عباس أرحيلة
أولا: علم النحو في معترك التأليف في الثقافة العربيّة
يلاحظ أنَّ حركة التأليف في النحو العربيّ، منذ انطلاقتها الأولى حتى مطالع
النهضة العربيّة الحديثة، قد مرَّتْ – بشكل عام - بأطوار ضمن حلقات أربع متصلة،
وإن تباعدت في الزمن؛ كل حلقة تنتظم فيها مجموعة من المصنَّفات؛ تتخلَّلها
اتِّجاهات واجتهادات. والأطوار هي: طور التأسيس، فطور النضج، ثم طور تعميق النظر
والفهم، فطور الشروح والحواشي والتعليقات...
فطور نشأة علم النحو وتأسيسه كان بالبصرة مع أبي الأسود الدؤليّ 69هـ، وعبد
الله بن أبي إسحاق 117هـ، وأبي عمرو بن العلاء 154هـ.... وجاء طور النضج بالبصرة
مع الخليل 175، ويونس بن حبيب 282هـ، وبلغ أوجه مع كتاب سيبويه 180هـ. وأسهمت الكوفة
في نضجه مع الكسائي 187هـ، والفراء 207هـ... ثم جاء طور الدَّرس والاستيعاب
والتمحيص مع أجيال منهم: الأخفش 215هـ،
والمازنيّ 249هـ، والمبرِّد 285هـ، وثعلب
291هـ، وأبو علي الفارسيّ 377هـ، وابن جني 392هـ، وأبو سعيد السِّيرافيّ 368هـ
(شارح كتاب سيبويه). وبظهور كتاب (المفصَّل) للزَّمخشريّ 538هـ، ظهرت المرحلة الثانية من مراحل التصنيف في النحو بعد
كتاب سيبويه، ودلّت تسميته بـ(المفصّل)؛ على ترتيب فصوله، وتنسيق قضاياه منهجيّاً عمّا اعتاد عليه أهل
النحو قبله.
وظهرت مبادرة لنظم النحو مع ألفية ابن معط (أبو الحسن طاهر بن أحمد 496).
وفي القرن الهجريِّ السابع، ظهرت (الكافية)
و(الشافية) لابن الحاجب (646هـ) فسيطرتا على النَّحو والصَّرف حتى العهود اللاحقة،
ومثَّلا طوراً في مجال التأليف النحويّ. وكانتا منطلق الاستمداد لـ(ألفيَّة ابن
مالك) جمال الدين محمّد بن عبد الله 672هـ)[1].
ثم جاءت مرحلة الشروح والحواشي، فامتدَّت مساحاتها منذ القرن الهجريّ
الثامن، وظهرت لها مطوَّلات ومختصرات وتشعّبت عنها تعليقات وتقريرات وتعقيبات وطُرَر...
ولوحظ، منذ هذا العهد، طغيان الشُّروح وانتشار الذُّيول في حركة التأليف؛ بحيث
أصبحت تشغل حيِّزاً كبيراً في خزائن الكتب العربيّة.
ثانيا: وأصبحت الألفيّة محوراً للتأليف
حظيت ألفية ابن مالك (وهي منظومة تعليمية للنحو والصرف من نحو ألف بيت)
بالشرح من ناظمها ( جمال الدين، محمد بن عبد الله 600 - 672هـ) ومن ابنه ( بدر الدين، محمد بن محمّد
ت686هـ) ومن النحاة المعاصرين لهما، وبدأ الاهتمام بها يتَّسع منذ نهاية القرن
الهجريَّ السَّابع إلى يوم الناس هذا. وبمجيء القرن الثَّامن أصبح لمتن الألفيّة
الرِّيادة في تعليم علميْ النحو والصرف بجمعها لهما؛ فكثرت الشروح عليها، وتعدّدت
وتنوعت، وتجاوزت شروحها الخمسين شرحاً، وتوزعت دراستها على مراحل التعليم. وأصبحت
لها الريادة في مجال المنظومات التعليميّة. وتنافس العلماء في شرحها وشرح شروحها،
ووضع الحواشي والطُّرَر على شروحها وشروح شروحها.
وكان من أشهر شروحها: (أوضح المسالك إلى شرح ألفية ابن مالك) لابن هشام
(761هـ). و(شرح منهج المسالك إلى ألفية ابن مالك) للأشموني، (عليّ بن محمد 900هـ)؛
الذي جمع فيه مذاهب النحاة وتعليلاتهم وشواهدهم[2].
وضمن إسهامات العلماء المغاربة بشرح الألفية؛ كان المكّوُدي أبو زيد عبد
الرحمن بن عليّ بن صالح 807هـ[3]، أول شارح لها في القرن الهجريّ الثامن، زمن
المرينيِّين بمدينة فاس، وقيل إنه كان آخر من قرأ كتاب سيبويه. وكان له فضل إشاعة
شرح ابن الناظم (686هـ) والمرادي (749هـ)[4] على ألفية ابن مالك، وقد استفاد من شرحيهما بدليل
تكرار ذكرهما من أول الشرح إلى نهايته[5].
ثالثا: توصيف طبيعة هذا الكتاب بالطُّرَّة
في ضوء محتويات المصنفات، وتحديد مضامين الكتب عامّة؛ تعدَّدتْ توصيفات تلك
المحتويات.
وكان ممّا استرعي النظر في قراءة صفحات عناوين الكتب؛ ما يضعه المؤلِّفون
بين عنوان الكتاب واسم مؤلِّفه من توصيف لطبيعة
التأليف؛ فقد لاحظ الباحث التركي – رئيس قسم المخطوطات في مركز الأبحاث للتاريخ
والفنون والثقافة الإسلامية - د. رمضان
ششن أنَّ المؤلِّفين استعملوا أيضا «في مقام كلمة التأليف في المخطوطات كلمات أخرى
نحو: تصنيف، إنشاء، نظم، إملاء، تخريج، جمْع، عمل، عُنِيَ بجمعه، ممَّا عُنِيَ
بجمعه، ممّا اعتُنِيَ بجمعه، تحرير، صنعة، شرح، تفسير، تحشية، تعليق، اختصار،
تلخيص، انتقاء، استثمار تجريد، تهذيب، اقتضاب، تميزة، انتخاب، اختيار، نقل، ترجمة،
تعريب. ولا شك أنَّه لكلِّ هذه الكلمات معانٍ خاصة تميزها عن الأخرى، فهي تشير إلى
كيفيَّة التأليف أو الترجمة، كما تدلنا على تحرير الكتاب »[6].
ولا
شكّ أن الدكتور المصطفى لغفيري، من منطلق عنوان هذا الكتاب الذي حقَّقه؛ يرى أنه
بالإمكان إضافة مصطلح (طُرَّة) إلى التوصيفات
التي ترد في صفحات عناوين المخطوطات. فما في (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون)
لجاجي خليفة (1068هـ/1657م) عنوانٌ لكتاب باسم (الطُرَّة) أو (الطُّرَر)، مع شهرة
هذين الاصطلاحين في التأليف العربي بمعنى الحواشي. ولما كانت الطُّرَّة في أصلها
اللغويِّ تعني شفير الوادي، وناحية النهر من أعلاه، وناصية كل شيء؛ تمَّت
استعارتها لتدلَّ على ما يكتب يمين النص في المخطوط . وفي (كشف الظنون): « الحاشية: عبارة عن أطراف الكتاب، ثم صار عبارة
عمّا يُكتب فيها، وما يجرّد منها بالقول فيدون تدوينا مستقلا متعلِّقاً، ويقال لها
تعليقة أيضاً »[7].
قد يطرح السؤال عن الفرق بين الطُّرَّة والحاشية على متن من متون النحو
مثلا. ولا شك أن الغاية من كل منهما توضيح ما ورد في المتن ومسايرة لما جاء في
أبوابه وما يطرحه من قضايا، ويسعى صاحب كل منهما إلى تقديم ما يراه مفيدا لطالب
علم النجو. وتختلف الطرة – في ظني – عن الحاشية بالرغبة في التعليق على ما ورد في
تلك القضايا، ونقد بعض الآراء المتعلقة بتلك القضايا في بعض الشروح السابقة للمتن؛
بغاية التدقيق في الفوائد، وتقديم آراء أقرب إلى الاجتهادات. ويبدو أن الطُّرَر
تكون مودعة في الجوانب اليمنى من المخطوطات عادة، ثم تنقل إلى مخطوطات مستقلة حين
تكتمل، ويرى صاحبها أنها جديرة بأن تستقل بذاتها. وقد تكون الطُّرَر – كهذه - تقاييد للطلبة زمن الطلب؛ يسجلون فيها ما ترسب
في ذاكرتهم من فهوم لقضايا نحويّة خاصّة؛ أخذوها من شيوخهم؛ فهي (تًهْدي ولا
تُعتَمَد). ولكنها تساعد على التركيز في فهم ما يقدِّمه الشيوخ، كما تكون عند
الشيوخ ممّا يُعتمد أثناء شرح المتون. وغالباً ما تأتي الإحالات على تلك المصادر
والمظان في شكل رموز لأسماء الشراح السابقين. وقد عرض المحقق للمنهجية المتبعة في
هذه الطُّرر أثناء تناوله لموضوع الكتاب ومنهجه. وتلك مناهج تدريس مادة النحو في
تلك العهود. والملاحظ أم المقصد الجوهري في هذه الجهود هو تيسير مادة النحو
وتقريبه من طلبته.
رابعا: في موكب تحقيقات المصطفى الغفيري
يلاحظ في البداية أن د. المصطفى لغفيري شقَّ طريقه في معترك عالم التحقيق
بإصرار. تحدوه رغبة قويّة أن يكون له موقع
قدم في ذلك العالم. وفي ضوء ما راكمه من تحقيقات يتضح أنه أصبح مرابضا في حقل
التحقيق لا يفارقه إلا إذا دعته دواعي الإبداع. وقد أبان عن استعداد علميّ استقاه
أولا من قراءاته المتنوعة، ومن طبيعة تجاربه مع المخطوطات، وسعيه الدائم أن يجتهد
في ضوء طبيعة كل مخطوط على حدة؛ ويتضح كل ذلك من طبيعة الصياغة الفنّيّة، والأناقة
الملفتة للنظر لكل تقديم من تحقيقاته، وجعل عباراته تحلق في سماء النثر الفني؛
وكأنه يغدق عليها من شاعريته.
وقد ظهر من تحقيقاته:
تعليق على مقطّعات الشُّشْتَري: أحمد زروق
(تـ899هـ) - دراسة وتحقيق: د. المصطفى لغفيري – ط1[ المطبعة والوراقة الوطنيّة،
مراكش، 2012م].
العجالة: أحمد زروق (تـ899هـ)، دراسة وتحقيق: د.
المصطفى الغفيري – ط1[ المطبعة والوراقة الوطنيّة، مراكش، 2013م].
بغية الطالبين وخلاصة منهج العابدين للإمام
الغزالي: شمس الدين البلاطُنُسي، محمّد بن
عبد الله بن خليل (تـ863هـ): دراسة وتحقيق: د. المصطفى لغفيري – ط1[ المطبعة
والوراقة الوطنيّة، مراكش، 2013م]. ط1[ دار الكتب العلميّة، بيروت، 2014م].
نبذة مختصرة من نكت السيوطي على الألفيّة والكافية
والشافية والشذور والنزهة: عبد الواحد السلجمّاسي المراكشي (تـ1003هـ): دراسة
وتحقيق: د. المصطفى – ط1[ المطبعة والوراقة الوطنيّة، مراكش، 2014م].
عنوان النفاسة في شرح الحماسة: ابن زاكور الفاسي
(أبو عبد الله محمّد بن قاسم 1120هـ/1708م) – ط1[ دار الكتب العلميّة، بيروت،
2013م]. ( تحقيق قسم من أقسام الكتاب، للحصول على أطروحة الدولة، تحت إشراف د. عبد
الرحمن كضيمي، بدرجة مشرف جدا مع توصية بالطبع).
وكان من ضمن اهتمامات د. المصطفى لغفيري الإسهام في إحياء التراث المغربيّ
في رصيد النحو العربيّ؛ لأحد علماء مدينة مراكش في العصر السعدي تحقيق هذا الجانب التعليمي
التربوي المرتبط بالنحو العربي؛ والذي يطلق عليه مصطلح الطُّرَر. وسيبقى للدكتور
مصطفى الفضل في إحياء هذا الجانب من التراث؛ الذي لا يجد في العادة من يهتمُّ به
ويعمل على نشره وتحقيقه. ولعل هذا ممّا
حدا بمحقِّقنا أن يُخرج أثرين من آثار عبد الواحد بن أحمد السلجماسي في هذا
المجال:
الأول: نبذة مختصرة من نكت السيوطي على الألفيّة والكافية والشافية والشذور
والنزهة: عبد الواحد السلجمّاسي المراكشي (تـ1003هـ)، المشار إليه أعلاه.
وهذا الأثر الذي يحمل عنوان: طُرَر على ألفيّة ابن مالك.
[1] شرح ابن الحاجب (المفصّل) للزمخشري وسمَّاه (الإيضاح).
وشرح (إيضاح أبي علي الفارسيّ) وسمَّاه: (المكتفي للمبتدئ)... وألَّفَ (الكافية)
في النحو، وشرحها ونظمها، وكانت لها الصّدارة في معاهد التدريس شرقاً وغرباً -
وقيل إنها خلاصة مختصرة لـ(المفصل) - ووضع
(الشافية) في التصريف فشرحها ونظمها. وبلغ عدد شروح الكافية مائة واثنين
وأربعين عدا الشروح التركيّة والفارسيَّة؛ فضلا عن المختصرات والمطولات، والمصنفات
في إعراب الكافية – ينظر: شرح المقدمة الكافية في علم الإعراب لجمال الدين أبي عمر
عثمان بن الحاجب، دراسة وتحقيق: جمال عبد العاطي مخيمر أحمد ( رسالة دكتوراه) –
ط1[ مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، 1997م] – ينظر قسم الدراسة من الجزء
الأول.
[2] وجاءت أشهر
حاشية على النحو، وهي حاشية الصبان ( محمّد بن عليّ 1206هـ) على شرح الأشموني فكانت حافلة بالنقول والتعقيبات والجدل والآراء.
[4] المرادي: بدر الدين الحسن بن
قاسم، المرادي، المصري المعروف بابن أم قاسم. تذكر مصادر ترجمته نسبه هذا إلى جدته
من أبيه التي كانت تعيش في مدينة آسفي من بلاد المغرب، وقد صحبته إلى مصر حين
انتقل إليها؛ فلقبوه بها وقرنوا اسمه باسمها.
[5] وبالرغم
من أنه لم يبق سوى شرحه الصغير، فإنه ظل من مقررات تدريس النحو في المغرب إلى زمن
قريب من عهدنا – ينظر: مقدمة محققة شرح المكودي للألفية ابن مالك، ص 29
[6] أهمية صفحة العنوان (الظهرية)
في توصيف المخطوطات: رمضان ششن، ص182.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق