عباس
أرحيلة
أولا: المعاناة في
تصحيح الكتاب المخطوط
في
إطار حديث الجاحظ (255هـ) عن ثقافة المترجمين في زمانه؛ لاحظ ما يعترض سبيل
المترجم من اللسان اليونانيّ - مثلا – من صعوبة في معرفة ما تحتويه الكتب المخطوطة
من حقائق؛ وما يعانيه من مشقَّة في تصحيحها.
إذ
لم يكن يتلقى معارفه «من حذاق وخبراء لهم علمٌ بها».
فيقول
الجاحظ : « وما عِلْمُه بإصلاح سَقَطاتِ
الكلام، وأسقاط النّاسخين للكتب؟ (...). وابن البَطْرِيق وابن قُرَّة لا يفهمان
هذا موصوفا منزّلا، ومرتباً مفصلا، من معلِّم رفيق، ومن حاذق طَبٍّ،
فكيف بكتاب قد تداولتْه اللغات واختلاف الأقلام، وأجناس خطوط الملل
والنحل؟! (...) ثم يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف
الناسخين، وذلك أنَّ نُسختَه لا يعدَمُها الخطأ، ثم يُنسخُ له من تلك النسخة مَن
يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثم لا ينقص منه، ثم يُعارض بذلك من يترك ذلك
المقدار من الخطأ على حاله؛ إذ كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي يجدُه في
نسخته»
(1).
فالنُّسَخ
المخطوطة تتعرض لمجموعة أحوال وآفات:
-
تحديد أسقاط الناسخين للكتب،
والعِلْمُ بكيفيّة إصلاحها.
-
المكتوب في النُّسَخ تداولته اللغات،
واختلت عليه الأقلام، وعرف أشكال خطوط الملل والنحل.
-
ثم يتعرَّض لآفات أصناف الناسخين،
فالنُّسخة الواحدة، وهي لا تخلو من خطأ، تتعاورها الأخطاء بتتابع نسخها؛ فيعجز
المُعارض عن إصلاح السَّقط الذي يجده في نسخته.
ثانيا: عجْزُ المؤلِّف
عن تصحيح ما كتبه بيده!
والأعجب في مشقة تصحيح الكتاب
المخطوط؛ أن يعجِزَ صاحبُه نفسُه أن يُصلح ما وقع في كتابه من تصحيف أو استعادة
كلمة ساقطة!
فيقول الجاحظ : « ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يُصلح تصحيفاً، أو كلمةً
ساقطةً، فيكون إنشاءُ عَشْرِ وَرَقاتٍ من حُرّ اللفظ وشريف المعاني؛ أيسرَ عليه من
إتمام ذلك النقص؛ حتى يردَّه إلى موضعه من اتصال الكلام».
وأشير هنا إلى
خطأ شائع لدى بعض المحققين حين يثبتون قول الجاحظ هذا: ويريدون منه الإشارة إلى
معاناتهم هم أثناء تحقيق الكتاب. والجاحظ إنما يقصد مؤلِّف الكتاب حين يُراجع ما
كتبه بنفسه فيصادف تصحيفاً أو كلمةً ساقطةً، فيجد من العناء في تصحيح ذلك وتصويبه،
وإعادة الانسجام إلى السياق العام لما يكتبه، ما يمكن أن يأتي به مما هو أفضل منه.
ثالثا: مأساة المخطوط
بين أيدي الورّاقين
إذا كان صاحب
الكتاب يعجز عن تصحيح ما خطّتْه يمينه - وهذا وضْعُ الفيلسوف نفسه أثناء وضعه
لكتابه - فكيف يكون حال الكتاب المخطوط وهو بين أيدي الورّاقين المُستأجَرين على
ذلك؛ وهم يُعارضون بين المخطوطات؟
يقول الجاحظ : «فكيف يُطيق ذلك المُعارض المُستأجَرُ، والحكيمُ نفسُه قد
أعجزه هذا! وأعجب من ذلك أنه يأخذ بأمريْن: قد أصلح الفاسدَ وزادَ الصالح صلاحا.
ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نُسخةً لإنسان آخر،
فيسير فيه الورَّاق الثاني سيرة الورَّاق الأول، ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدي
الجانية، والأعراض المُفسدة؛ حتى يصير غلطاً صِرْفاً، وكذِباً مُصْمَتاً. فما
ظنُّكم بكتاب تتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخُطّاط بشرٍّ من ذلك أو
بمثله، كتابِ مُتقادمٍ، دهرِيِّ الصنعة!» (2).
وفي الختام أقول
على المحقِّقين الذين يردِّدون كلام كلام الجاحظ أن يأتوا به إلى نهايته لتتضح
جسامة المسؤولية في إخراج نصٍّ من «مخطوطيته».
وقد يتبادر سؤال
إلى الذهن: كيف عرف الجاحظ أن الحكيم أرسطو قد أعجزه هو نفسه أن يُصلح تصحيفا أو
كلمة ساقطة؟! وكيف علِم الجاحظ، أيضا، أن أرسطو « كان
بَكِيَّ اللسان لا يُبينُ»، كما ورد في (البيان والتبيين)؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
الحيوان: 78 – 79.
(2)
نفسه: 1/79.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق