الاثنين، 19 أكتوبر 2015

بين الإمام الغزاليّ وطه عبد الرحمن





عباس أرحيلة

تمهيد:
عاشا في أمة مصابة بهزيمة عقليّة ونفسيّة، واجها الفلسفات الوافدة والنِّحل الهدّامة، وناهضا خصوم الإسلام من المتفلسفة والباطنيِّين، وعرضا في مشروعهما العلميّ لمشاكل شائكة، وتناولا قضايا عويصة، وكانت لهما الجرأة المطلوبة في اقتحام المضايق الفكريّة. واجْتهدا ما وَسِعهما الاجتهاد، وشُهِد لهما بالعمق الفكري؛ فنالا مكانة مرموقة في عالم الفكر.
أدارا فلسفتهما حول الدين الإسلاميّ في عمقه الروحيّ والأخلاقيّ، وأقاما مشروعهما على صحّة الدِّين وفساد الفلسفة حين يَحيد أهلُها عن الجادة بسبب عجزهم أن يأتوا بما يُضاهَى به غيرُهم.
رفضا إخضاع قوانين القرآن لقوانين الزمان ليكون ملائماً لما عليه الزمان من انحراف.
لم يتخذا العلم سبيلا إلى جاه الدنيا، وآثرا بساطة العيش.

ولمّا رفَضَ طه عبد الرحمن أن يكون رُشْديّاً اتَّهَمهم بعضهم بالغَزَّاليّة؛ لأنهما أرادا (إحياء علوم الدين)، ورمَيا المتفلسفة بـ(التهافت)!

أولا: ما أشبه اليوم بالبارحة

ما أشبه مطالع القرن الحادي عشر الميلاديّ (1111م وفاة الغزالي) بزمان د. طه عبد الرحمن وهو يعيش في مطالع القرن الواحد والعشرين!
عاشا في أزمنة عشّش فيها الانحراف عن منهج الله، وفرّخ فيها الإلحاد، ووقع العالم الإسلاميّ تحت نفوذ الفكر الغربيّ بكل كبريائه وصلفه وانحرافاته، عصر تطحنه التناقضات، وتُستهان فيه المقدَّسات، عصر تغتاله فوضى مذهبيّة، وتتوزّعه خصومات طائفية، غايتهما تجميع أمة فرَّقتْها الأهواء، وتحريرها من ذِلَّة الاستسلام، وإعادتها إلى عزة الإسلام. 
سعى كل منهما أن يستقل بتفكيره، وأن يكون همُّه البحث عن الحقيقة. فتفلسفا دفاعاً عن الإسلام، وإن اختلفت طريقة كل منها تبعاً لاختلاف العصر، واختلاف التصورات، وآليات التحليل، واختلاف المخاطبين.
لا يرفضان الفلسفة حين تكون فكراً حراً مستقلا عن الأهواء، وإنما يرفضانها حين تُصبح تقليداً وأوهاماً، ودعاوى تُستهلَكُ للتغرير بالمستضعفين. جعلا من وُكدهما الحدّ من صَلَف (العقلانية) حين لا يُسدِّدُها الوحيُ؛ فتتيه في التجريد. وحين انصهرت تلك (العقلانية) بالإيمان لديهما؛ اتضح أن لا تنافيَ ولا خلافَ ولا تناقضَ بينهما، وأن أساس الفلسفة هو الإيمان، وبقدر ما يعظم الإيمان تعظُم الفلسفة.
فهما فيلسوفان يدعوان أهل النظر إلى التحرر من التبعية لغيرهم ويرفضان الجمود الفكري، ويُحفِّزان الهمم إلى التشبث بالقيم؛ التي لا تتحقق الأصالة الفكرية بغيرها.

ثانيا: الشجاعة في المواجهة

كان لهما جَلَدٌ على البحث في قضايا المعرفة ورغبة في الوصول إلى الحقيقة. ومن هنا رفض كل منهما التقليد الأعمى الذي يقود صاحبه إلى الهلاك، ويأبى كل منهما أن يُقيَّد بأغلال التبعية ولو كانت من ذهب، مع ندائهما الدائم بضرورة التحرر، ورفض الجمود الفكري، والبحث عن الحق والدليل، ونشدان الأصالة.
وسعى كل منهما أن يستقل بتفكيره، ويكون قويّ الحُجّة، قويّ البيان. وتعلُّقُهما بالحق جرَّ عليهما حسد الحسّاد!

كل منهما يتميز بعقل متمرد، وثقة بالنفس، واعتداد بالفكر، وكل منهما شجاع لا يتهيب خوض المعركة: سَخِرَ د. طه من الطريقة التي تناول بها د. عبد الله العروي مفاهيمه لإخراج العرب من التخلف، واعتبره النموذج الذي يتمثَّلُ فيه التقليد بامتياز، وجعل منه أكبر مقلد للفكر الغربي في العصر الحديث، وأعجزَ من أن يُوَلِّدَ فكرةً واحدة من ذاته، أو يستشكل قضيّة من واقعه.

ثالثا: سادسا: مناهضة الفلسفة

ناهضا كلٌّ منهما التفلسف حين يكون تقليداً.
وجاء كلٌّ في زمانه،« والناس إلى ردِّ فرْيَة الفلاسفة أحوَجُ من الظلماء لمصابيح السماء، وأفقر من الجدباء إلى قطرات الماء» (1)؛ فكان نضالُهما من أجل نُصرة الدين، وكشف الشبهات وفَضْح المُفتريات، وكان ذلك عندهم، بفضل الله تعالى، أيْسَرَ «من شربة ماء».
تسلحا بأسلحة متفلسفة عصرهما، وزاد عليهم ما به يُحققان استقلالهما الفكر، وإبداع ما يُضاهيان به غيرهما، مع إيقاف زحف الفلسفة حين تصبح تهافتا لا جدوى منه، وحين يكون هَمُّها إخضاع الدين للعقل؛ فأخرجا الفلسفة من «قُمْقُمها»، وجعل المتهافتين عليها بغير يقين يحترقون بأشكال عبثية مُثيرة للسخرية! من هنا نزعا عن الفلسفة هالة (تعظيمها) عند ذويها، ومن تبعهم تقليداً لهم، وامتهاناً لكرامتهم!
واجها الفلسفة التي تهدد الإيمان، وأقاما فلسفة روحُها الإيمان. فكان كل منهما حجة في زمانه على غيره: الغزالي كتب (تهافت الفلاسفة) حين يعيشون في تيه المجرَّدات، و طه جعل أعماله سجلا لتهافت متفلسفة العصر، وعلامات على ارتكاسهم في التقليد، وعجزهم أن تكون لهم كينونة في الكون بين الكائنات الحية، وإن رافقهم التطبيل والتزمير في دنيا التهافت؛ دنيا التسَيُّس والإعلام!


رابعا: وفضحا الحركات الباطنيّة

وقف الغزالي في القديم في وجه الحركات الباطنيّة التي كانت تعمل على هدم القيم الإسلاميّة، وتشويه مقوِّمات لحضارة لإسلام، ووقف طه عبد الرحمن في وجه ما استبطنَتْه الحداثة الغربية من (باطنيات)، في العصور الحديثة؛ لما لها من خطر على تشويه إنسانيّة الإنسان، وتغيير مجريات حياته بخرافات وأساطير جديدة...
في أي شيء تشبه الباطنيات القديمة الباطنيات الجديدة؟ سعت الباطنيات في القديم إلى إبعاد تعاليم الإسلام لتحُلَّ محلَّه تعاليمُ الإمام! وأصبح إمام الباطنيات الحديثة ماثلا في الفكر الغربي بحلوله مكان تعاليم الإسلام. وإذا كان الغزالي قد سعى إلى تزييف الحركات الباطنية في القديم؛ فإن  د. طه عمل في مشروعه الفكري على تزييفها في الحديث.
وقد رسم كل منهما خطة في تجربته للإنقاذ من الضلال! ولاحظ طه أن خطر الباطنية المستحدثة التي جعلتْ إمامها الفكر الأوربي الحديث؛ كانت باطنية (متهوِّدة). فجاءت أعماله كشفاً عن زيفها، وعن عورات أهلها، وأصبحت أعمله اليوم صرخات إنقاذ لما أصاب الأمة الإسلامية من بَوار وضياع وخنوع واستسلام.

خامسا: جَمْعُهُما بين المنطق والتصوف

أصبح للتصوف موقع ثابت ووطيد في تاريخ الإسلام بدخوله تحت مظلة الإمام الغزالي إلى العالم الإسلاميّ. وأراد كل منهما – على تباعد الزمن - أن يُعمِّق إيمانه بعقيدته، ويُقرّ بالعبودية لربه.
أرادا أن ينفُذا إلى روح الإيمان، وأن يُثبتا وهما في شدة انغمارهما في روحانية التصوف؛ احتكامهما إلى العقل الذي يُسدِّدُه الوحيُ. وبهذا النظر تناولا فلسفة الدين، ودافعا عن الحقيقة الصوفية. حاول كل منهما ردّ أصل الدين إلى الكشف الذوقي والإيمان العقلي؛ فانسجمت حياتهما بين القول والفعل. وغياب الفعل لدى أعدائهما جرَّ عليهما شروراً من الأحقاد!
لقد شغلتهما مشكلة اليقين في المعرفة، كما شغلتهما الحقيقة الصوفية.
وكان المنطق – عندهما - هو مقدمة كل علم تحتاج معرفتُه إلى نظر وفحص واستقراء وتتبع، « ومن لا يُحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلا»، كما قال الغزالي في (المستصفى).
ونشأة طه عبد الرحمن في أسرة صوفية، وحاجته النفسيّة إلى الطاقة الروحيّة في إنجاز مشروعه الفلسفيّ، ورغبته في خلق التوازن بين البرهان العقلي والصدق الإيماني؛ من جملة الأمور التي كانت وراء عيشه في رحاب التصوف؛ حين يكون الصوف حُرْقة إيمانية، يُحقِّق بها العبد فروض عبوديته لله عزّ وجل.
وقد سئل طه يوما هل عاش التجربة الصوفيّة كما عاشها الغزالي، فقال:« لا يجمعني أنا وإياه إلا خوض غمارها؛ فلم أدخل فيها فارّاً ولا شاكّا كما دخل فيها؛ ذلك أن الغزالي فرّ إلى التصوف اضطرارا، بينما أقبلتُ عليه اختياراً.
وفرارُه كان من اثنين: (فرارٌ من الجاه الذي كان ثَمَنُه المكوث في أحضان الدسائس والمؤامرات والتصارع على السلطة)، و(فرارٌ من الشك الذي يكون قد بقيَ في نفسه بسبب اشتغاله بالفلسفة مدة)، بينما كان إقبالي على التصوف لسبين مخالفيْن تماماً، أولهما: أردتُ أن أُقوّيَ صلتي بالله؛ حبّاً فيه لذاته، لا فراراً من غيره، بل كانت هذه المتعة أكبر من أنشغل بسواها، والسبب الثاني هو أن أتحقق من طبيعة المعاني التي هي فوق طور العقل الفلسفي، هل هي غير عقلية كليا أم أنها عقلية بوجه ما؟» (2).
 دفعا عن الحقيقة الصوفية، وتناولا فلسفة الدين، وظلا يحتكمان إلى العقل وهما في شدة حماستهما إلى التصوف. وأراد العودة بالناس إلى روح الدين.

سادسا: رؤية منهجية وأداء بياني متميز

خصَّهما رب العزة باستعداد خاص، ومكَّنَهما من البحث والنظر بعُمْق منهجيّ لم يتَأَتَّ إلا للقلة من علماء الإسلام، وجعلهما يستطيلان على متفلسفة عصريْهما بمواهبهما، وقوة حُجِّيتهما. وأدارا جهودهما حول التغيير بطرق منهجيّة مقنعة وواضحة، وأتيا من المصنفات بما لم يُسبقا إليه، ومما يحمل في طياته صفات الخلود.
غاصا على المعاني، مع الدقة في تقريب دقائقها من الأذهان، ونظم البراهين في عرْضها، والكيفية في تبويب قضاياها، مع مخالفة أساليب الفلاسفة في معالجتها، وتجَنُّب الغموض، والإبهام، والتعقيد في طرحها. 
تميّزا بجزالة العبارة حين تكون لها القوة على تطويع المصطلحات النابعة من مجالات المفاهيم، مع نصاعة البيان وأناقة التعبير في لسان العرب، مع مسايرة الفكرة مهما كانت دقيقة إلا أن تُؤَدَّى بيُسر وسهولة وإشراق.
أمّا أسلوبهما فيضعهما في مرتبة كبار الكتاب في تاريخ الثقافة العربية
وأخيرا أقول:
ها هو العالم الإسلامي اليوم يعيش تحت وطأة الفكر الغربي بكل عنجهيته (المتصهْيِنة) وصلفه وانحرافاته؛ فِكْرٌ اغترَّ بعقلانية تجرَّدتْ عن الوحي، واستلذّتْ التِّيه بعيداً عن منهج الله، فوَجدتْ غرائزها تَتَلَظَّى في حمأة الشهوات.

هوامش:

(1)
 طبقات الشافعية: السبكي ( عبد الوهاب بن علي 771 هـ)، تحقيق: عبد الفتاح محمد لحلو – محمود محمد الطَّنَاحي – ط1[ القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1968]:6/193 - ( عبارة قالها تاج الدين السبْكي في ترجمته للغزالي، وهي تصدق على د. طه).
(2)  حوارات من أجل المستقبل: د. طه عبد الرحمن – ط1 [ لبنان، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، 2003]، ص130.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق