الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

الطبري المفسِّر ومسألة إعجاز القرآن


عباس أرحيلة
تمهيد: الطبريّ وتفسيره
(1)            الطبريّ:
هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، مولده بآمل عاصمة طبرستان عام 225هـ. تعددت رحلاته العلميّة، وأحاط بألوان ثقافة عصره: ثقافة في علوم القرآن والحديث، وثقافة فقهية جعلتْ منه إماماً يُرجع إلى رأيه، إلى جانب ثقافة أدبيّة ولغويّة؛ شهِدَ له بها أستاذه ثعلب، حين قال:« قرأ عليَّ أبو جعفر الطبريُّ شعرَ الشعراء قبل أن يكثُر الناس عندي بمدَّة طويلة» (1). ثم إن للطبريّ ثقافة تاريخية جعلتْ منه أباً للتاريخ، وثقافة فلسفية تجلت في تمكنه من أساليب المنطق والجدل، خاصة في تفسيره. توفي عام 310هـ.

       (2) تفسيره: جامع البيان عن تأويل آي القرآن
       « هو تفسير لم يُعمل أحسن منه»، قولة للنديم في الفهرست، تناقلتها كتب التراجم منوِّهَةً بمكانة هذا التفسير؛ معتبرةً إيّاه من أقوم التفاسير، وأشملها، وأشهرها.
وهو تفسير كما قال عنه صاحبه جاء « مستوعِبًا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه، جامعًا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيًا». 
والواقع أنَّ الطبريّ أودع كتابَه التراثَ التفسيريَّ الذي قدّمتْه العقودُ الإسلاميّة منذ عصر البعثة المحمديّة حتى مطلع القرن الرابع الهجري؛ إذ قُرئ الكتابُ عليه عام 306هـ. وقد نهج فيه الاتجاه السنّي في التفسير، وجمع فيه بين الرواية والدراية، مع التنبيه إلى الاختلاف إن كان، وإلى الإجماع إن وُجِدَ، وإلى رأيه بعد ذلك(2).
       وإلى جانب استنباط الأحكام الشرعيّة من الآيات القرآنية، وأهمية استشهاداته الشعريّة؛ يُلاحظ أنه في استقصاءاته النحوية؛ تناول بحث الظواهر اللغويّة تبعاً لمختلف المدارك في مدارس النحو البصريّة والكوفيّة؛ التي يُعدُّ كتابُه من أقدم المصادر لمعرفتها وتقديرها حق قدرها(3).
       فما كان نصيب مسألة إعجاز القرآن من هذا التفسير؟
أكتفي هما بوقفة مع مقدمة التفسير التي حدد فيها منهجه  في عدة قضايا تُعد عمدة في دراسات البلاغيين للإعجاز البيانيّ للقرآن. كما تشكِّل منطلقاً بالغ الأهمية في التعامل مع النص القرآني وتأويله؛ ذلك أنه أحسن عرْضَ تلك القضايا، ودافع عنها؛ فأوضح قيمتها وجعلها راسخة في الدرس القرآنيّ. وسأعرض لهذه القضايا في المحاور الآتية:
المحور الأول: أهمية العلم بالعربيّة في تفسير القرآن
المنطلق في كل تفسير أن القرآن هو الحقيقة الدالة على نبوة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنه نزل بلسان عربيّ مبين؛ أي أنه نزل بلغة القوم الذين بُعث فيهم.
ويحدد الطبريّ منذ البداية علومَ العربية؛ باعتبارها أدواتٍ ضروريةً لممارسة تفسير النّص القرآنيّ، ويكشف خطورة الجهل بوجوه فن القول لمن يُريد معاناة مواجهة ذلك النّص. يقول:« إنَّ أوّل ما نبدأُ به القيلَ في ذلك؛ الإبانةُ عن الأسباب التي البدايةُ بها أولى، وتقديمُها قبل ما عداها أحرى؛ وذلك البيانُ عما في آي القرآن من المعاني التي من قِبَلِها يدخلُ اللَّبْسُ على مَن لمْ يُعانِ رياضةَ العلوم العربيّة، ولم تُستحكَم معرفتُه بتصاريف وجوه منطق الألسن السليقيّة الطبيعيّة» (4).
فمعرفة مضمون الوحي لا تَتأَتَّى إلا بالتعرف على معانيه، وهذا لا يتمُّ إلا بالتعرّف على أساليب الخطاب وأنماط التجوّز في التعبير القرآني؛ لأنَّه من جهة المجاز « غلِطَ الناسُ في التأويل، وتشعَّبت بهم الطرق، واختلفت النِّحل»، كما قال ابن قتيبة(5).
المحور الثاني: عربية القرآن وموافقة أسلوبه لكلام العرب
       لهذه الغاية عقد الطبري فصلا بعنوان:« القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن ومعاني منطق من نزل بلسانه، من وجه البيان والدلالة على أن ذلك من الله عزَّ وجلَّ هو الحكمة البالغة، مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام».
       ويقول الطبري في هذا الفصل:« من عظيم نعم الله على عباده، وجسيم منَّته على خلقه؛ ما منحهم من فضل البيان الذي به عن ضمائر صدورهم ينبئون تم جعلهم، جل ذكره، فيما منحهم من ذلك طبقات، ورفع بعضهم فوق بعض درجات (...) ثم عرفهم، في تنزيله ومحكم آي كتابه، فضل ما جاءهم به من البيان(...). فلا شكَّ أنَّ أعلى منازل البيان درجة (...) أبلغُه في حاجة المُبين عن نفسه (...)؛ فإنْ تجاوز ذلك المقدار وارتفع عن وسع الأنام، وعجز عن أن يأتي بمثله جميعُ العباد؛ كان حجةً وعلما لرسل الواحد القهار(...) فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا؛ تبيَّنَ أن لا بيانَ أبينُ ولا حكمةَ أبلغُ ولا منطقَ أعلى، ولا كلامَ أشرفُ من بيان ومنطق تحدَّى به امرؤ قوماً في زمن هم فيه رؤساء صناعة الخُطب والبلاغة، وقِيلُ الشعر والفصاحة والسجع والكهانة؛ فسفَّه أحلامَهم، وقصَّر بعقولهن وتبرّأ من دينهم (...) وأخبرهم أن دلالتَه على صدق مقالته، وحجةً على حقيقة نبوته. ما أتاهم من البيان والحكمة والفرقان، بلسان مثل ألسنتهم، ومنطق موافقة معانيه معاني منطقَهم، ثم أنبأ جميعهم أنهم أن يأتوا بمثله بعضه عَجَزَة؛ فأقرَّ جميعهم بالعجز. وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا عن أنفسهم بالنقص...» (6).
       فالقرآن في أمة البيان هو البرهان على صدق نبوّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم. فقد جاءت المعجزة من جنس ما برع فيه القوم حتى يتمكن التاريخ من تسجيل العجز على العصر الذي أدركت فيه اللغةُ العربيّة أشدَّها، وبلغت فيه أرقى أدوار التهذيب اللغويّ. وجاءت معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهج كلام العرب. فأقر كل من سمع القرآن بتفرد بيانه، وسموِّ مكانته. ويؤكد الطبري أن غير جائز أن يُخاطب، جل ذكره، أحداً من خلقه إلا بما يفهمُه المخاطَبُ، ومن هنا قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه لبُيِّنَ لهم [ إبراهيم:9]؛ وإذا كان لسان محمد صلَّى الله عليه وسلّم عربيّاً، فبين أن القرآن عربيٌّ. « وبذلك نطق محكم تنزيل ربنا، فقال جل ذكره: ﴿إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ يوسف:2]. فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزَّل على نبينا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم لمعاني كلام العرب موافقا، وظاهره لظاهر كلامها ملائما» (7).
المحور الثالث: خصائص التعبير القرآني
       من خلال الفصل يشير الطبري إلى خصائص التعبير القرآني الذي تتمثّل فيه خصوصيات الأسلوب الأدبيّ في آداب العرب. ويُستفاد من ذلك الحقائق الآتية:
(1)                        تفاوت الخلق في البيان، وأسنى مراتب البيان أبينُه عن مراد قائله، وأقربه من فهم سامعه.
(2)                        سمو مرتبة البيان الإلهي؛ جعلُه حجة للرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزة.
(3)                        مكانة هذا البيان الإلهي يُثبتها تحدِّيه للعرب في وقت هُمْ فيه سادة البيان والبلاغة.
(4)                        رسالة رب العالمين لا تكون إلا بلسان القوم المبعوث إليهم؛ ومن هنا جاء القرآن عربيّاً.
(5)                        انطلاقا من عربية القرآن، كانت أنماط التعبير فيه موافقة لمناحي القول عند العرب. وقد أشار الطبريّ إلى ما للعرب من سمات في أسلوبهم؛ لتكون مساعدة على كشف خبايا النص. ووعد ببحثها في أماكنها من تفسير السور.
ولم يكتف الطبريّ بالتدليل على عربيّة القرآن، بل انتقل إلى إثبات أن القرآن عربيّ اللفظة المفردة. وأكَّد أن في القرآن من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به.« فهي أحْرُفٌ وقعت إلى العرب فعرَّبَتْها». وبعد أن يدفع كل شبهة يدعي أصحابُها وجود لفظ دخيل في القرآن؛ دفاعا عن عربيّة اللفظة القرآنيّة، يُناقش قضية ( القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب). الأمر الذي يقوده إلى معالجة مسألة (الأحرف السبعة)؛ مستدلا بها على تباين اللغة بين طوائف العرب، ونزول القرآن على بعض ألسن منها. وهكذا ينتهي إلى القول:« إن القرآن كلَّه عربيٌّ، وإنَّه نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وإنَّ قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التي هي بين أظهرهم ببعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها» (8).
المحور الرابع : قضية إعجاز القرآن
وإذا كانت قضية إعجاز القرآن قبل الطبري قد تركزت حول عربيَّة القرآن، وما فيه من إخبار عن الغيب، وما تميز به من نظم؛ فإن الطبري؛ صاحب جامع البيان، عالج مسألة عربيّة القرآن وموافقة أسلوبه لأنماط التعبير العربي، مع اتخاذ البيان مناط التحدِّي في تبليغ الرسالة، في المقدمة، وعاد إلى الحديث عن الإعجاز خلال تفسيره لآيتي التحدي من سورة البقرة، (رقم:22-32).
﴿  وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإنْ لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين.
ويتلخص مجمل ما أورده في النقاط الآتية:
1 – خلود معجزة القرآن، ودوام عجز الإنس والجن على الإتيان بمثلها في البيان.
2 – ويرجع الإعجاز إلى سمو البيان عن المقاصد.
3 – عجز العرب عن معارضة القرآن بالرغم من تحديه لهم، وهو بلغتهم، ومعاني منطقه موافقة لمعاني منطقهم.
4 – وأساليب أداء المعاني في القرآن الكريم لا تخرج عن مناحي التعبير فيما هو معهود في بلاغة العرب، وفيما تقرَّر من قضايا حتى اليوم.
5 – ثم يقول:« ومن أشرف تلك المعاني التي فُضِّل بها كتابُنا سائر الكتبَ قبله نظمُه العجيب ووصفُه الغريب وتأليفُه البديع الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سوره الخطباءُ، وكلّت عن وصف شكله البلغاءُ، وتحيَّرتْ في تأليفه الشعراء...» (9).
ويُفهم من خلال هذا أن الطبري يؤكد قضية بلاغة القرآن ويرجعها إلى بديع نظمه وتأليفه الذي أعجز العرب؛ وهو بذلك يُرجع قضية الإعجاز إلى النظم، ويجعل النّص القرآنيّ في موقعه التاريخيّ بين الكتب السماويّة متميزا بظاهرة النظم.
وقد لاحظ د. مصطفى الجويني أنَّ تفسير الطبريّ حفظ نظرات السلف إلى الأسلوب القرآني. وهي نظرات يمكن لمؤرِّخ البلاغة من غير شك أن يُفيد منها بعد الجمع والاستقصاء والترتيب والدرس (10).
فمن النظرات الأسلوبية الواردة في تفسير الطبريّ: - أسلوب الإيجاز، لمكانة هذا الأسلوب في الذهنيّة العربيّة، احتل مكانة خاصة في البلاغة، واعتبر من مناحي الإعجاز في الأسلوب القرآني، ولم يُخْفِ الطبري انفعاله بروعة الإيجاز كما في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، حيث يقول: فليتدبَر أولو الألباب إيجاز الله واحتجاجه على جميع أهل الكفر به، والملحدين في توحيده، في هذه الآية والتي بعدها، بأوجز كلام، وأبلغ حجة، وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه» (11).
– أسلوب المجاز: على الرغم من الطبري يُعنى أساسا بكشف المعنى؛ شأن كل مفسر يرى في صور التعبير المتلفة، وسيلة لتوضيح المعاني؛ فإنَّ تفسيره لا يخلو من مناقشات بعض الأساليب البيانية لتأكيد الإعجاز البلاغي في النّص القرآني؛ فأسلوب المجاز الذي كان من محاور الجدل لدى أصحاب الفرق، نجد صداه عند الطبري، ولكن دون إيغال في الجدل والنقاش.
ويتضح من مناقشة الطبري لأساليب المجاز أن يحارب تفسير المعتزلة المجازي بشدة، دون أن يذكرهم بالاسم، وهو يحرص أيضا على أن يُبيِّن أن التعبير القرآني يجري على نهج البيان العربيّ. يقول – مثلا – في تفسير الآية: ﴿ فما ربحت تجارتهم؛ وإنما معنى ذلك فما ربحوا في تجارتهم لا فيما اشتروا، ولكن الله جلَّ ثناؤه خاطب بكتابه عرَباً فسلك في خطابه إياهم، وبيانه لهم، مسلك بعضهم بعضا. وبيانُهم المستعمل ينهم.
 ويبدو أن الطبري في محاولته المقابلة ين الأسلوب القرآنيّ والأسلوب العربيّ؛ إنما يُفيد من منهج أبي عبيدة في كتبه(مجاز القرآن)، كما لاحظ د. مصطفى الجويني.
وعلى كل، فإن النظرات الأسلوبية المبثوثة في تفسير الطبري، تحتاج إلى مجهود خاص؛ إذ أن الرجل يتعقب أحيانا التعبير القرآني ويبحث وراءه عن سر الأداء في العبارة.
خاتمة:
يمكن القول إجمالا، إن موقف الطبري من قضية الإعجاز يتشكل في محورين: أولهما: أن القرآن معجز بنظمه وتأليفه، وهو بهذا يدعم الاتجاه البيانيّ الذي رسَّخه الجاحظ والمعتزلة عامة. ففي تفسير للآية: ﴿ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. يقول: إن الله احتج فيها لنبيه صلَّى الله عليه وسلَّم على ما كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل، باطلاعه إياه من علو الغيب التي لم يكن جل ثناؤه اطلع عليه من خلقه إلا خاصا(12).
وعلى كل، فإنَّ الطبريّ أكد عربيّة القرآن، ومحاذاته للنهج العربيّ في الأسلوب، واعتبر النظم جوهر الإعجاز، ويكفي في التفسير أهمية أنه استوعب الدراسات المبكرة للنص القرآني في ضوء جوانب المعرفة المتاحة حتى مطلع القرن الرابع الهجريّ.
هوامش:

(1)                        الفهرست، ص227
(2)                        مناهج في التفسير: د. مصطفى الجويني، ص222.
(3)                        مناهج التفسير الإسلامي: جولدزيهر، ترجمة عبد الحليم النجار.
(4)                        تفسير الطبري:1/2.
(5)                        تأويل مشكل القرآن: ابن قتيبة، ص75.
(6)                        تفسير الطبري:1/4.
(7)                        نفسه:1/6.
(8)                        نفسه:1/25.
(9)                        نفسه:1/65.
(10)                  مناهج في التفسير، ص 415.
(11)                  تفسير الطبري:2/37.
(12)                  نفسه :2/.174
(13)                  مثال واحد: من المواد التفسيرية التي ضمها كتاب تفسير الطبري كتاب: (تفسير القرآن من الجامع)  لعبد الله بن وهب المصري (197هـ) برواية سحنون بن سعيد (240هـ)، تحقيق وتعليق: ميُكْلُوش موراني ط1[ بيروت، دار الغرب الإسلامي، 2003م] ويقول في مقدمة تحقيقه: تمّت الإحالة على جميع الشواهد لروايات ابن وهب في جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر الطبري. كما أضفت إلى هذه الفقرات كل ما روى ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عند أبي جعفر الطبري.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق