلى ديوانه فوجده « شديد الارتباط بشخصيته،  قوي الاتصال بحياته» ، على حد تعبيره،  ثم قال: « أما حياته ، فسنعتمد على تصويرها على ديوانه، وسنحاول استخلاصها من شعره »[13].
وبقراءته الدقيقة للدِّيوان، وجده حافلا بأسماء الأعلام الذين عرفهم البسطي في مختلف أطوار حياته، من شيوخ وأئمة وعدول وأهل أدب، فوضعه في معترك مرحلته التاريخيَّة، قائلا: « إنَّ من شأن هذا كله أن يعوضنا في الجملة عن فقدان ترجمته ويعرفنا بظروف عصره،  ويحدِّد لنا بعض التواريخ في حياته »[14].
وبعدما كان البسطي شاعراً مغموراً، من فترة مظلمة، أضحى من خلال ديوانه يمرح في أكناف مدينة بسطة،  ويعكس أصداءها في عصره؛ بل جعل د. محمد ابن شريفة  ديوان البسطي سجلا لانهيار الوجود الإسلاميّ بالأندلس، وشاهداً على تلك النهاية المأساوية.

رابعا: كيفيَّة بناء سيرة المترجَم

1 – مهارته في رسم معالم الشخصية
تكشف تراجمه عن خبرة طويلة، ومهارة فائقة في بناء سيرة المترجَم؛  فهو يستعرض المصادر الممكنة، ويرتبها حسب أقدميتها، ويتتبع تفاعلاتها فيما بينها بين الأخذ والردّ،  وحسب شرط أصحابها، ويقابل بين معلوماتها، وما يتميز به بعضها عن بعض. وتراه  يحاور تلك المصادر فيما تعرَّضت له، وما لم تتعرَّض له، قصد الاستقصاء والتوثيق والتصحيح، وقصد استنباط مكوِّنات للترجمة من أجل إغنائها بالإفادات الممكنة، وخلق  قرائن  متعددة  تتيح استخلاص إفادات جديدة.
وشغف د. محمد ابن شريفة بالتدقيق في ضبط الأسماء والأنساب، وتحديد ما تشابه منها؛  أمران مكَّناه من رفع الالتباسات في تراجمه، وتصحيح كثير من الأوهام، وإنجاز كثير من الاستدراكات على كتب التَّراجم، وعلى ما فات جهود بعض الباحثين. ثم هو يمد القارئ بالنصوص الثاوية في المخطوطات والمطبوعات، وذلك لتقريب صورة المترجَم من القارئ.
و د. ابن شريفة له  وسائله الاستكشافية الخاصة؛ بها يصل إلى ضالته؛ سواء أكان ذلك عن طريق نسب المترجَم أو شيوخه أو تلامذته، أو بلديِّيه أو معاصريه عامة؛ ممن يتفقون معه في اتِّجاهه الفكريّ؛ مع الاستفادة من الأخبار المتناثرة حول مجال تخصصه، وحول مرحلته التاريخيّة.
وعندما تعوزه الوسائل الضرورية لبناء الترجمة، تقوده القرائن وطرقه في صور الحدس والتخمين،  إلى ترميم التراجم. بل تراه يرجح بين قرائن تجمعت لديه، دون كلل أو ملل من تتبع الجزئيات.
ولا أرى له شبيها في عملية الترميم هذه عن طريق القرائن، بين من أعرف أعمالهم من الباحثين المعاصرين.
ود. محمد ابن شريفة يجد لذَّة خاصّة في البحث عن المغمورين والمجهولين، ويواجه  التحدِّيات بإصرار،  مستعملا أدواته الاستكشافية؛ وهو يردد: « ويأتيك بالأخبار من لم تزود» ، إلى أن يعثر على ما كان في طيِّ النسيان.
وفنية د. محمد ابن شريفة في صياغة الترجمة تتحقق في بحثه عن العلاقات الممكنة،  بين المعلومات المتناثرة في مصادر متعددة،  ومن أزمنة مختلفة،  والربط بينها حتى تصبح وحدة متماسكة.
وفي ترجمته لابن عميرة، قدَّم نموذجاً لكتابة السيرة بطريقة فنية رائدة، ولم يكتف بوضعه في إطاره الاجتماعيّ الثقافيّ؛ بل امتزج به امتزاجاً روحياً، حتى بدأ يستفسر آثاره عن الأمراض التي أصابته في حياته.

2 - آلياته الاستكشافية في نحت الترجمة
مهارته في نحت الترجمة تشهد له بالاطلاع الواسع، والمعاشرة الدائمة للمخطوطات، والقدرة الفائقة على قراءة النصوص واستنطاقها،وكيفية الاستفادة منها في إجلاء ملامح الشخصيات.
هذه المهارة جعلته نسيج وحده في كتابه التراجم والسير، فهو يستنبط مما يصعب الاستنباط منه. ومهما كانت الأخبار شحيحة، فإنه يحاصرها بتساؤلاته، ويخضعها لآلياته الاستكشافية،  فيستخلص منها إفادات تفتح آفاقا للبحث.
وتراه دوما يقول: « ويستفاد من هذا» ، و« يُفهم من هذا » ، و« يبدو » ، و« تدل القرائن»،
... وحتى حين لا يحظى شخص ما بترجمة في المصادر، يتساءل عن « السبب في غمطه حقه، والباعث على إمساك مؤلفي المراجع المظان عن ذكره، وضياع معظم آثاره »[15].
وآلياته الاستكشافية هي:
(أ‌)               آلية الاستنباء: « والاستنباء » مصطلح استعمله في رسالته حول ابن عميرة منذ نحو نصف قرن، حين قال، وهو في غمرة  بناء الترجمة: « معتمدين على استنباء بعض أقواله»[16]. فهو يستنبئ أقواله أي،  يطلب منها أن تنبئه، و تُمِدَّهُ  بالنبأ اليقين.
(ب‌)          آلية النحت والترميم: يتعامل د. محمد ابن شريفة مع مادّة الترجمة في كتب السِّيَر بمهارة خاصّة؛  فهو يتأمل المعلومات المتناثرة، فيعيد ترتيبها، وينحت منها ترجمة دقيقة بارزة المعالم. وبهذه الآلية أخرج تراجم إلى الوجود كانت في حيز المجهول،  وأبدى مهارة خاصة بنحت التراجم وبنائها من خلال الآثار الشعرية والنثرية كما فعل مع ابن فركون والبسطي وغيرهما كثير.
(ج) آلية التركيب والتشكيل: هذه الآلية يصطنعها في بناء الصورة النهائية للشخصية. في تعريفه بصاحب أول تأليف مغربيّ في المنطق ( وهو أبو علي الحسن بن أبي الحسين علي بن حسون الماجري  ق.هـ.7 )؛  لا يجد عنه إلى إشارات متفرقة في كتاب(الذيل والتكملة)، فيقول: « وسنحاول تركيب ترجمة للرجل،  وبنائها من العناصر والمواد الموجودة في الكتاب المذكور » [17].
3 – تطبيقه لهذه الآليات في بناء ترجمة ابن عبد الملك بتطبيقه لتلك الآليات، ونتيجة لمهارته في نحت التراجم واستخراجها؛ نراه يستخرج ترجمة لابن عبد الملك المراكشي من مجمل الإشارات المتعلقة به داخل معجمه، فجاء د. محمد ابن شريفة بـ « أوسع  من التراجم التي حرَّرها بعض معاصريه أو من جاء بعدهم»، على حد قوله[18].
وقال د. محمد ابن شريفة: « وقد كتبت ترجمة موسعة عرفت فيها بهذا المؤرخ الناقد، وبمعجمه الذي يعتبر أوسع معجم في أعلام الأندلس والطارئين عليها من بلدان المغرب خلال ثلاثة قرون (...) ومن المؤسف أنه لم يصل إلينا بتمامه»[19].
واستطاع أن يكشف لأوَّل مرة، عن الملابسات التي أحاطت بحياة ابن عبد الملك، ويحدد مراحل دراسته وأطواره التعليميَّة، ويستخلص مميزاته الشخصية، ونهمه في طلب العلم. وماذا قال د. محمد ابن شريفة بعد أن أعاد تركيب هذه المواد المتناثرة، ووضع صورتها النهائية ؟ قال:
« وبعد،  فهذه ترجمة موثَّقة لابن عبد الملك،  اعتمدت في معظمها على كلامه، وجمعت  موادَّها المتفرِّقة خلال التراجم في الأسفار الموجودة في كتابه (الذيل والتكملة)، وقد رتَّبْتُ هذه الموادّ التي استخرجتها من الكتاب، وربطت بين أجزائها، فأتت الترجمة قريبة من التراجم الذاتية»[20].
ولا يسع قارئ هذه الترجمة إلى أن يشهد للدكتور محمد ابن شريفة بالخبرة العلمية الواسعة، و باقتداره وتمكنه من استبطان آثار المترجم له،  وكيفية استخلاص معلومات نادرة منها عنه.
وهذه المهارة الفنِّية تلاحظ في مجمل ما أنجزه من تراجم. فهو يضم المواد المتناثرة، ويعيد تركيبها وصياغتها وتشكيلها، لتصبح صورة شخصيته واضحة المعالم والسمات؛  تتميز بحمولتها الاجتماعيَّة والثقافيَّة،  وبانتمائها الحضاريّ العام.

4      - من تجليات مهارته في وضع التراجم ونحتها
(أ) طريقته في تحديد نسَب المترجم له، وفي تتبع شيوخه وتلامذته.
(ب) طريقته في طرح الأسئلة، بحثا عن المعلومات المجهولة حول المترجم له، والتي يحتاج إليها في بناء الترجمة.
(ج) طريقته في اكتشاف القرائن الممكنة، والخيوط الدقيقة التي تربط بين المواد والمعلومات المتوافرة.
(د) طريقته في استنباط الحقائق من النصوص، وتصحيح الأوهام والتحريفات فيها.
(هـ) طريقته في القراءة المتأنّية، والمراجعة المتكررة واليقظة الدائمة.
ويكشف لنا د. محمد ابن شريفة عن نوع القراءة التي أكسبته هذه المهارة، في مقاله: (أبو الحجاج يوسف بن غمر، مؤرخ دولة يعقوب المنصور: تعريف وتصحيح تصحيف). فهو  يقول:  « إن القراءة المتأنِّية، والمراجعة المتكررة للنصوص، تقود القارئ المتيقِّظ، والباحث المتنبِّه إلى اكتشاف خباياها، وإيضاح خفاياها. والذين يداومون على قراءة النصوص يخرجون دائما بعد كل قراءة بشيء جديد»[21].
ومن عرف مهارة د. محمد ابن شريفة وتقنياته في بناء الشخصيات، من خلال الأخبار الشحيحة أحيانا والمتناقضة أحيانا أخرى؛ يدرك أنَّ للرجل خبرة واسعة بكتب التراجم، ولا يفوته أن يلمح خبرته بالنفسيَّة البشريَّة.

خامسا: من نتائج جهوده في كتابة التَّراجم والسِّيَر
1- اعتماد المادة التاريخية المبثوثة في كتب التراجم من أجل معرفة تاريخ الغرب الإسلاميّ. فقد اكتشف د. محمد ابن شريفة عِلْماً كثيراً من خلال التراجم؛ فتراه عندما يتحدث عن القيمة التاريخيّة لكتاب (الذيل والتكملة) لابن عبد الملك المراكشي؛ يذكر أنَّ هذه القيمة
«  تتجلى من جهة الاستطرادات التاريخيَّة المتعددة التي وردت خلال عدد من تراجم الكتاب،  وقد عدَّ (الذيل والتكملة) من أجل ذلك ضمن مصادر بعض الحوليات التاريخية مثل (البيان المغرب) لابن عذاري وغيره.
وهي تتجلى من جهة ثانية، في المواد والعناصر الجزئية المختلفة المبثوثة خلال التراجم،  وهي تنفع المؤرخ في تأليف الصورة الاجتماعيّة لعصر من العصور. ومن الملاحظ خلال بعض المشتغلين بالتاريخ قد لا ينتبهون إلى قيمة كتب التراجم كمصادر تاريخيَّة أساسية، ولا ينتفعون بما تشتمل عليه من مادة تضيف الكثير إلى ما تقدمه الحوليات التاريخيَّة»[22].
2- اعتماد مادة التراجم، وما تحفل به من نصوص أدبية وأخبار ثقافية، في بناء تاريخ الأدب،  وتحديد أعلامه وإبراز تياراته، والكشف عن خصائصه شكلا ومضموناً.
وهو يرى أنَّه لا غنى لدارس الأدب المغربيّ والأندلسيّ في عصر الموحدين،  من الرجوع إلى (الذيل والتكملة)، واستغلال مادته الأدبية،  واعتماده ضمن المصادر الأولية. وهو بهذا يرسم السِّمات العامة للتاريخ الثقافي للغرب الإسلاميّ. ونجده  يشير، مثلا، إلى فهارس (الذيل والتكملة) المستخرجة من الأسفار الموجودة،  والمثبتة في أواخرها، فيرى أنها « تؤلف القاعدة العريضة لمن يدرس الحركة العلمية والفكرية في عصر الموحدين، دراسة منهجية ومتقصية»[23].
3- اكتشاف تيارات فكرية وظواهر ثقافية،  وتغطية فترات مظلمة،  وتقديم إفادات تسهم في تحديد السمات الثقافية العامة للغرب الإسلامي، من ذلك مثلا:
(أ)  نجده في ترجمة ابن خمير، إلى جانب تقويمه للحركة الفكريَّة التي عرفتها مدينة سبتة في عصرها الذهبيّ، خلال القرنين الهجريَّين السادس والسابع؛ يخبرنا أن ابن خمير هو خامس خمسة من علماء سبتة ألفوا في موضوع النبوة والأنبياء والإعجاز،  وذلك في تواريخ متقاربة[24].
(ب) وفي الترجمة نفسها، أشار إلى رسوخ العقيدة الأشعريَّة في المغرب، وذكر مدرسة للمتكلمين ووضع لها طبقات[25].
(ج) وفي ترجمته للتميمي ( محمد بن قاسم الفاسي) قدم فكرة مركزة عن مؤلِّفي آداب المناقب في المغرب[26].
(د) وفي تعريفه بأسرة بني زهر
« يلحظ الدور الذي كان لعدد كبير من الأسر الأندلسيَّة في تطور الفردوس المفقود من النواحي السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة.
أما من الناحية الاجتماعية والثقافية، فالأمر واضح ولا يحتاج إلى تفسير، وإن نظرة في كتب التراجم الأندلسية،  لتدلنا على أن ذلك التنافس تميز بالاستمرار والتسلسل  وما أكثر البيوتات التي كان أفرادها يتوارثون العلم أبا عن جد»[27].
(هـ) وفي تعريفه بأسرة بني عشرة،  نجده يبين أهمية بعض الأسر، وما كان لها من دور في بناء الكيان المغربي. يقول د. محمد ابن شريفة:
« ويعتبر تاريخ هذه الأسر، من أطرف جوانب تاريخنا، وأمتع موضوعاته؛ لما يشتمل عليه من عناصر وجزئيات،  قد تساعد على تكوين الصورة الكلية لماضينا القومي»[28].
(و) وكقوله في مقدمة تحقيقه لديوان ابن فركون، في بيان أهميته:
«بفضل هذا الشعر التسجيلي الجامع أصبحنا نعرف بكيفية مفصلة تاريخ الملك حياة الملك يوسف الثالث، والعهد الذي ملك فيه،  ومدته عشر سنوات»[29].
(ز) وكقوله في رسالته عن ابن عميرة: « كانت الكتابة في الزهديات والمواعظ منتشرة انتشارا كبيرا بالأندلس في عصر ابن عميرة،  كما يبدو ذلك في كتب التراجم»[30].
4 – التأريخ لكتابة التراجم في الغرب الإسلاميّ
إلى جانب ما قدمه من إفادات ومعلومات عن كتب التراجم في الغرب الإسلامي في أعماله عامة، نجد قد خصص لها محاضرة ضافية في درس افتتاحي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش (15 أكتوبر 2002م)؛ موضوعها: (كتابة التراجم في الغرب الإسلامي: بواعثها وأنماطها)، وقد نشرت ضمن منشورات الكلية بتاريخ 2003م، حين كان د. عبد الجليل هنّوش يتولى عمادة الكلية بالنيابة آنذاك[31].
وكانت المحاضرة – كما جاء في كلمة د. عبد الجليل: « خلاصة لتجربته الطويلة والثرية في دراسة كتب التراجم ونشرها والتعريف بها » [32].
وقد لاحظ د. محمد ابن شريفة في البداية « أن المكتبة العربية تزخر بكَمٍّ ضخم من المصنفات في تراجم الأعلام وطبقات العلماء؛ على اختلاف علومهم وتعاقب عصورهم (...) وقد كان لهذا التراث الذي سبق إليه المشرق نظيرٌ في الغرب الإسلاميّ لا يقل عنه عدداً ولا قيمةً» [33].
وقدم في محاضرته القيمة جرداً دقيقاً لحركة التأليف في الغرب الإسلاميّ؛ متناولا بواعثها وأنماطها، منذ أن دخل كتاب الموطأ إلى الأندلس في النصف الأول من القرن الهجري الثالث؛ للحاجة إلى التعريف برجال هذا الكتاب الذي كان المرجع الأول للأندلسيين في الحديث والفقه.
ومع انبعاث الهُوِيَّة الأندلسيَّة والدفاع عنها، وازدهار حركتها العلميَّة، وتفاعلها مع المشرق عن طريق الرحلة، ووفادات كبار العلماء من المشرق؛ كان الإقبال على تراجم أعلام الأندلس في حقول المعرفة آنذاك، خاصة في عهد الخليفتين: عبد الرحمن الناصر (350ه) وابنه المستنصر (366هـ). وقد ذكر د. محمد ابن شريفة من ندبهم المستنصر للعناية بتراجم الأندلسيين، ومن ألفوا في ذلك بتكليف منه[34]، وقد ضاعت كلها ولم يبق منها إلا القليل.
وسأكفي بالإشارة إلى الحلقات الست التي تشكلت منها كتب الصلات؛ أي سلسلة التراجم الأندلسية؛ التي تتابعت من القرن الهجريّ الرابع إلى آخر القرن التاسع الهجريّ:
الحلقة الأولى: تاريخ العلماء والرواة لأبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الفرضي (403هـ) [ 1650 ترجمة].
الحلقة الثانية: كتاب الصلة في تاريخ رجال الأندلس لأبي القاسم خلف بن عبد الملك، ابن بَشكُوَال (578هـ)، وهو ذيل لـ(تاريخ ابن الفرضي) [1541 ترجمة].
الحلقة الثالثة: التكملة لكتاب الصلة لأبي عبد الله محمد بن الأبار (635هـ) [ 737 ترجمة].
الحلقة الرابعة: صلة الصلة لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم، ابن الزبير (708هـ)، وهو ذيل على ذيل لأبي العباس أحمد بن يوسف، ابن فرتون (660هـ) ( أشهر ذيل على صلة ابن بشكوال). وصلة الصلة موجود منه النصف الأخير.
الحلقة الخامسة: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة لابن عبد الملك المراكشي (703هـ) [ المقصود بالموصول كتاب ابن الفرضي، والصلة لابن بشكُوَال]، ويقول د. ابن شريفة عن كتاب ابن عبد الملك: « وهو أعظم هذه السلسة فائدة، وأجلها عائدة، وأكبرها حجما»[35].
الحلقة السادسة والأخيرة: عائد الصلة للسان الدين بن الخطيب (776هـ).
ويمكن القول على وجه الإجمال، إن د. محمد ابن شريفة،  قد أسهم بشكل فعال من خلال ما قدمه من تراجم في كتابة تاريخ المغرب والأندلس، كما أسهم في رسم الملامح العلميَّة والثقافيَّة لهما. ويتضح من كل ذلك،  أن من مقاصده البعيدة إنشاء بناء حضاريّ متماسك لتاريخ الأمة المغربيَّة، وبعبارته: « تكوين الصورة الكلية لماضينا القوم ».
سادسا: أضواء على شخصية د. ابن شريفة من خلال تراجمه

كان الدكتور ابن شريفة هو واضع أدب السِّيَر في الفكر المغربي الحديث دون منازع، إلى جانب عبد الله كنون، واستطاع بمهارته في وضع التراجم والسِّيَر؛  أن يقدِّم لنا صورة دقيقة عن التاريخ الثقافيّ للغرب الإسلاميّ.
فماذا عن شخصية الدكتور ابن شريفة من خلال تراجمه ؟
 يمكن الوقوف عند جوانب ثلاثة من شخصيته :
1 - د. ابن شريفة الإنسان المعتدل.
2 - د. ابن شريفة الباحث العالم.
3 - د. ابن شريفة المفكر الحكيم.
ويبدو لي أنه يمكن وضع ترجمة للدكتور ابن شريفة من خلال تراجمه،  على شرطه ومنهجه في كتابة التراجم، وإبراز أفكاره ومواقفه من خلال أعماله، وإن كان هذا لا يغنينا عن ترجمة ذاتية نطالبه بأن يبادر بكتابتها في القريب العاجل بحول الله.
 1 -  د. ابن شريفة : الإنسان المعتدل
 عندما يطلع القارئ على ما وضعه هذا الباحث من تراجم وسِيَر،  يدرك شغفه بطلب العلم، وحبه لتحدِّي المجهول،  وركوب الصعاب بحثاً عن الحقيقة،  ويلمس في تراجمه صبر أيُّوب على قراءة المخطوطات وتدبرها. كما يدرك من خلال ذلك كيف تكون رفعة العالم في تواضعه، وتمكنه من نفسه تمكنّاً يجعله ينشد الحقيقة أنى وجدها، ولا يحمله علمه على الجدل بالباطل وعدم التسليم لمخالفه بصواب رأيه،  متى كان الحقُّ بجانبه، وتلك ميزة العالم الحق الذي أنار العلم بصيرته.
ترى تواضعه،  وهو يصحح ويصوب، فلا تلحظ منه شططاً في الرأي، أو خطلا في القول،  أو تطاولا أو ادعاءً،  ولا يتناول عيوب المترجم له إلا بعفَّة ونزاهة.
وتراجم د. محمد ابن شريفة تُعلِّم الأجيال المثابرة التي لا تعوقها الظروف، والصبر حين يركب التحدِّي والعناد من أجل الحصول على الحقيقة.
2 – د. محمد ابن شريفة الباحث العالم
ترى في تراجمه الباحث المنقب، الخبير بمصادره؛ الذي يقرأ النصوص ويراجعها بدقة متناهية، وينفذ إلى أعماقها؛ محللا مستخلصا منها الحقائق الدقيقة، واضعا إياها في سياقاتها التاريخية الحضارية العامة.
يتمسك د. محمد ابن شريفة في تراجمه بالتحرِّي والضبط والمراجعة والتدقيق والاستقصاء. وأثناء معالجته لتراجم والسير يلحظ القارئ خبرة واسعة بعلم النفس، وعلم الاجتماع،  وعلم التاريخ، دون ادعاء تنظير أو افتعال له  تكشف عنه الهوامش. يجد باحثا تسكنه روح مؤرِّخ، وروح روائيّ مبدع،  وروح مغامر يجد سعادة دائمة في اكتشاف المجهول.
وهو في تراجمه يتمتع بهدوء طبع، وعمق تفكير، وسلامة ذوق. وتراه يبني الأسس،  ويصحِّح في صمت وهدوء. عبارته واضحة مشرقة يتحقق بها البيان العربيّ في وجدان القارئ وعقله.
3 - د. محمد ابن شريفة المفكر الحكيم
نجد في ثنايا تراجمه حقائق عامة استخلصها من النماذج البشرية التي عرض لها،  ومن طول متابعته لأحداث التاريخ ، وتأمُّله في طبائع الناس وأهوائهم، ومواهبهم ومصائرهم. وأكتفي بذكر بعض الخلاصات التي وردت في ثلاث مقالات له:
الأولى: (بنو زهر: نظرات في تاريخ أسرة أندلسية).
والثانية: (حول مؤرخ أندلسي مجهول).
والثالثة: (تحقيق اسم سبتي: ابن بياع لا ابن زنباع).
ففي المقالة الأولى نجده يستخلص: - أن التراكم « شرط ضروري للازدهار الحضاريّ كما هو معلوم»[36] - «الحفاظ على الوجود لا يتحقق إلى بالأخذ بالقيم» - «"التحدِّي هو علة الاستمرار وحافز الازدهار»[37].
- ذكر من فضائل بني زهر، الأطباء الأندلسيِّين، شغفهم بطلب العلم، واتصافهم بصحة العقيدة، ومشاركتهم الواسعة في مختلف العلوم والآداب، ثم قال: « ومن القيم والدروس التي نستخلصها من سير هؤلاء الأطباء الكبار، أنهم كانوا يطبِّبون الناس - ولا سيما الفقراء -  بالمجان». ويعلق على عملهم هذا بقوله: « ويا حبذا لو أصبح بنو زهر في هذا قدوة لبعض الأطباء الكبار في هذا الزمان من الذين نسمع عن أثمانهم الخيالية»[38].
وفي مقالتيه الثانية والثالثة أشار إلى مسألة الحظ، فحين عثر على شخص أهمل وآخر اشتهر، ولم يجد مبرِّراً علميا لشيوع هذا وإهمال ذاك ؛ قال:
« أم أن الأمر لا يعدو أن يكون أمر حظ،  وحظوظ الناس كحظوظ البشر، متفاوتة. فمن المؤلفات ما يرزق القبول والاستحسان، ومنها ما يكون نصيبه الإهمال والنِّسيان»[39].
ووجد أن ابن بياع السبتي، لم يحظ بشيوع الذكر مع علو طبقته في الأدب، وشموخ منزلته في المجتمع، «  ولا سيما أيضا إذا قسنا خمول ذكره ، بذيوع صيت قرينه القاضي عِيَّاض. وكان الاثنان في زمنهما، وفي نظر أهل عصرهما، كفرسي رهان، ومن ثم تجاورا في القلائد. فهل أصابت أديبنا حُرفة الأدب؟ أم هي أحكام الحظوظ ؟ سبحان من قسم الحظوظ،  ولا ملامة»[40].
4 - كلمة في المحتفى به: د. محمد ابن شريفة
هذه كلمة تشير إلى بعض أفضال هذا العالم على الجامعة المغربية.
- أرى أن الدكتور محمد ابن شريفة قد شرَّف الجامعة العربية، لأنه أسهم في تأسيس تقاليد البحث العلمي فيها، وشرف المكتبة الأندلسيَّة والمغربيَّة على السواء،  بإنتاجه الفكريِّ ومشاركته المتميزة في تشييد معالم تراث الغرب الإسلاميّ.
- وأرى أن د. محمد ابن شريفة أصبح ظاهرة متميزة في مجالي البحث والتحقيق، هذا مع أن اهتماماته لا تحاصر بتخصص محدود، ولا تقتصر على نطاق الغرب الإسلاميّ؛  بل تمتدّ لتشمل جوانب الفكر العربيّ قديمه وحديثه، وتمتد لخلق التواصل الفكري بين شرق العالم الإسلامي وغربه، بل وتمتدُّ هذه الاهتمامات إلى ربوع الصحراء الإفريقية.
- و أرى أن د. محمد ابن شريفة قد حافظ على شموخ الأصالة المغربيَّة في خصوصيتها وذوقها،  وتكوينها، وأنفتها وعزتها وفي بيانها. وأرى أنه عمل على ترسيخ هذه الأصالة، وكان نموذجا  لها. أصالة ظاهرها البساطة، وباطنها عمق حضاريّ ثابت ومتوهج، أصالة لا تنحرف مع الأهواء.
- وأرى أن تجربة د. محمد ابن شريفة لا تتناسخ مع مثيلاتها، ولا تتساقط على المستحدثات، ولا تتهافت على ما تناقلته المترجمات، ولا تتباهى بالأهواء والادِّعاءات.
لقد مر هذا الباحث المغربي من مناصب، ومن مدرجات الجامعة في صمت وهدوء، ودون جلبة أو ضوضاء. مر في صمت، بعدما جال في مدرجات الجامعات،  وكان من الموجهين لأبحاثها، المساهمين في تقويم تلك الأبحاث.
ماذا أقول عن د. محمد ابن شريفة ؟ أقول ما قاله هو في ابن عبد الملك المراكشي، حين وجده قد قام بمهمته التاريخية أحسن قيام: « لقد نهض ابن عبد الملك بأعباء مهمة تاريخية كان ميسراً لها،  وملهما إلى التوجه نحوها، وقام بها خير قيام، وأداها بكل أمانة ونزاهة، ولولاه لنسي جم غفير من الأعلام، ولضاع علم كثير...»[41].
-        وأقول في الأخير إن د. محمد ابن شريفة، كان من الرعيل الذي مثل الجيل الثاني بعد الدكتور أمجد الطرابلسي في الجامعة المغربية، وأنه أسهم في تأسيس تقاليد البحث فيها بشموخ وأصالة واعتدال في الآراء والمواقف. ولقد عاصر التيارات التي عرفها المغرب الحديث منذ مطالع ستينيات هذا القرن،  فظل يراقبها عن كثب، ولم يندفع وراء شيء منها،  وأثناء كل ذلك أصبح د. محمد ابن شريفة ظاهرة.
واليوم تتباهى المنتديات العلمية بآثاره وتحقيقاته، وستذكر هذه المنتديات باحثاً مغربيّاً أصيلا ترك هذه البصمات، ومر في حياته العلمية في صمت يكسوه الجلال،  ومازال يسير بجمال وجلال.
وفي نهاية كلمتي هذه، نطالب د. محمد ابن شريفة بما طالب به الفقيه الكنوني حين قال له: « أبادر فأقول إن هذا الفقيه الذي كان مولعاً بالتقييد، نسي أن يقيد ما يتعلق بحياته كتاريخ ولادته، ومكانها، ونشأته وبقية أطوار حياته، ولعله لم يفعل ذلك تواضعا منه رحمه الله...»[42].
أطال الله عمر أستاذنا، وأستاذ الأجيال، ومتعه بوافر الصحة،  وأبقاه الله منارة للقيم العلمية الرصينة في هذا الجناح من العالم الإسلامي،  ورمزاً للأصالة المغربية العريقة.











[1] أبو المطرف،  أحمد بن عميرة  المخزوميّ: حياته وآثاره، ص5  - ط1[ الرباط ، منشورات المركز الجامعي للبحث العلميّ، 1966] – ( أول رسالة جامعية تناقش في الأدب العربي بالمغرب سنة 1964، الرباط،  تحت إشراف د. أمجد الطرابلسي ).
[2]  مقدمة د. محمد ابن شريفة لكتاب ( الذيل والتكملة) لابن عبد الملك المراكشي القسم الأول من  السفر الثامن، ص32 - 37  - ط1 [ الرباط، مطبوعات أكاديمية المملكة، 1984].
[3]  أبو المطرف، أحمد ابن عميرة المخزومي... ،  ( تصدير محمد الفاسي)، مرجع مذكور،  ص3 .
[4]  نفسه، مقدمة البحث،  ص 5 – 6.
[5]  تحقيق اسم سبتي: ابن بياع لا ابن زنباع - مجلة المناهل، تصدرها وزارة الشؤون الثقافية الرباط المغرب،  السنة 9 ، العدد 22،  يناير 1982،  ص529.


[6]  أبو المطرف... ،  مرجع مذكور،  ص 308.
[7]  نفسه، ص6.
[8]  نفسه، ص7.
[9]  نفسه، ص28.
[10]  - نفسه، ص308.
[11]  تحقيق اسم سبتي ، ابن بياع لا ابن زنباع، مرجع مذكور،  ص531 .
[12]  حول مؤرخ أندلسي مجهول-  مجلة أكاديمية المملكة المغربية العدد 2،  فبراير 1985، ص 102-103.
[13]  البسطي آخر شعراء الأندلس، ص 10 - ط1 [ بيروت، دار الغرب الاسلامي، 1981].
[14]  نفسه، ص 5.
[15]  تحقيق اسم سبتي،  ابن بياع لا ابن زنباع،  مرجع مذكور،  ص 531  - وقد قال د. محمد ابن شريفة:  "إن الشك والحدس وتتبع المظان - حتى ولو كانت بعيدة - من أدوات الباحث المتخصص، كما هو معلوم " (حول تسمية كتاب في التاريخ  للشاعر ابن زيدون - مجلة كلية الآداب،  الرباط عدد  3 - 4،  1978)،  ص 70 .
[16]  أبو المطرف... ،  مرجع مذكور، ص 163.
[17]  أول تأليف مغربي في المنطق: أسهل الطرق إلى فهم المنطق للماجري (ضمن مجلة: المناظرة السنة الأولى، العدد الثاني، دجنبر 1989- الرباط)،  ص 27 .
[18]  الذيل والتكملة، مقدمة المحقق، مصدر مذكور، ص 3.
[19]  كتابة التراجم في الغرب الإسلامي: بواعثها وأنماطها: د. محمد بن شريفة، ص44
[20]  نفسه، ص 139.
[21]  أبو الحجاج يوسف بن غمر مؤرخ دولة يعقوب المنصور: تعريف وتصحيح تصحيف- مجلة الأكاديمية، المملكة المغربية، العدد 10،  سنة 1993، ص  83 - 84 .   
[22]  الذيل والتكملة، مقدمة المحقق، مصدر مذكور، ص 102 .
[23]  نفسه، ص103.
[24]  ابن خمير السبتي وآثاره - مجلة دار الحديث الحسنية،  العدد 10، السنة 1992، ص  21
[25]  نفسه، ص36 و 41 - 43 .
[26]  التميمي، محمد بن قاسم ( ضمن معلمة المغرب الأقصى، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر, الجزء 8 - مادة: التميمي- ط1[سلا،  مطابع سلا 1995]، ص 2571 .
[27]  بنو زهر: نظرات في تاريخ أسرة أندلسية ( الدرس السابع للسنة الجامعية، من سلسلة الدروس الافتتاحية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة، جامعة ابن زهر بأكادير ط1 [ الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، د.ت]، ص 3 .
[28]  أسرة بني عشرة،  تطورها التاريخي ودورها الحضاري - مجلة البحث العلمي عدد 10، السنة 1967، الجزء 28، ص 65 .
[29]  ديوان ابن فركون، المقدمة، ط1 [ الرباط، مطبوعات الأكاديمية ، المملكة المغربية ، سلسلة التراث]، ص 18.
[30]  أبو المطرف... ، مرجع مذكور،  ص 290.


[31]    - ط1[ المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2003م]، منشورات كلية الآداب بمراكش، سلسلة الدروس الافتتاحية، الدرس الرابع: أكتوبر 2002م.
[32]  المصدر السابق، ص6.
[33]   نفسه، ص8 – 9.
[34]    نفسه، 20 – 23.
[35]   نفسه، ص 42 – وقد أخرج د. محمد ابن شريفة السفر الأول والثامن، وأخرج د. إحسان عباس بقية الرابع والخامس والسادس.
[36] بنو زهر، نظرات في تاريخ أسرة أندلسية، مرجع مذكور، ص 3.
[37]  نفسه .
[38]   نفسه ، ص19.
[39]  حول مؤرخ أندلسيّ مجهول،  مرجع مذكور، ص 106.
[40]  تحقيق اسم سبتي،  ابن بياع لا ابن زنباع،  مرجع مذكور، ص 531 .
[41]  الذيل والتكملة، ص 77.
[42]   الفقيه الكَنُونيّ ومؤلفاته (ضمن كتاب : آسفي،  دراسات تاريخية وحضارية)، مرجع مذكور،  ص 175.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق