الجمعة، 2 أكتوبر 2015

بين من يقول ومن يسمع عند ابن المقفع



عباس أرحيلة
تمهيد:
عاصر ابن المقفع، المتوفى سنة 142هـ، انتقال دولة الإسلام من بني أمية ( 41 – 132هـ) إلى دولة بني العباس ( 132 – 656هـ)، وتابع التّحَوُّلات التي عرفتها أحوال الناس من عادات وتقاليد، برؤية مُؤرِّخ؛ رصَدَ عن كَتَب ما طرأ على طبائع الناس وأخلاقهم؛ ممّا لم يُعهَد في العلاقات بين الناس في سابق العهود الإسلاميّة.
 وأعرض فيما يلي على القارئ نصا مقتطفاً من بداية اليتيمة الثانية لابن المقفّع - يتناول فيه ما ينبغي أن تكون عليه علاقة القائل بالمستمع، وما الصفات التي ينبغي أن تكون في كل منهما؛ لتستقيم حركة الحياة بينهما؛ ذلك أنّ الاجتماع البشريّ لا يتمّ بغير تواصل، وعن طريقه يتحقَّق التعايش والتفاهم الانسجام.

أولا: حَدُوث فساد في التواصل بين النّاس
سُئل ابن المقفع عن الناس – في إحدى رسائله – اليتيمة الثانية -  فقال: « إنَّما الزمانُ الناسُ »؛ أي أنهم يتقلبون كما يتقلّبُ؛ فهم أشبه بما يكون عليه من تقلُّبَات  وتحوُّلات.
وبدأ رسالته بقوله: « وقد أصبح الناس – إلا قليلاً مِمَّن عَصَمَ اللهُ – مَدْخُولِينَ مَنْقُوصين؛ فقائلُهم باغٍ وسامِعُهم عَيَّابٌ، وسائلُهم متعنِّتٌ ومُجيبُهم مُتَكَلِّفٌ، وواعِظُهم غيرُ مُحَقِّقٍ لقولِه بالفعل، ومَوْعُوظِهِم غيرُ سليم من الهُزْءِ والاستخفافِ، ومستشيرُهُم غيرُ مُوَطِّنٍ نفسَه على إنفاذ ما يُشارُ به إليه، ومُصطَبِرِ للحقِّ مما يسمعُ، ومستشارُهم غيرُ مأمونٍ على الغِشِّ والحسد، وأن يكون مُهْتاكاً للسِّتْر، مُشيعاً للفاحشة مُؤْثِراً للهوى.
والأمينُ منهم غيرُ متحفِّظ من ائتمان الخَوَنة، والصَّدُوق غيرُ محترِس من حديث الكَذَبَةِ، وذُو الدِّينِ غير مُتوَرِّع من تفريط الفَجَرَة.
 يَتقارَضون الثناء، وَيَتَرَقَّبُونَ الدُّوَلَ؛ يَعيبون بالهَمْز. يكاد أحزَمُهم رأياً يُلفتُه عن رأيه أدنى الّرِضا وأدنى السُّخْط، ويكاد يكون أَمتنُهم عُوداً أن تسحَرُه الكلمة وتُنْكِرُهُ اللحظة»(1).
      فالناس - في فترة الانتقال من العهد الأُمويّ إلى العهد العباسيّ - أصبحوا « مَدْخُولِينَ مَنْقُوصِينَ »؛ اعتراهم الدَّخَل والنقص؛ فداخَلهم الفساد في عقولهم وأدخلوا في الدين أموراً لم تجرِ بها السُّنّة؛ فتغيَّرَتْ أحوالُهم، وانقلبت القيم في سلوكهم؛ فساد العيب والغش، وساء تعامل الناس بعضهم ببعض.
وأوَّلُ ما أشار إليه ابن المقفع أنَّ القائلَ أصبح من أهل البَغْيِ والظلم والطغيان، أمّا المستمع إليه فلم يعُد يحسن غير تتبُّع عيوب ذلك القائل والسخرية منه. فحدثت فجوة بين ما يقوله القائل وما يتلقاه المستمع ويستفيد منه، وانفكَّتِ العلاقة بين الأقوال والأفعال.
واضح مما قاله ابن المقفع أنَّ المجتمع في مرحلته الانتقالية بين العهديْن: الأمويّ والعباسيّ؛ شاع فيه التعنُّتُ والتكلُّفُ، وضاعت حقيقة النُّصْح فيه بين من يعِظ ومَن يتّعِظ؛ فاستحالت الموعظة استخفافاً لدى مُستمعيها. وساد الغشُّ والحسد، وآثر الناس الفاحشة وعبدوا أهواءهم؛ فضاعت الأمانة مع الخَوَنَة، وضاع الصِّدْقُ مع الكَذَبَة، وساد  بين أهل الدين الفَجَرة.
      وبفساد العلاقات بين الناس؛ بَعُدَتِ الشقة بين القائل ومن يستمع إليه؛ فانعدم التواصل بين الناس، وفَقَد القولُ مفعولَه في نفْس المُخاطَبِ به؛ حتى « يكاد... أمتَنُهم عوداً أن تسحَرَه الكلمة وتُنكره اللحظة ». فلا أثر للقول في نفس من يستمع إليه، إلا أن يكون القول زائفاً؛ حين يتقارض الأفراد الثناء بينهم؛ فيقرض كل واحد صاحبه كَمّاً من الثناء؛ ليردَّه إليه في الوقت المناسب. فكيف ينبغي أن يكون التواصل بين القائل والمستمع؟
ثانيا: كيف يتحقق التواصل؟
 قال ابن المقفع: « وقد ابْتُليتُ أن أكونَ قائلا، وابْتُلِيتُمْ أن تكونوا مستمعين، ولا خيْرَ في القول إلاَّ ما انْتُفِعَ به، ولا يُنتفَعُ إلاَّ بالصدق، ولا صِدْقَ إلاَّ مع الرأي، ولا رأيَ إلاَّ في مَوْضِعِهِ، وعند الحاجة إليه؛ فإنَّ خيرَ القائلين مَنْ لم يكن الباطلُ غايَتَه، ثم لزِمَ القصْدَ والصوابَ(...) كما أنَّ المريدَ بكلامه أن يُعجِبَ الناسَ قد يجتمعُ حِرْمانُ ما طَلَبَ مع سوء النية وحمْلِ الوِزْرِ».
 أي مفعول للقول، وأي فائدة تُرجى منه إذا صار انحرفاً عن الصدق وتنكُّباً عنه، وعاد شرّاً يزيد من تفكّك العلاقات بين الأفراد والجماعات لا نَفْع من ورائه؟ ما أفظع أن يُبتلى الناس بانعدام التواصل بينهم؛ فيصير حالهم كحال ابن المقفع مع أهل زمانه!
فالشرط الأول في أيّ قول أن يكن مما يُنتَفَع منه؛ أي أن تكون له وظيفة فعليّة، بأن يصير له دور في حياة الناس: أن يكون له مفعول في عقولهم ونفوسهم، أن يحصل انفعال به وتفاعلُ معه.
وأيُّ نَفْعٍ يُرجى من قول لا صِدْقَ فيه؟ وهل تقوم حياة الناس في دنيا الناس بغير حق وصدق؟ وعلامة الصدق في الدنيا لأهل الدنيا أنَّ له نَفْعاً في الأخرى، قال تعالى: ﴿ هذا يوم يَنْفَعُ الصادقين صدقُهم ﴾[ المائدة: 119].
ومتى يكون الصدق صِدْقاً؟ وما يُنتفع به في حركة الحياة البشريّة؟ حين يكن نتيجة فكر ثاقب، ورأي راجح. لا قيمة لأي رأي راجح إذا لم تكن الحاجة ماسَّة إليه. ولا قيمة لأية معرفة لا تدعو الحاجة إليها. فالمنطلق في كل موقف الاحتكام إلى الواقع ما تدعو الحاجة إليه. وهذا منهج الإسلام في التفاعل مع الواقع.
فمن هو خير القائلين؟ مَن أدرك ما تدعو الحاجة إليه من منطلق الواقع؛ نتيجة رأي سديد وموقف واضح؛ يُحركُهما الصِّدق الذي تحركه منفعة الناس.
 فخير القائلين « مَنْ لم يكن الباطلُ غايَتَه، ثم لزِمَ القصْدَ والصوابَ ».
أما من أراد أن يعرض زخرف القول؛ ليَعجِبَ الناسَ، ويُعجَبَ به الناس؛ فقد يجتمع أمران تجاه قوله: أولهما أن لا يحظى بذلك الإعجاب الذي كان ينشده ويتطلع إليه؛ فيُحرم من حصول الإعجاب بقوله؛ نتيجة سوء نيته في القصد من قوله. والأمر الثاني: تَحَمُّلُه للوِزْر نتيجة سوء القصد من قوله.﴿ وقال صواباً ﴾[النبأ: 38].
ثالثا: كيف يكون المستمع تجاه قول القائل؟
قال أبن المقفع: « وخيْرُ السامعين مَنْ لم يَكن ذلك منه سُمْعةً ولا رِياءً، ولم يَتَّخِذْ ما يَسمعُ عَوْناً على دفْع الهُدى، ولا بُلْغَةً إلى حاجة الدنيا ».
ليست الغاية من سماع القول ادِّعاء السامع أنه سمِع ما قيل، وأن أَتْباعه شهِدوا له بالسماع؛ فكان الأمر ادِّعاءً ورياءً وخِداعاً. فما ينبغي أن يكون السَّماع بقصد التمويه والادِّعاء والتظاهر به؛ وتكون الغاية من ذلك رفض الاهتداء بما ورد فيه، والابتعاد عن المنهج. وبهذا يتخذ الرياء « عَوْناً على دَفْعِ الهُدى ».
وليس من قصد القائل أن يتخذه مطيَّة لاجتلاب متاع الدنيا؛ ادعاءً منه أنه يسمع ما يُقال أي يفهم ما يُقال؛ فيكون ادّعاء السماع ممّا يتبلَّغُ به إلى حاجة الدنيا.
رابعا: متى يحصل التواصل بين القائل والسامع؟
قال ابن المقفع:
« فإنْ اجتمع للقائل والسامع، أن يُرزَقَ القائلُ من الناس مِقَةً وقَبولاً على ما يقوله، ويُرزَقَ السامعُ اتِّعاظاً بما يسمعُ في أمر دنياه - وقد صلَحَت نياتُهما في غير ذلك – فَعَسى ذلك أن يكون من الخير الذي يُبلِّغُه اللهُ عبادَه، ويُعَجِّلُ لهم من حسنَة الدنيا ما لا يَحرمُهم من حسنة الآخرة».
فما ينبغي إذاً أن يجمع بين القائل والسامع؟ وما يُحقق التَّواصل والتفاعل والانسجام بينهما؟ على القائل أن يكون صادق النيّة فيما يقوله. فلا يمكن أن يحصل تفاعل إيجابيٌّ بين القائل والمستمع إلا إذا أحبَّ الناس قول القائل، وتعلّقوا به، ولقِيَ لديهم قَبولاً، ووجد في أنفسهم وعقولهم صدىً.
وأنىَّ لقائل أن ينال محبَّة الناس ما لم يكن في قوله ما يستجلب محبتهم، وما أصعب أن يحظى الإنسان بمحبَّة غيره من خلال قوله؛ إذ لا قيمة لقول لا يعضِّدُه فعلٌ ولا يؤازره. وأنّى للناس أن يتقبَّلوا ما يقال لهم، ووسائل التواصل اللغويّ والفكريّ في حكم المعدوم، وحين تسود أشكال من الأميَّة.
ثم كيف يكون حال مستمع غير صادق النية أيضاً في سماعه؛ لا يتأثّر ولا ينفعل بما يُقال، ولا يتّعِظ « بما يسمع في أمر دنياه ».
ولا خير في مستمع لم يتعظ بما ينفعه في دنياه وأخراه. ولا خير في دنيا الناس إلا في المنهج الذي ارتضاه لعباده. فعسى ما يُوعظ به الإنسان « أن يكون من الخير الذي يُبلِّغُه اللهُ عبادَه »؛ وهو خيرٌ يُعجِّلُ به لهم من حسنَة الدنيا ما لا يَحرمُهم من حسنة الآخرة". ولفظ « يُرزَقُ » هو الجامع الحقيقيّ بين القائل والمستمع. فلا بد من توفيق الله عز وجل "لِيُرْزَقا" صدق النية والإخلاص في العمل؛ إنْ قولا أو سماعاً.
      في الختام:
يلاحظ أن ابن المقفع رصد برؤية عالم الاجتماع ما حصل من انعدام التواصل بين أفراد المجتمع لحظة الانتقال من العهد الأُمويّ إلى العهد العباسيّ؛ حين غاب التفاهم والانسجام بين أفراد المجتمع فيما هو مشترك بينهم؛ بحيث أصبحوا يتقلَّبون تقلُّبَ زمانهم و(يَتَرَقَّبُونَ الدُّوَلَ).
ويمكن أن يُقال:
فسَدَتْ أشكال التواصل بين الناس، في زمان ابن المقفع وفي زماننا؛ « فالزَّمَانُ النَّاسُ... مَدْخُولُونَ مَنْقُوصُونَ... يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ ويَتَرَقَّبُونَ الدُّوَلَ »؛ وبعض أهل زمان ابن المقفع، وكثير جدّاً جدّاً جدّاً من أهل زماننا: « تُنْكِرُهُم اللًّحْظَةُ ». فهم يعيشون خارج الزمن، ويعيشون في شقوق التحوُّلات!
رسائل البلغاء ( يتيمة ثانية لابن المقفع)، النص ص116
 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق