الخميس، 8 أكتوبر 2015

ملامح عهد جديد لمكة المكرمة قبيل البعثة[1]



                                 عباس أرحيلة
ملخص  البحث
عرفت البيئة المكية تحولات اقتصادية واجتماعية ودينية، قبيل انبثاق الدعوة الإسلامية، وكانت في مجملها تُمهِّد لذلك الانبثاق.
 لقد أصبحت قريش قوة سياسية راسخة السيادة في أرض الحجاز، بفضل إدارتها لشؤون الكعبة، واستقطاب القبائل لعبادة الأوثان فيها؛ ممّا زاد من تجارتها، ودر عليها أموالا طائلة، وفتح لها علاقات بالعالم المتمدن؛ فأصبحت تربطها معاهدات مع الدول المتاخمة لجزيرة العرب.
 فقد حدثت نهضة اقتصادية إثر سقوط الحميريين، واتساع الحروب بين الفرس والروم، وتَوَقُّف الحروب القبلية؛ فأصبحت مكة تستقطب الأموال والأوثان. وتميزت المرحلة بمحاولة الأحباش هدم الكعبة؛ فكان ذلك مما زاد من قوة قريش وازدهار مكة، ومما مهَّد لظهور النبوة، وحَمَلَ بشرى مولد نبي الإسلام.

 وساعدت عوامل على تأصيل النبوة في قريش، وازدهار مكة على امتداد التاريخ الإسلامي، منها ما كان لعبد المطلب من زعامة روحية بمكة، وما تميزت به فترته من ازدهار، وخاصة بعد إعادة حفره لبئر زمزم، وما أثاره فداء ابنه عبد الله، وتحكيم ابنه محمد صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود، من ردود أفعال نبَّهتْ العقول إلى بيت ستنبثق منه النبوة. ومما تميزت به تلك المرحلة قبيل البعثة، بداية انحلال سلطة قريش، وتدهور عبادة الأوثان، وانحلال أخلاق المكيين نتيجة إصرار طائفة من الأغنياء على عبادة الأوثان واستغلال الفقراء؛ فظهرت تباشير الدين الجديد، وشعَّ نور الهداية.

تمهيد :

لا توجد بقعة في الأرض نالها من التقديس والتبجيل وتعلق المسلمين بها، مثل ما نال موقع الكعبة المشرفة. وقد باتت مكة موطنا مقدسا مكرماً بفضل وجود الكعبة المشرفة بها، بل  وصارت التجربة الإيمانية في هذه البقعة المباركة من الآيات الكونية في تجربة الإنسانية المؤمنة على الأرض، تُشد إليها الرحال في كل سنة، وتتجه إليها وجوه المسلمين في صلواتهم من كل جهات الدنيا.  وتلك أحب أرض الله إلى الله عز وجل، وأحب أرض إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك دار مهبط الروح الأمين جبريل بالوحي.
وقد ارتبطت مكة بتاريخ الإسلام، وبسيرة الرسول عليه السلام، ومنذ تولت قريش الإشراف على شؤون الكعبة، دخلت مكة مرحلة جديدة من تاريخها الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. وبالرغم من انتشار الوثنية خلال العهد القرشي فإن ملامح عهد جديد بدأت تظهر تباشيره في الديار المكية.
فما هي التحولات الاقتصادية والاجتماعية والدينية والنفسية التي عرفتها نفوس أهل مكة قبيل العهد الجديد؟ وما كانت مظاهر تلك التحولات التي شهدتها مكة في تلك المرحلة؟ وكيف كانت تباشير ذلك العهد ؟
أولا : قريش قوة  سياسية في أرض الحجاز

1 - رسوخ السيادة في قريش

من العوامل التي هيأتها عناية الله تعالى لمكة، قبل  أن يَتمّ استقبالُ رسالة الإسلام؛ تَحَقُّقُ كيان قرشي في شكل وحدة سياسية تتولى شؤون الكعبة. ومن الثابت أن السيادة في مكة قد تشكَّلت وقويت في ارتباطها بسدانة الكعبة، وأن هذه القوة ازدادت تنظيما دوليا قُبيل البعثة النبوية؛ إذ كانت لها علاقة وثيقة بالعالم المتمدن، وبذلك  أخذت السيادة القرشية معنىً حقيقيا بانتظام  أمور الجماعة واستقرارها، وإدارة شؤون الكعبة. وهكذا " أصبحت لقريش في عهد عبد المطلب صيغة دولية. فقد كانت تربطها معاهدات سياسية واقتصادية بالدول الكبرى في العالم القديم، وكان توقيع هذه الدول لهذه المعاهدات هو بمثابة اعتراف الدول بقريش كوحدة سياسية لها كيانُها وقوامها واقتصادها " [2]. 

 2 – عبد المطلب يُصبح الزعيم الروحي لمكة وقريش

وتأصيلاً للنبوة في الكيان القرشي، وإثر توزيع المناصب بين بطون قريش بالعدل؛ أضحى عبد المطلب، جدُّ النبي صلى الله عليه وسلم، الزعيمَ الروحي لدار الندوة، أي مقر حكومة مكة بلغة اليوم؛ وهي دار الشورى التي تجتمع فيها رجالات قريش ممن تجاوزت أعمارهم سنَّ الأربعين للتباحث  والتشاور في الأمور الهامة.  وفي هذه الدار اجتمعت قريش مع عبد المطلب للتباحث في شأن زحف جيش أبرهة الحبشي على مكة بقصد هدم الكعبة. ومنها كانت قوافل التجارة تنطلق، وإليها تعود.

 ونتيجة ما عرفته مرحلة عبد المطلب من ازدهار "شرُف - هذا الرجل - في قومه، شرفاً لم يبلغه أحدٌ من آبائه، وأحبَّه قومُه وعظُم خطَرُه فيهم "[3]. فقد ازدهرت مكة في عهده، واستطاع أن يحفظ السلام بمكة وأن يعمل على توثيق صلاته بالدواتين الفارسية والرومانية وإمارتي الحيرة والغساسنة. 

3 – تسليط الضوء على رسوخ شرف النسب في بيت النبوة

وفي تلك اللحظات التي بلغ فيها عبد المطلب ما بلغ من المجد والسيادة في قريش، شاءت عناية الله تعالى أن يتمَّ  تسليط الضوء على رسوخ شرف النسب وعلو السيادة في  البيت التي ستبزغ منه شمس النبوة. فتنبّهَ عبد المطلب إلى أمرين :

 أولهما: معاناته من قلة الولد، فقد لقي ما لقي من قريش أثناء حفر زمزم؛ إذ لم يكن له سوى ولد وحيد يقوم بالحفر، وهو ما يزال حدثاً ، ثم إن قريشاَ نازعته فيما وجد من الحلي والنفائس الذهبية أثناء عملية الحفر، فنذر لئن وُلد له عشرة نفر لينحرنَّ أحدَهم عند الكعبة.

الأمر الثاني: أن الله تعالى حقق له أمنيته ووهب له ما أراد، فلما كبر أبناؤه قرر الوفاء بالنذر؛ فضُرِبتِ القِداح أمام هُبل الصنم الأعظم الذي كان في جوف الكعبة، وخرجت القداح على عبد الله، وهو أحب ولده إليه، فاعترضت قريش على نذر عبد المطلب، وانتهى الأمر إلى أن يتم فداؤه بالإبل، وظلت القداح تُضرب إلى أن بلغت الإبل مائة.

 وفداء عبد الله تنبيهٌ لأهل مكة على مكانته في نفس عبد المطلب، وتسليط للضوء على مَن سيكون أباً لآخر حلقة في سلسة النبوة على الأرض[4].  

ويأتي اختصام قريش حول وضع الحجر الأسود أثناء إعادة بناء الكعبة، ويكون ذلك بداية إجماع حول محمد بن عبد الله. فقد احتد النزاع بين قريش، في شأن من يرفع الركن من القبائل، فقال لهم أمية بن المغيرة، وهو أسنُّ قريش كلها عامئذ: " يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أولَ مَن يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبرَ، قال : صلى الله عليه وسلم: هلمَّ إليَّ ثوباً، فأُتِيَ به، فأخذ الركن (= الحجر الأسود ) فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده، ثم بُنيَ عليه"[5].
 وكان النبي صلى الله عليه وسلم ما يزال غلاما. وواضح أن كلهم يعرفون صدقه وأمانته، وأنهم اتفقوا جميعا على تحكيمه فحكَّموه، وارتضوا حكمه.
وقصة فداء عبد الله، وتحكيم محمد بن عبد الله في وضع الحجر الأسود أمران يَشدّان انتباه أهل مكة إلى رسوخ النسب القرشي لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب. ويُشيران إلى ما تتمتع به شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمو الأخلاق في الوسط المكي. وحين بلغ عبد الله سن الزواج ، كان  " أجمل رجال قريش"، وكانت كل فتاة تطمع في الزواج منه. وتزوج آمنة بنت وهب سيد بني زُهرة نسباً وشرفاً ، " وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً "[6].
قال عبد الله بن عباس في تفسير قول الله تعالى ] قل لا أسـألكم عليه أجرا إلاّ المودةَ في القربى { [ الشورى:23 ] لم يكن بطن من بطون قريش إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم، وزاد ابن كثير في البداية والنهاية : " وذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء وكثير منهم بالأمهات[7].
 ويكفي الإشارة إلى الآيتين الكريمتين:
  الأولى:   ]لقد جاءكم رسول من أنفسكم  {  [ التوبة:128 ]  
والثانية :   ] الله أعلم حيث يجعل رسالته { [ الأنعام : 124 ]

ثانيا :قريش قوة تجارية خلال القرن السادس الميلادي

1 – ارتباط قريش بالتجارة

 قيل إن اسم قريش من القَرْش وهو الكسب، أو التقرش وهو التجارة؛ لأنهم كَسَّابين بتجارتهم وضربهم في البلاد[8]. وقد أصبحت قوافلهم يبلغ عدد الإبل فيها – حسب بعض الروايات –  ألفين وخمسمائة بعير.

وكما ورد في القرآن الكريم، كان للقرشيين رحلتان تجاريتان؛ " يرحلون – كما قال الزمخشري - في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتاروت ويتجرون، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يُتعرَّضُ لهم، والناس غيرُهم يُتخطَّفون ويُغارُ عليهم "[9].

 ومما زاد من ثراء قريش، واتساع تجارتهم، في زمن عبد المطلب؛ سقوط الحميريين في اليمن على أيدي الأحباش، واستشراء العداء بين الفرس والروم، وتوقُّفُ الحروب القبلية التي تُهدِّد طرق القوافل باللجوء إلى التحكيم والمفاوضات كما فعل مع أبرهة الحبشي. " وعلى تجارة مكة كان يعتمد الروم في استيراد أدوات الترف وخاصة الحرير "[10]. فمما حقق تلك النهضة الاقتصادية ما شهدته المرحلة من استقرار داخلي، وما عرفته الطرق التجارية من تنظيم.

 2 – مكة مركز تجاري يستقطب الأموال

في عهد عبد المطلب ازدادت أهمية الرحلات التجارية، وتقوى موقع مكة الجغرافي، بل أصبح أهم مركز تجاري في جزيرة العرب، وتم استثمار المعاهدات التجارية مع الدول المتاخمة لجزيرة العرب. " وفي مجال النشاط الاقتصادي، أصبحت مكة بعد سقوط الدولة الحميرية في بلاد اليمن مركزَ الحياة الاقتصادية في بلاد العرب وملتقى قوافل دول العالم القديم. وازدحمت مكة بالتجار من مختلف الأجناس والأديان، وشهدت مكة ألوانا مختلفة من الحضارات واللغات والثقافات"[11].

ومع ازدياد ثراء قريش في عصر عبد المطلب انتشر الرخاء في مكة، وانتشرت مظاهر الحضارة في قري. وحين تمَّ تقديم عبد المطلب إلى أبرهة، قيل: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يُطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال[12].

3 -   زمزم والطاقة المائية لاستقبال الحجيج

جاء حفر البئر إثر رؤيا لعبد المطلب، كما ورد في السِّير، ولم يكن بمكة نهر أو عين جارية، كما أن أمطار مكة قليلة، وقد كانت مكة تُعاني من مشكل المياه، وفي أشد الحاجة إلى إحياء بئر زمزم التي تفجرت في عهد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وقد ورد وصف مكة في القرآن الكريم على لسان إبراهيم ] ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم { [ إبراهيم: 39 ]. واقترن اسم زمزم بالبيت الحرام، وتولى عبد المطلب وظيفة السقاية في مكة لمواجهة وفود الحجيج. وذكر ابن هشام في السيرة أن الناس انصرفوا إليها، لفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها، وعلى سائر العرب[13].     

فزاد من مجد مكة ومجد عبد المطلب نعمة مياه زمزم، وما كان لها – وما يزال – من أثر أهل مكة وعلى القادمين إليها من كل فج عميق. وقيل إن عبد المطلب وجد أثناء حفر زمزم  نفائس ذهبية نازعته فيها قريش. أما كشف زمزم فقد كان حدثا كبيرا، رفع من مكانة عبد المطلب، ورفع عن المكيين معاناة قلة موارد المياه. 

4 - نمو حضاري وعمق إنساني في مكة

 كان ذلك نتيجة وضعهم الاقتصادي ومكانتهم الاجتماعية، واتصالهم بالشعوب الأخرى، وتمثل ذلك في القيم التي سادت لدى المكيين من كرم وشهامة ومروءة، وفي ازدياد خبرتهم ونمو ثقافتهم. فلم تكن مكة مركز تجارة فقط، بل كانت تتناقل فيها أشعار القوم، وكان أهلها أكثر الناس اهتماما بالتعليم. وكانت مكة تشهد نهضة أدبية، وكانت لغة قريش تستصفي اللهجات العربية، وكأنها تستعد لأن يقع عليها التحدي بالقرآن، وهو في أعلى طبقات البلاغة. ولا عجب أن تكون مكة قد عرفت كثيرا ممن يقرءون ويكتبون قبل ظهور الإسلام. وإلى جانب مهارتهم في التجارة، فقد كانت لهم مهارة في علم الأنواء، وعلم الأثر، وعلم الأنساب وغيرها. وكيف ننسى النبغاء في السياسة والإدارة والقيادة ممن أصبحوا رجالات الدولة الإسلامية في نشأتها الأولى؟ وكيف ننسى أعلام الصحابة من المهاجرين وما كان لهم من آثار في تأسيس تاريخ الإسلام؟

ثالثا : مكة مركز للوثنية في الحجاز

1 – انحراف الحجازيين إلى الوثنية

كان عرب الحجاز قبل بناء الكعبة يدينون بديانة إسماعيل بن إبراهيم، ثم انحرفوا إلى عبادة الأوثان، وتقول الروايات إن أول مَن نشر الأوثان بين العرب كان هو لحى بن حارثة الخزاعي، بعد أن جلبها من الشام. ومن أسماء الأوثان المذكورة في القرآن والتي عبدها العرب هناك: اللات والعزى ومناة ووُد وسواع ويغوث ويعوق ونسر. وذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام أنه كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه ، يتمسح به حين يريد وحين يعود منه. ولاحظ أنه كان لا يظعَن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرة الحرم، تعظيما للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا، وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة[14].    
 وكانت في الحجاز أصنام نصبت في أماكن محددة، وعند ابن الكلبي ما يكفي من المعلومات حولها. وتكفي الإشارة إلى قوله تعالى:] فاجتنبوا الرجس من الأوثان { [ الحج: 30 ]، وما فيها من دعوة إلى تطهير البيت من الأوثان، وتنزيهه، وإظهار التوحيد فيه.

2 – وكانت الكعبة مُجَمَّعاً للأصنام

مع انتشار الوثنية صارت الكعبة أشهر بيوت الأصنام في بلاد العرب، وكان أعظم الآلهة في جوفها هو " هبل"، وحول الكعبة تقف أصنام أخرى مثل " أساف " و " نائلة "، وهما على صورة رجل وامرأة، قيل إنهما مُسخا حجرين لفجورهما في الكعبة [15]. كانت طقوس العبادة تتمثل في الدوران حول الأنصاب، وتُهدى إليها القرابين من الذبائح.
وأهمية عبادة الأوثان أنها جلبت لأهل مكة  تجارة واسعة ، ودرت عليهم أرباحاً طائلة، وضمنت لهم الحماية والأمن، ومن هنا كثرت الأصنام وتنوعت، وبلغ عددها  360 صنما عند البعثة  في تقدير كتّاب السِّير؛ وبذلك أصبحت الكعبة قبلة القبائل العرب جميعها في موسم الحج.

رابعا : محاولة هدم الكعبة مهَّدت لظهور النبوة في الإسلام

1 – أول محاولة لغزو الحجاز          

قبل مولد نبي الإسلام بأربعين سنة، حاولت الحبشة أن تُسيطر على الكعبة، وقد يكون ذلك بإيعاز من الروم؛ إذ كانت الحبشة حليفة الإمبراطورية البيزنطية، وتابعة للديانة المسيحية. فبنى أبرهة الحبشي القُلَّيْس بصنعاء اليمن ليصرف إليها حج العرب ( والقُلّيس من إكلزيا اليونانية، ومعناها الكنيسة )، وسار بجيش كبير تتقدَّمُ الفِيَلة لغزو مكة وهدم الكعبة، فلما تهيَّأ لدخول مكة، وعبّأ جيشه، رفض فيله أن يتقدم وبرك، فتدخلت عناية الله تعالى لحماية البيت، وبعث الله على جيش أبرهة طيرا أبابيل لإبادة جيش أبرهة] ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول { [ الفيل: 3- 5 ].
" قال ابن إسحاق: فلما ردَّ اللهُ الحبشةَ عن مكة، وأصابهم بما أصابهم من النقمة؛ أعظمتِ العربُ قريشاً، وقالوا: هم أهلُ الله، قاتل الله عنهم، وكفاهم مئونة عدوهم "[16].

2 – حملة أصحاب الفيل وحماية رب البيت لبيته

 وكان من آثار هزيمة الأحباش أن استشعرتْ قريش  العناية الإلهية بها، وحمايتها لها من أعدائها، فانتشر ذكرُها في أرجاء الجزيرة العربية، وازداد مجدُها واحترام القبائل لها، وأحست قريش بأن معجزة قد حدثت. وبهذه الهزيمة ازداد ثراء عبد المطلب وامتد نفوذه. ولا حظ الأزرقي أنه إثر اندحار جيش أبرهة بقيت فلول منه في مكة: يعتملون ويزرعون لمكة "[17].
 وقد سارع هؤلاء الأحباش إلى الإسلام، يوم دعا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قومَه إلى عبادة الله عز وجل. وأهمية هزيمة أبرهة أنها حدت من انتشار المسيحية بين سكان مكة، وكانت ممّا هيّأ الأجواء النفسية لاستقبال دعوة الإسلام، والدفاع عنها.
ومن المعلوم في تاريخ مكة أن شعوباً، قبل الأحباش، أقامت بيوتا نصبت حولها الأوثان مضاهاةً لبيت الله الحرام.

3 - وحمل عام الفيل بشرى مولد نبي الإسلام

أخفقت حملة الأحباش، وظلت الكعبة شامخة، وتبيَّن لكل ذي عينين أن للبيت ربّاً يحميه، وجاءت إلى عبد المطلب، زعيم مكة، بشرى مولد حفيده الذي افتقد أباه وهو ما يزال في بطن أمه. شهد الكعبة في تلك اللحظة ميلاد سيد الخلق، وآخر حلقة في سلسة وحي السماء إلى الأرض.

خامسا: بداية التفكير في حقيقة الوثنية قبيل البعثة

 1 – عبادة يشوبها الشك

وبالرغم من تهالك الناس على عبادة الأوثان، وتنوع هذه الأوثان وتعددها وانتشارها في المناطق؛ فإن الإيمان لم يكن عميقا في نفوس من يعبدونها، بل ظلت شوائب الشك تتخايل في نفوسهم؛ إذ كانوا يُدركون أنهم يعبدونها تقليداً لمن ورثوها عنهم، ويتخذونها زلفى تقربهم إلى الله، وتتوسَّط بينهم وبينه؛ فأوثانهم وُسطاء وشركاء. ولاحظ د. جواد علي أن وثنية قريش " وثنية متطورة، قبل كل  تطور، ما دام التطور في حدود الوثنية وإطارها، كانت تتقبل كل صنم أو وثن أو تمثال أو صورة، تضمها إلى الأعداد المكدسة في الكعبة، وتتقرب إليها لا يهمها أصلها ومصدرها ... فعبادة مكة في هذا العهد شفعاء ووسطاء ومقربين"[18].

2 – بداية تدهور عبادة الأوثان قبيل البعثة

لم يعد لعبادة الوثنية، قبيل ظهور الإسلام، ما كان لها من قوة في النفوس، وأصبحت أقرب إلى الخرافات والأوهام، وإن احتفظ زعماء مكة بالأوثان لما تجلبه من فوائد مادية، ولما لها من دور اقتصادي في المجتمع المكي. وقد اتضح أن القرشيين عبدوا الأوثان دون أن يُخامرهم شعور بإيمان عميق. " كانوا في حالة قلق ديني قبل ظهور الإسلام، فقد كانوا غير راضين عن نظامهم الديني وعاجزين عن الوصول إلى ما هم أحسن بحيث يُرضي حاجاتهم ومطالبهم (...)، فقد كانوا لا يترددون في تحطيم آلهتهم إذا لم تتحقق نبوءتها "[19].

ومن مجمل عقائدهم، قبيل البعثة، يتضح بداية سخرية مما يعبدون،  وبداية نزوح نحو التوحيد. ولاحظ أهل السٍّير أن عبادة الأوثان بدأت تتدهور في الأوساط، فهذا عبد المطلب، قيل إنه في أواخر أيامه " كان أول من تحنث بغار حراء. والتحنث عندهم هو التألُّه والتبرُّر. فكان عبد المطلب إذا أهل شهر رمضان، دخل غار حراء فلم يخرج فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، وذهب بعضهم إلى أنه كان مقرا بالتوحيد[20]. وقالوا إن كعب بن لؤي بن غالب أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم كان من الحنفاء، أي من أولئك الذين احتفظوا بدين إبراهيم ولم يتأثروا بكل ما يُحيط بهم من ديانات أو عبادة أوثان.

3 - ظهور دعوة الحنيفية

وكان من أسباب تدهور عبادة الأوثان في مكة ظهور طائفة من أهل النظر، تحمل حركة إصلاحية، بدأت تتساءل عن أهمية عبادة الأوثان، وعن دورها في حياتهم. وتشكلت هذه الطائفة من مكيين تطلعوا إلى عودة دين إبراهيم، بعد أن تهاون أهلهم في عقيدتهم الحنيفية، عقيدة التوحيد، دين إبراهيم، فبدءوا يتساءلون عن فائدة عبادة الأوثان حين وجدوها لا تنفع ولا تضر، وراحوا " يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى والملل كلها؛ الحنيفية دين إبراهيم، فأما ورقة بن نوفل فتنصَّر واستحكم في النصرانية...ولم يكن فيهم أعدل أمراً وأعدل ثباتا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الأوثان، وفارق الأديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلاّ دين الحنيفية دين إبراهيم..."[21].

ولاحظ  د. علي جواد أن اعتزال هذه الفئة للأوثان جاء متساوقا مع ما كان يجري في عاصمة المسيحيين من جدل حول  مدى شرعية تقديس صور الأنبياء وصور المسيح وأمه وموافقة ذلك لأصول دينهم، ودار جدال هز الأمبراطورية هزا عنيفا، وانقسم رجال الكنيسة إلى من يُعارض فيرى ذلك كفراً وضلالا وإلحادا، ومن لا يرى في ذلك مخالفة بل يجد فيها خدمة للذين والإيمان. " ومن يدري، فقد يكون لهذا الجدل النصراني العنيف على تحريم تقديس الصور أو إباحتها علاقة برأي الأحناف في تقديس أهل مكة للأصنام والأوثان والصور"[22].
وقد عرفت هذه الطائفة بالأحناف، فقد اعتزلوا عبادة الأوثان في زمان ما يزال فيه أهل مكة مستسلمين لأوثانهم. ووجود هؤلاء الأحناف مؤشر على بداية تطلع إلى عقيدة جديدة مخالفة لما هو سائد في أجواء الكعبة. وكان ظهور هذه الطائفة من الأحناف إيذانا بالعودة إلى دين التوحيد. ولكن هل كانت مكة مهيأة لتقبل دعوة التوحيد؟ وهل تستجيب نفوس أصحاب المصالح لاستقبالها ؟ وهل تنام عيون أصحاب الأوثان، وما تُدره من أرباح، عمن يُفسد عليهم امتيازاتهم، وأوضاعهم الاقتصادية ؟

سادسا: وبدأ انحلال الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية

1 –  انحلال سلطة السيد والوثن بمكة

حدث خلاف بين القبائل، وبدأ الانحلال يدِبُّ إلى السلطة في قبيلة قريش،" فلم يبق لرجل منها ما كان لقُصَيّ ولا لهاشم ولا لعبد المطلب من سلطان. ولقد كان لتنازع ببن  هاشم وبني أمية السلطانَ يعد وفاة عبد المطلب أثرُه في ذلك بلا ريب. وكان الانحلال في السلطة جديراً بأن يجر على مكة الأذى، لولا ما كان لبيتها العتيق في نفوس العرب جميعاً من تقديس"[23].
وكان من نتائج انحلال السلطة في مكة، أن تراجع تقديس الأوثان في نفوس المكيين؛ نتيجة جهر الأحناف بمعتقداتهم المناهضة للوثنية، ونشاط اليهودية والنصرانية في غياب السلطة. وهكذا أدّى انحلال السلطة القرشية إلى بداية انحلال الوثنية. فسُمِع من يقول من الأحناف: " والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال...يا قوم التمسوا لكم دينا غير هذا الدين الذي أنتم فيه ". وقيل إن عثمان بن الحويرث ذهب إلى بيزنطة وتنصر وحسنت مكانته عند قيصر الروم، ويقال: إنه أراد أن يُخضع مكةَ لحماية الروم، وأن يكون عاملَ قيصر عليها"[24].

2 – انحلال المجتمع المكي نتيجة التفاوت بين الفقراء والأغنياء في مكة

 نظرا لكثرة الأموال التي دخلت خزائن  مكة، وما تكدَّس في المدينة من رقيق  الأحباش، وما دخلها من العمال الوافدين، فقد انكشف الوضع عن فئة قليلة من الأغنياء تتحكم في فئات كثيرة من الفقراء. فقد امتلأت شعاب مكة وأحياءها بالأحباش والعبيد والعمال والتجار والمرتزقة من الجند. وقد عم الجشع قلوب الأغنياء، وزاد استغلالهم للفقراء. وأصبحوا يتباهون ] وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين { [ سبأ: 35 ]. وكأن الغنى يحميهم من العذاب. 

 وظاهرة الفقر في البيئة المكية أخذت أبعاداً سلبية كشف عنها القرآن؛ منها أن يقتل الإنسان أولاده خشية إملاق. ومن هنا سعى القرآن إلى الحدَّ من خطورة تلك الظاهرة، وتقديم العلاج لها. فقد جعل الإسلام  للفقراء فريضة في أموال الأغنياء. قال تعالى: ] خذ من أموالهم صدقة تُطهرهم وتزكيهم بها { [ التوبة: 103 ] و ]وفي أموالهم حق  للسائل والمحروم { [ الذاريات: 19 ]. فالقرآن يدعو إلى التكافل الاجتماعي، يحثُّ على الإنفاق، ومساعدة الفقراء والمساكين، ويُعنِّف مَن يغتصب أموال اليتامى، ويأكلها ظلما، ومن يلجأ إلى الغش وتطفيف الكيل، ووصف ما للفقر من آثار سلبية على صاحبه ؛ من حسد ونفاق واغتياب ولمز... فلا عجب أن تتطلع نفوس الفقراء الذين اكتووا بصلف كبراء أم القرى، إلى الانعتاق مما هم فيه، ولا غرابة في أن يُقبلوا على الإسلام ليخلصهم من تحكم السادة فيهم. وهكذا كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تترقب أن يسود العدل في توزيع الأموال.

سابعا: وتطلعت الدنيا إلى استقبال دين جديد

2 - ظهور تباشير مولود جديد بمكة

وقد كثرت الروايات وتنوعت في هذا الشأن، وتسابق اليهود إلى الحديث عن ظهور نبي، وذكر أهل السير أن آمنة بنت وهب لم تتحمل أي مشقة في حمل الرسول أو ولادته، وأن أنواراً عظيمة أضاءت السماء ليلة مولده. وقيل إنه وقع ارتجاج في السماء والأرض لمولده.
وقال أهل التنجيم أن محمدا ولد عند وجود المشتري، وهو دليل السعد والمجد، وأن سنة ولادته كانت سنة الفتح والخير؛ لأن قريشاً كانت قبل ذلك في جدب وضيق، فاخضرت الأرض وأثمرت الأشجار وعم الخير أرجاء مكة[25].       

2 – ظواهر طبيعية تحدث في الكون 

ومن الظواهر الطبيعية التي تحدث عنها كتاب السيرة النبوية، حديثهم عن ظهور آيات كونية ظهرت يوم استقبلت الدنيا حامل آخر رسالات السماء إلى الأرض.
 فقد خمدت نيران زرادشت ( نيران الماجوس) التي ظلت مشتعلة منذ آلاف السنين، وارتجف إيوان كسرى وسقط كثير من أبراجه، وغاضت بحيرة ساوة وجفت جوانبها، وفاضت مياه دجلة فأغرقت الأراضي المحيطة بها، ورأى الموبذان ( خادم النار الكبير عند الفرس) أن فرسا عربية قد قطعت دجلة وصرعت جملا ، وفُسِّر ذلك بأن بلاد فارس ستُهدد بخطر قادم من بلاد العرب. وقيل إن جميع أصنام العالم قد سقطت على الأرض[26]. واستقبلت دنيا البشر نور الهدى إلى كل البشر، وظلت مكة تزداد عزة ومناعة وتبجيلا وتألُّقا على امتداد تاريخ الإنسانية على الأرض، ولن تزيدها الأيام إلا تعظيما وتشريفا، ألا يوجد فيها بيت الله؟






[1]  ملاحظة: كتب هذا المقال سنة 1003م، ولم يكتب له النشر.

[2]  تاريخ الكعبة: د. علي حسني الخربوطلي- دار الجيل، بيروت، ط1( 1976)، ص43.

[3]  السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا – إبراهيم الأبياري – عبد الحفيظ شلبي – دار إحياء التراث العربي، بيروت ، د.ت:1/150.

[4] المصدر السابق:1/160 – 164
[5] المصدر السابق: 1/209 – 210 – وينظر: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار: أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي، تحقيق: رشدي الصالح ملحس، دار الثقافة، بيروت، ط3، 1979: 1/163.

[6] سيرة ابن هشام:1/165.
[7]  البداية والنهاية : أبو الفداء، ابن كثير الدمشقي ( 774هـ)، حققه: د. أحمد أبو ملحم وزملاؤه – دار الكتب العلمية، بيروت، ط4 (  1988 ): 2/237.

[8] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجه التأويل، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1 (1998): 6/437 – وينظر: لسان العرب [ مادة: قرش].

[9] الكشاف:6/346.  

[10] فجر الإسلام: أحمد أمين، القاهرة، ط7 ( 1957)، ص13. 

[11]  تاريخ الكعبة: د. علي حسني الخربوطلي، ص47.


[12] كشاف الزمخشري: 6/432.


[13]  سيرة ابن هشام:1/158.
[14] كتاب الأصنام: ابن الكلبي ( هشان بن محمد) دار الكتب، القاهرة، 1894م، ص48.
[15] تاريخ العرب قبل الإسلام: د. سعد زغلول عبد الحميد – دار النهضة العربية، بيروت، ط1 ( 1976)، ص351.

[16] سيرة ابن هشام:1/59 – وينظر: الجامع لأحكام القرآن : أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي – دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ( 1988 ): 20/133.
[17] أخبار مكة: 97.

[18] تاريخ العرب في الإسلام ( السيرة النبوية ): د. علي جواد – دار الحداثة، بيروت، ط1 ( 1983 ) ، ص58.
[19]  تاريخ الكعبة: 121.
[20] تاريخ العرب قبل الإسلام: د. سعد زغلول عبد الحميد – دار النهضة العربية، بيروت، ط1 ( 1976 )، ص298 .
[21]  البداية والنهاية: أبو الفداء ، ابن كثير الدمشقي 774هـ، حققه: د. أحمد أبو ملحم وزملاؤه – دار الكتب العلمية، بيروت، ط4 ( 1988): 2/221 – 222.
[22] تاريخ العرب في الإسلام ( السيرة النبوية ): د. علي جواد، ص 60.

[23] حياة محمد: محمد حسين هيكل – مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ط3 ( 1968)، ص126.

[24] نفسه: 127 – 128.
[25] تاريخ الكعبة: ص109.
[26] البداية والنهاية : أبو الفداء ، ابن كثير الدمشقي 774هـ :2/230

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق