الجمعة، 2 أكتوبر 2015

عيْن على كتب الجاحظ في الإمامة

عباس أرحيلة
 تمهيد:
 يبدو أنّ الخليفة المأمون العباسي (تـ 218هـ)، كان من قرّاء الجاحظ والمتابعين لأعماله؛ لما حقَّقَه من نجاح في صناعة التأليف، ورسوخ قدمه فيها؛ مما جعل المأمون يستدعيه إلى بلاطه ويطلب إليه أن  يَكتب له رسالة في العباسيَّة والاحتجاج لها؛ وكأنها قضية مذهبيّة سياسيّة لترسيخ العباسيين في سدة الحكم، في وجه من يتطلع إلى الحكم أو يُناوئهم فيه. ومن المعروف أن الجاحظ كان يُناصر العباسيّين، ويرى أنهم أولى بالإمامة من غيرهم.
 ونجد هذا النص في كتاب (البيان والتبيين)، يرصد فيه الجاحظ متابعةً لكتبه من لدن أحد العيون العلميّة للمأمون؛ وهو مؤَدِّبُه اليزيدي محمد بن يحيى (202هـ)، أحد القُراء؛ وهو، كما أخبر المأمون؛ « منْ يُرتضى عقلُه ويُصدَّقَ خبرُه ».

أولا: نص الجاحظ
قال: « ولما قرأ المأمون كُتُبي في الإمامة فوجدها على ما أمرَ به، وصرتُ إليه وقد كان أمَرَ اليزيديَّ بالنظر فيها ليُخبرَه عنها؛ قال لي: قد كان منْ يُرتضى عقلُه ويُصدَّق خُبرُه، خبَّرَنا عن هذه الكتب بإحكام الصَّنعة وكثرة الفوائد، فقلنا له: قد تُربي الصفةُ على العِيان، فلما رأيتُها رأيتُ العيانَ قد أربى على الصفة، فلما فليتُها أرْبى الفَلْيُ على العِيان كما أربى العِيانُ على الصفة.
            وهذا كتاب لا يَحتاجُ إلى حضور صاحبه، ولا يفتقر إلى المُحتجِّين عنه؛ قد جمَعَ استقصاء المعاني، واستيفاء جميع الحقوق، مع اللفظ الجزل، والمَخرج السهل، فهو سوقيٌّ ملوكيٌّ، وعامِّيٌّ خاصِّيٌّ »[1].
ثانيا: مقاربة ما ورد في النص
الحدث الأول: صدور قرار إلى الجاحظ بوضع كتُب حول الإمامة، وصدرت مع القرار توجيهات محدَّدة في تناول تلك الدراسات.
الحدث الثاني: قراءة المأمون لهذه الكتب، ووقوفه على نجاح الجاحظ في الالتزام بالتوجيهات، وتحقيق ما طُلب منه؛ أي على الصورة التي أرادها.
الحدث الثالث: استقدام الجاحظ، وإطْلاعُه بتكليف اليزيدي بالنظر في تلك الكُتُب، ووضع تقارير حولها؛ وإخبار المأمون بقيمتها في المقاصد التي يروم إليها، ويرغب في التعبير عنها.
الحدث الرابع: تقديم التقارير وخلاصتُها أنَّ كتب الجاحظ تتميز بإحكام الصَّنعة وكثرة الفائدة.
وتتضح هنا المنهجية في تقويم الكتاب: إحكام الصنعة، والبناء، والعرض؛ شكلا، وإقامة الكتاب على الاستدلال، وأساليب الإقناع؛ منهجاً، وكثرة الفائدة على مستوى المضمون.
      الحدث الخامس: مع شهادة المأمون لليزيدي بوفرة العقل ورجحانه؛ لم يكتفِ بما جاء في التقارير، بل عاد مرة ثانية إلى فحص كتبَ الجاحظ بنفسه؛ اعتماداً على فكره ونظره. فوجد فيها فوق ما وُصِفتْ به، وقال: رأيت العيان قد أربى على الصفة.
الحدث السادس: موقف الجاحظ ممّا قيل عن كتبه - أو عن كتابه حول إمامة بني العباس -: هذا كتاب لا يحتاج إلى حضور صاحبه أي أن الكتاب يُثبت جدارة صاحبه بحيث ينوب عنه في المحافل والمنتديات، ويقوم شاهداً على قيمته العلميّة.
فالكتاب جَمَعَ استقصاء المعاني، واستيفاء جميع الحقوق؛ أي أنه استقصى المعاني، وتوافر له ما تتطلع إليه النفوس؛ مع اللفظ الجزل، والمَخرج السهل أي مع قوَّة العبارة وسهولة الأداء؛ فهو سوقيٌّ ملوكيٌّ، وعاميٌّ خاصيٌّ؛ يستجيب لجميع مستويات المخاطبين وأذواقهم.
ثالثا: المكلف بوضع التقرير: اليزيدي 138 – 202هـ
يحيى بن المبارك بن المغيرة العَدَوي، أبو محمد اليزيدي (صحب يزيد بن منصور الحميري خال المهدي فنسب إليه، وكان يُؤدِّب ولده). من أهل البصرة، عالم بالعربيّة والأدب. صاحَبَ أبا عمرو بن العلاء المقرئ البصري، وكان أبو عمرو يُدنيه ويَميل إليه لذكائه. وهو مَنْ خلَفَه في القراءة بعد وفاته، وخالفه في حروف يسيرة من القراءة اختارها لنفسه.
وكان اليزيدي يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي في مجلس واحد يُقرئان الناس، وكان الكسائي يؤدِّب الأمين وهو يؤدب المأمون، فأما الأمين فإن أباه أمر الكسائي أن يأخذ عليه بحرف حمزة، أما المأمون فإن أباه أمر أبا محمد أن يأخذ عليه بحرف أبي عمرو[2].
ولليزيدي خمسة بنين كلهم علماء أدباء، وكلهم ألَّفَ في اللغة والدب: محمد، إبراهيم، إسماعيل، عبد الله، إسحاق[3].
 من خلال ترجمته يلاحظ أنه تولى تربية مجموعة من أبناء بني العباس، وأنَّ المأمون تأدّب على يديه، وأخذ عنه قراءة أبي عمرو بن العلاء. وشهد لليزيدي بالذكاء، والثقة والصدق، ومن مؤلفاته كتاب: (مناقب بني العباس).
وسأل المأمون اليزيدي عن شيء فقال: لا وجعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين. فقال: لله دَرُّكَ! ما وضعت الواو قط في موضع أحسن من موضعها في لفظك هذا، وَوَصَلَه وحَمَلَه[4].
رابعا: تعليق صاحب الفهرست على النصّ
أورد النديم ( محمد بن إسحاق 380هـ) النصّ السّابق، مع تغيير في الفقرة الأخيرة؛ حيث نجد بدل« وهذا كتابٌ »، « وهذه كتبٌ » بالجمع – « صاحبها... المخبر عنها... »  – فهل أراد الجاحظ بالكتاب مفرداً « رسالته في العباسية والاحتجاج لها »؟ على كلٍّ، لم يعلق عبد السلام هارون على المسألة. وعلّق صاحب الفهرست على نصّ الجاحظ بقوله:
« أظنُّ الجاحظ حسّنَ هذا اللفظ تعظيماً لنفسه، وتفخيماً لتأليفه. وكيف يقول المأمون هذا الكلام؛ مادحاً لتصنيف أو مُثْنٍ على تأليف؟ وقد كتب إلى ملك البرغر ؟ كتابا يحتوي على أكثر من مائة ورقة، لم يستعن في ذلك بأحد، ولم يورد فيه آية من كتاب الله جل اسمه، ولا كلمة من حكيم يقَدِّمُه. ولكن أطاع الجاحظ لسانه فقال»[5].
وفي تعليقه ذكر أن الجاحظ أطاع لسانه وأطلقه في مدح كتبه بما شاء من الثناء والتفخيم؛ إعجاباً بنفسه، وتعظيماً لكتبه. وفي تقديره أنَّ المأمون لا يمكن أن يصدر منه ذلك الإعجاب بما كتبه الجاحظ. لماذا؟ لأنه وضع كتابا إلى أحد الملوك « يحتوي على أكثر من مائة ورقة، فلم يستعن في ذلك بأحد، ولم يورد فيه آية من كتاب الله جل اسمه، ولا كلمة من حكيم يقَدمه »؟
وهل إذا كان المأمون قد كتب ما كتب، أليس من حقه أن يُبدي إعجابه بما كتبه الجاحظ، وأن يُثني عليه بمثل ما قاله؟ لعل النديم لم يكن معجباً بآثار الجاحظ. وهل عُرف هذا الكتاب الذي يحتوي على أكثر من مائة ورقة؟ وما حقيقة ما قيل عن اعتزالية النديم؟





[1] البيان والتبيين، تحقيق : عبد السلام هارون (تـ1988م): 3/374 – 375.

[2] وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ابن خَلكان، أحمد بن محمد (ت681هـ)، تحقيق: د. إحسان عباس (تـ2003م) – ط1[ دار صادر، بيروت،1977م]: 6/183 – 1916/184 – وتنظر ترجمته في: نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لأبي البركات الأنباري، عبد الرحمن بن محمد 577هـ – ط2 [دار المعارف للطباعة والنشر، تونس، 1998م].
[3] الأعلام: خير الدين الزِّرِكْلي (تـ 1976م): 8/163.
[4] وفيات الأعيان:  6/185.
[5] الفهرست: محمد بن أبي يعقوب المعروف بالنديم (ت380هـ)، تحقيق: د. يوسف علي طويل – ط1[ دار الكتب العلميّة، بيروت، 1996م]، ص292. ولم يشرح المحقق المراد بملك البرغر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق