الأحد، 27 مارس 2016

إحكام الأصول قبل الفروع


عباس أرحيلة

 يدعو الجاحظ إلى إحكام الأصول في المعرفة، بدل الانشغال بالقضايا الجزئية، والموضوعات السخيفة التي تشغل أوقات أهل الفراغ. يقول في البرصان والعرجان:« ولا تَلْتَمِسْ الفروعَ إلا بعد إحكام الأصول، ولا تنظُرْ في الطُّرَف والغرائب، وتُؤْثِرْ روايةَ المُلَحِ والنوادرِ، وكلَّ ما خفَّ على قلوب الفُرَّاغِ وراقَ أسماعَ الأغمارِ، إلا بعد إقامة العَمود، والبَصَر بما يُثلَمُ من ذلك العمود؛ فإنَّ بعض من كلِف برواية الأشعار بدأ برواية أشعار هذيل قبر رزاية شعر عبّاس بن الأحنف، ورواية شعر ابن أحمر قبل رواية شعر أبي نواس.
وناسٌ من أصحاب الفُتيا، نظروا في العَيْن[ الذهب] والدِّين قبل أن يَرْوُا الاختلاف في طلاق السنة.
وناسٌ من أهل الكلام نظروا في الجزْء والطَّفْرَةِ والمُداخَلَةِ والمحاورة، قبل أن ينظروا في التوحيد والعدل والآجال والأرزاق.
وسئل بعضُ العلماء عن بعض أهل البلدان، فقال: أبحثُ الناس عن صغير وأتركُهُم لكبير.
وسُئل عن بعض الفقهاء فقال: أَعلمُ النَّاس بما لم يكن، وأجهلُهم بما كان».
     والجاحظ يدعو أن تُعتمد أصول المعارف التي هي الأسُس في فهم كليات الوجود؛ لأنها هي الثوابت والمنطلقات في كل تفكير علمي. ففي كتاب الحيوان أن حفص بن غياث سئل عن فقه أبي حنيفة فقال: كان أجهل الناس بما يكون وأعرفهم بما لا يكون [3/19].
فالعاِلمُ عند الجاحظ مَن أحْكَمَ أصول المعرفة، وأقام عمودها، ولم ينشغل عنها بالتماس الفروع، وإيثار الطرائف والنوادر والغرائب؛ ممّا يُعرض طالب العلم إلى السقوط في ما لا تدعو الحاجة إليه. وأعتبر أمثال مواقف الجاحظ هذه؛ كان بها رائدا في مجالات نقد العلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البرصان والعرجان والعُميان والحُولان، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255هـ)، تحقيق محمد مرسي الخولي – ط1[ دار الاعتصام للطبع والنشر، القاهرة، 1392هـ/1972م]، ص3 - 4 – يقارن بتحقيق: عبد السلام هارون ص30، وقد شرح هارون المداخلة كالآتي: مقالة كلامية لقوم زعموا أن الألوان، والطُّعوم، والروائح، والأصوات، والخواطر؛ أجسامٌ، وأن تلك الأجسام بزعمهم تتداخل في حيّز واحد، هامش ص29 – 30.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق