الأحد، 19 يونيو 2016

حول مسألة التأثير الأرسطي - حوار مع عباس أرحيلة

حوار مع عباس أرحيلة
حول مسألة التأثير الأرسطي في البلاغة والنقد العربيين


ملاحظة: هذا حوار ورد في جريدة الوثيقة (مغربية)، أجراهُ معي الأستاذان: أحمد الوازي وعبد العزيز الحويدق، إثر صدور كتابي« الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود القرن الثامن الهجري» - مطبوعات كلية الآداب بالرباط 1999 - وصدر الحوار في عددين من جريدة الوثيقة، العدد 22: )1 – 14 دجنبر 1999(، والعدد 23: ) 15 -31 دجنبر 1999(، وأردتُ أن يُحْفَظَ هنا دون أدنى تغيير.



سؤال:
لماذا مسألة التأثير الأرسطي في النقد والبلاغة العربييْن؟
جواب:
مقولة التأثير كانت هي المدخل الرئيسي لنفْيِ الأصالة عن هذه الأمة. وأهم ما نتميَّزُ به اليوم التبعيَّةُ المطلقة للحضارة الغربية الحديثة التي ترسَّختْ في نفوسنا، وأدخلْنا في دُوَامتها.
ومنذ كان الصدام بين المركزية الأوربية والشرق العربي في العصور الحديثة، إثر الحركات الاستعمارية؛ راهنت تلك المركزية على إحلال الحضارة الأوربية الحديثة، مكانَ حضارة الشعوب المُستعمَرَة. ومنذ مطالع القرن العشرين أضحت الحضارة الأوربية هي النموذج الذي تطمَح إلى تحقيقه تلك الشعوب. وقد واجه العالم الأوربي الحضارة الإسلامية بشعوبها وتاريخها الحضاري وتراثها المتشعب الغنيّ؛ فوقف أمام أكبر تحدٍّ مع أمّة له معها تاريخٌ وجولات وحروبٌ صليبيّة، أمة لها دين وحضارة.
كيف يجعلُ الغربُ هؤلاء المنتسبين إلى حضارة الإسلام يتخَلَّوْن عناها، ويُقبلون على ثقافة الأوربيين، ويجعلونها وسيلَتَهم الوحيدة للخروج من التخلُّف؟
اتخذَ الأوربيون وسيلَتَيْن من أجل تحقيق هذه الغاية:
1 – تذويبُ المُنتمين إلى حضارة الإسلام في حضارة الغرب الحديث.
2 – التشكيك في أصالة الحضارة الإسلامية في القديم؛ وذلك بالقول إنها كانت عالةً على الحضارة اليونانية، وإن معارفَها كانت متأَثِّرة وتابعة في مُجملها للمعارف اليونانية، ولذلك لِمَ لا نُقبِلُ على الاستمداد من ثقافة الغرب الحديث، ونُصبحُ عالةً عليها؛ إذا كان أجدادُنا عالَةً على غيرهم أيّامَ مجدهم؟
والبحوث الاستشراقية - في عمومها – حاولت إرجاعَ كلِّ شيء في حضارة الإسلام إلى أصل يوناني مُفتَرَض، أو مصدر ديني في اليهودية أو المسيحية. والغايةُ تبريرُ التبعية للثقافة الغربية الحديثة؛ قصْدَ تكريسها في المجتمعات الإسلامية الحديثة.
ومن أجل التشكيك في أصالة حضارتنا، وبثْرِ صلتِنا اليومَ بها، ووضْعِ قطيعة بيننا وبينها، والتبرير لتبعيتنا اليوم لحضارة الغربيين؛ أشاعَ المستشرقون وأتباعُهم من العرب، في العصر الحديث، مَقولَةَ التأثير الهِيلِّيني في الثقافة العربية في القديم، وأخذتْ هذه المقولةُ حيِّزاً واسعاً في أبحاث المعاصرين. وهذه المقولة لا يَكتفي أصحابُها بأن نعترفَ لهم بالذوبان في مَدَنيَتِهم الحديثة؛ بل يُريدون منّا بأن نعترف لهم بذوبان أسلافنا في أصولهم اليونانية في القديم.
فغايتي من طرح مسألة التأثير هذه، اختبارُ هذا الادّعاء في ضوء النصوص التي يُعتقد أنها مجالا للتأثُّر والتأثير؛ وذلك بوضعها في سياقاتها الثقافية العامة؛ لنرى هل كان حالُنا مع ثقافة الآخر كحالنا نحن اليوم. هل كنا نذوبُ ونتلاشى، كما نذوب نحن اليوم ونتماهَى؛ بل ونتباهَى بالتبعية والتقليد، والنشوة تغمُرُنا...
سؤال: لماذا البلاغة؟
جواب:
لأنه منذ مطلع ثلاثينيات القرن العشرين أشاعً كلٌّ من أمين الخولي – 1966 – ود. طه حسين – 1973 – أن البيان العربي كان واقعاً منذ نشأته الأولى تحت التأثير الأرسطي، وأن الفلسفة اليونانية أثَّرتْ في نشأة البلاغة العربية وتطوّرِها عبرَ جميع مراحلها، وأن هذا التأثير كان وراء أبحاثها وغايتها.
ومنذ ذلك الحين شاعت المقارنات للكشف عن تجليات التأُثير الأرسطيّ؛ حتى أصبحت بلاغة العرب، عند بعضهم، مجرّد أصداء لما أخذوه من كتابيْ « الشعر» و« الخطابة» الأرسطييْن.
وقد اتضح اليوم أن ملامح البيان العربي قد تشكَّلَتْ قضاياها قبل أن يعرفَ العربُ كتابيْ « الشعر» و « الخطابة» لأرسطو. فكان للبلاغة العربية نشأة عربية خالصة.
كيف يمكن لبلاغة نشأًتْ في مناخ حضاري مُغاير، أن تفرض تنظيراتِها وتصوُّراتها على مناخ أخر؟
هل ظلَّ العربُ ينتظرون مَن يُبيِّنُ لهم أسرارَ البلاغة في النص القرآني المعجز، ودلائل الإعجاز الكامنة فيه؟ وهل استعان أهل البلاغة والتفسير على فهم كتاب الله بما نُقِلَ من آثار أرسطو إلى العربية؟
لا يُستساغُ تاريخياً وعلمياً وفنّياُ أن يكون أرسطو المعلمَ الأولَ للبيانيِّين العرب؛ كيف يكون ذلك وهُويَّة الأمة تقوم على البيان؟ كيف ونبيُّ الإسلام استدلَّ على علاقته بالسماء بالقرآن العظيم؟ لقد تحدّى تلك الأمة بالبيان، وجعله مناطَ الإعجاز. وهل علَّمَ أرسطو تلك الأمة أن تنفعل بالوحي؟ هل من العلم في شيء أن نَدَّعيَ أن الأمة كانت تفتقر إلى مقاييس غيرِها لتفهَمَ حقيقة الوحي وتَسْتَكْنِهََ جمالية النص القرآني؟
وهذه آثار أرسطو بين أيدي الناس، أكان بالإمكان حقّاً أن يكون لكتابيْ « الشعر» و « الخطابة» هذه الآثار في التراث البلاغي عند العرب؟
وعلى أية حال، لقد اندثرت اليوم مقولة التأثير، لم نعد نتساءل ما نأخُذُ وما نَدَعُ، ولم نعُدْ نسأَلُ هل نُقلِّدُ؟ وماذا نُقلِّدُ؟
سؤال:  ما هو المنهجُ المعتمَدُ في هذه الأطروحة؟
جواب: قدمتُ في الباب الأول احتياطات منهجية أوقت المقارنين في متاهات وتناقضات، أهمُّها: تصوُّرُ المركزية الأوربية للعصر الوسيط، وجَعْلُ الثقافة اليونانية أصلاً من أُصول الثقافة العربية، وكيف أُريدَ بمقولة التأثير تزييفُ الدور الحضاري الذي نهض به المسلمون في التاريخ.
وقد التزمْتُ بالمنهج التاريخي لأرصدَ لحظات التلاقي بين الحضارتيْن: اليونانية والعربية، وإيضاح ما بينهما من فروق جوهرية؛ مع تتبُّع العلاقات الممكنة؛ لأرى هل كانت الثقافة اليونانية أصلاً من أصول الثقافة العربية، كما تدَّعي المركزية الأوربية في تاريخ الفكر الحديث؟ وهل كان للجمالية اليونانية حضور في الذهنية العربية؟ وهل كانت هذه الذهنية تعاني من الفراغ النظري في تصوُّرها لإبداع فنّ القول؟ وما هي البيئات الفكرية تفاعلتْ مع التراث اليونانيّ؟ وما كان حجمُها؟
كما التزمتُ بالمنهج الوصفي التحليلي في قراءة المتون التي اتخذ منها المقارنون مجالاً لمقولة التأثير الأرسطي في البلاغة والنقد العربييْن. فقد وقفت عند المفاهيم المركزية في كتابيْ « الشعر» و« الخطابة» الأرسطييْن وكيف تمَّ تصريفُها في فُهوم متفلسفة الإسلام.
كما عُنيتُ من الناحية المنهجية بالقارنة بين المفاهيم المركزية لدى أرسطو وبين قضايا البيان العربي التي ارتبطتْ بالنصيْن المؤسسيْن للهُوية الإسلامية: القرآن والحديث النبوي الشريف.
وأُلاحظُ أن المقارنين عندما ركبوا متون المقارنات وقعوا في متاهات، منها:
-                            تغافلوا عن حقيقة الترجمة. كيف تمُّتْ تلك الترجمة؟ وقد كشف د. طه عبد الرحمن أخيراً في كتابه: « الفلسفة والترجمة – الجزء الأول من فقه الفلسفة »، أن حركة الترجمة في تاريخ الإسلام؛ أسهمتْ في طمَسِ حقيقة التفلسف بين المسلمين؛ إذْ أقام التراجمةُ حواجزَ بين حقيقة القول الفلسفي في عبارته وإشارت؛ فضلُّوا طريقَهم إلى القول الفلسفي؛ فجهِلوا مقاصدَهُ في أصوله وسياقاته، وضلُّوا طريقَهم إلى القُرّاء، واستسلموا للتقليد. و«كتاب الخطابة» الأرسطي، الذي بين أيدينا اليوم، والذي يُعتبر المصدرَ الذي نهَلَ منه متفلسفة الإسلام؛ يُقدِّمُ صورةً قائمة على حقيقة الترجمة في ذلك العصر، هذه الترجمة العربية المتبقية من كتاب الخطابة تُقدِّمُ نموذجاً لسُقْمِ الترجمة، وهي كل ما يَملكه المقارنون؛ وهي تتحدَّى الفهْمَ البشريَّ أن يفهمَ منها شيئاً يُعتدُّ به في الفهم! وما أغرب قول من يرى أن المسلمون استناروا بهَدْيِها في إدراك أسرار إعجاز القرآن، وأن علماء العربية استقَوْا منها مفاهيمَهم!
-                            وتغافلوا عن حقيقة الشروح في آثار متفلسفة الإسلام؛ كيف تشكّلتْ تلك الشروح داخل عقلية مُغايرة في سياقات تاريخية مغايرة؟ كيف تمَّتْ الشروح والتلخيصات؟
-                            وتغافلوا عن حقيقة التراجيدية في آثار متفلسفة الإسلام ووجودها في الذهنية الإسلامية العربية مع إقرار المقارنين جميعاً بأن موضوع كتاب الشعر لأرسطو هو التشخيص المسرحي، وإقرارهم جميعاً بغياب التشخيص المسرحي في المجتمع العربي.
-                            وتجاهلوا كيفيات التفاعل بين الثقافات عامة وبين التراث الأرسطي والعربي خاصة.
-                            وأهملوا المفاهيم المركزية في كتابيْ « الشعر» و«الخطابة» وضخَّمَ بعضُهم التَّقاطُعات المُمكنة بين اللغات البشرية حين تركب أساليب التجوز في التعبير.
سؤال: ولماذا التركيز على أرسطو في مسألة التأثير في النقد والبلاغة العربيين؟
جواب: لأن أرسطو خصّّصَ للفن حيِّزاً في تفكيره الفلسفي، ولأن متفلسفة الإسلام طَلَبوا المنطق الأرسطي لمقاومة الغُنوص المانويّ والعِرْفان الشيعيّ؛ وهما يُمثِّلان معارَضَة شرسة تسعى إلى الإطاحة بالدولة الإسلامية العربية، ولاستكمال الآلية المنطقية اعتَبَرَ متفلسفة الإسلام كتابيْ « الشعر« و« الخطابة» قِياسيْن من أقيسة المنطق؛ ولهذه الغاية تُرجِمَ الكتابان وشُرِحا ولُخِّصا؛ فدخلا إلى حظيرة الثقافة العربية.
 فأرسطو عالج مسألة الإقناع الفني في القول الخطابي في ضوء الحالات النفسية التي يكون عليها المتلقي؛ كما استنبطَه من عيون الخُطَب اليونانية.
كما أن أرسطو استقى في كتابه «الشعر» نظرَتَه إلى الترجيدية من خلال التراث المسرحي الذي كان سائداً في القرن الخامس قبل الميلاد بخلفياته الأسطورية. وأثناء قيامه بالتنظير للتراجيدية أثار أفكاراً اعتبرَها الناسُ منطلقات للنظر في فن الأدب عامّة. وظلَّ الناسُ يستلهمونه في دراسات الفنون إلى يومنا هذا؛ بل إن كتاب « الشعر» قد أضحى «إنجيلا» للنقد الأدبي في العالم الأوربي، واعتبرَه مؤرِّخو النقد معجزة تخْرِقُ الزمان، وعليه قامت الدراسات، وكلٌّ يجد فيه مُبتغاه!
ومنذ مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، ردَّدَ كلٌّ من أمين الخولي ود. طه حسين ود. إبراهيم مدكور وغيرهم أن البلاغة العربية تأَثَّرتْ بالفلسفة، وأن المنطق الأرسطي ارتبط بالبلاغة العربية منذ نشأتها. وأشاع د. طه حسين منذ سنة 1931 أن العرب قد تأثروا بالقسم الخاص بالأسلوب من كتاب «الخطابة»، وهو أمرٌ لم يَنتبهْ إليه المستشرقون؛ وبهذا الرأي وبغيره استحق د. طه حسين أن يُصبح المعلم الثاني لهذا العصر بعد المعلم الأول: لطفي السيد لمعرفته بأرسطو وتَرْجَمَة خمسة من كتبه.
ومن الثابت لدى الباحثين أن المصطلحات البلاغية نشأت في البيئة العربية قبل لأن يُنْقَل كتابا الشعر والخطابة إلى العربية. ومن الثابت أن الشعر العربي ظل عربيَّ النشأة شكلا وروحاً، وظل العربُ يَعتدُّون اعتداداً مطلقاً بشعرهم، وظل شعرُهم يُمثل سلطة مرجعية في تاريخ معارفهم العامة.
 وهكذا أُشيعَ أن البيان العربيّ خرج من جُبَّةِ أرسطو، وأنه كان من الآثار الأجنبية شأن بقية المعارف الأخرى. والغاية من هذا الطرْح محاصرَةُ فترة التأسيس للهوية الإسلامية للثقافة العربية والادّعاء أن الهيلِّينية أثَّرتْ في مُتكلّمي المعتزلة؛ وهؤلاء هم جهايذة البيان العربي، وهم المؤسسون له. وغايتُهم القول بأن بلاغةَ العرب هِيلِّينِيَّةُ الأصول؛ ليحصُلَ التشكيك في أصالتها، ويُفتَحُ باب المقارنات على مصراعيه حول جزئيات لا يُعتدّ بها في معمار البلاغة العربية.
سؤال: ما هي حدود التأثير الأرسطي في البلاغة العربية؛ التي توَقَّفَ عندها المقارنون؟
جواب:  مرّتْ مسألة التأثير بمرحلتيْن امتدّتْ كلٌّ منهما حوالي ثلاثين سنة:
الأولى من سنة 1931 إلى سنة 1961، وسادها كثير من الادعاء والاضطراب والشك.
والمرحلة الثانية من سنة 1961 إلى سنة 1991، وتميّزت بشيء من اليقين في مسألة التأثير، وإن لم تخْلُ من اندفاع واضطراب؛ وذلك بسبب ظهور نصوص محققة بتونس والمغرب - ) سيظهر لي كُتَيِّباً أتناول فيه هاتيْن المرحلتيْن( - .
ففي هذه المرحلة الثانية ظهرتْ مصادرُ جديدة في الغرب الإسلامي في موضوع التأثير الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين، وأذكرُها حسب ظهورها محقّقة:
-                            منهاج البلغاء وسراج الأدباء: حازم القرطاجنّي – 684 هـ - حققه محمد الحبيب بلخوجة سنة 1964 – أطروحة بباريس تحت إشراف ريجيس بلاشير –
-                            المَنزَع البديع في تجنيس أساليب البديع: أبو القاسم السلجماسي نحو سنة 730 هـ، حققه: علال الغازي سنة 1980 – دبلوم الدراسات العليا، تحت إشراف د. أمجد الطرابلسي-
-                            الروض المَريع في صناعة البديع: ابن البناء المراكشي – 721 هـ-  حققه: رضوان بنشقرون 1985، دبلوم الدراسات العليا تحت إشراف د. عزة حسن.
-                            التنبيهات على في التبيان من التمويهات: أبو المُطرِّف أحمد بن عَميرَة 651 هـ، حققه: د. محمد بنشريفة 1991.
وظهر خلال هذه المرحلة تحقيق جديد لكتاب «الشعر»، من إنجاز د. إبراهيم حمادة سنة 1983، وترجمة جديدة إلى الفرنسية سنة 1980، وترجم د. عبد الرحمن بدوي كتاب «الخطابة» عن النص اليوناني بتحقيق ريمر Roemer 1977.
وهذه المصادر أعطت لمسألة التأثير الأرسطي نفَساً حديداً، وفتحتْ آفاقاً جديدة للمقارنات، وأصبح « منهاج الأدباء» محطة هامّة ومتميّزة لمقولة التأثير؛ تمتزجُ فيها لدى كثير من الدارسين البلاغة العربية بالبلاغة اليونانية، وتُعقَدُ فيها الصلة بين النقد العربي والنقد اليوناني. فقد أراد حازم أن يُحقِّقَ حلْمَ ابن سينا وذلك بأن يضعَ تفاصيل الصنعة الشعرية؛ لتكون منهاجاً يسيرُ على هَدْيِه الأدباء. فكان له طموح في وضع قوانين كلية لعلم الشعر عند العرب؛ يفوق بها ما وَضَعَتْهُ الأوائل على حدّ قوله! فلذلك وجبَ أن توضع لها من القوانين أكثر مما وضعت الأوائل!
وحازم لم يتجاوز ما فهمه الفلاسفة المسلمون من كتاب الشعر، ولكنه يختلف عنهم في كونه تَطَلَّعَ إلى التكلّم في كثير من خفايا الصنعة البلاغية ودقائقها؛ أي أنه أراد أن يُفلسف البلاغة، ويَضَعَ لها قوانين كلّية تُعرَفُ بها أحوال الجزئيات في الخطاب.
أرسطو يُعالجُ موضوعَ التشخيص المسرحي، وحازم يجهل كلَّ شيء عنه! وهكذا أصبح ذلك التشخيصُ عنه محاكاةً وتشبيهاً؛ إذ لم يكن بين أيدي العرب النماذج الأدبية التي استخلّصَ منها أرسطو قواعده.
ولعل استفحال ظاهرة التبعية للفكر الغربي في العصر الحديث، أعطتْ لمسألة التأثير في الثلث الأخير من القرن العشرين أبعاداً جديدة. وممّا أساء إلى «منهاج البلغاء» أن أكثر الباحثين قد ربطوا مجهوده بالتأثير اليوناني، وراحوا يتتبَّعون التأثيرات اليونانية في منهاجه. ويبدو أن نظرية حازم تظل بعيدةً عن التحقٌُّق في تاريخ النقد العربي ما لم تستمدّ أصولَها من التراث العربي.
هذه الجماعة التي تنتمي إلى الغرب الإسلامي اطّلعتْ على المنطق والفلسفة، وكان لبعض أفرادها شغَفٌ بالمنطق الأرسطي من خلال ما تعارفتْ عليه المرحلة من ترجمات وشروح وتعليقات. وقد سعى كلٌّ من حازم والسلجماسي وابن البناء إلى وضع قوانين كلية لصناعة البيان؛ كلٌّ على طريقته: فقد اجتهدوا في وضع كلّيات في ضوء ما استوعبوه من دراستهم للمنطق. وحشدوا لذلك مصطلحات حاصروا بها الصناعة البيانية، وكأنَّهُم يضعون ترسيمات لقوانين الأساليب في البيان العربي؛ يستطيع الباحث من خلالها أن يستوفيَ جزئيات البلاغة: أرادوا إحصاء الظواهر الأسلوبية بطريقة علمية صارمة!
وما تميّزت به المدرسة المغربية أنها حاولت أن تستوعب ما تركه المتفلسفة من شروح، وخاصة ابن سبنا، مع الاستمداد المباشر من كتب المنطق، كما هو شأنُ السلجمّاسي بشكل خاص. وعموماً استفادت هذه المدرسة من المنطق من خلال تقسيماته وتفريعاته، ولكنها بقيَتْ بعيدة عن روح أرسطو النقدية والبلاغية.
سؤال:  ما هي القراءات المعاصرة للبلاغة العربية، وما هي خلفياتُها الفكرية والفلسفية؟
جواب: شهِد القرن العشرون إحياء بلاغة عبد القاهر الجرجاني – 471 هـ - في مطلع النهضة العربية. وفي الثلاثينيات منه بدأ البحث عن بلاغة جديدة، وأعاد بعضُهم شروح التلخيص حتى أضحت من المقررات الدراسية، وتوالتْ خلال هذه المرحلة تحقيقات للنصوص العربية القديمة إلى جانب العديد من الدراسات حول التراث النقدي والبلاغي، ولكن منذ بداية الخمسينيات بدأتْ مظاهرُ الحداثة مجالات الفكر والإبداع، وتوالت الترجمات، وتفاقمت التبعية للحضارة الغربية في فترات التنمية، وتساقطتْ آراء جديدة حول البلاغة العربية من خلال الأسلوبيات والنصيات والبنيويات والتفكيكيات... وتعدّدتْ مفاهيم البيان حتى أصحتْ مجاهيلَ للبيان. وتركمتْ الأقاويل من خلال المقالات والترجمات والتعليقات؛ فما زادتنا معرفةً بالبيان العربي، وإنما أقامت بيننا وبينه حواجز، وتاهتْ في سديم الحداثة. عن أية بلاغة نتحدّثُ اليوم؟ أقلام الحداثة انكسر جلُّها، غرِقتْ في التبعية فاختنقَتْ، وانتهتْ التقاليع فانتهَتْ.
اليوم اتجهت أنظارُ طُلاب الحداثة إلى الاستفادة من آراء الغربيين المعاصرين في قراءة النصوص وتحليل أنماط الخطاب. اتَّجهوا للبحث عن بلاغة جديدة: بلاغة تضعُ بيننا وبين بلاغتنا القديمة هوة سحيقة، وبمضي الأيام لا نعثُرُ على هذه البلاغة الجديدة، وبمضي الأيام تنقطع عن البلاغة العربية، وتنشأ بيننا وبينها القطائع والانقطاعات...
سؤال: ما هي مقاصد البلاغة العربية ومقاصد البلاغة الغربية؟
جواب: مقاصد البلاغة العربية تتمثل في ثلاثة مقاصد:
أولها: المقصد الديني، حين يُحقِّقُ تَعَلُّمُ البلاغة هدَفاً دينياً يُمكِّنُ من إدراك الإعجاز. فتكون البلاغةُ هنا أداةً ووسيلةً لفهم أوامر الله ونواهيه، وفهم أسرار الإعجاز في كتابه. ومن هنا اعتُبِرَ علمُ البلاغة أحقَّ العلوم بالتعلّم؛ إذ به يُستدّلُّ على صدق رسالة النيّ صلى الله عليه وسلم.
        وثانيهما: المقصد الإبداعي الذي يهيئ الأديب للإبداع حين يوقفُهُ على مكامن الجودة في فن القول من خلال النماذج الراقية.
وثالثها: المقصد النقدي،  وهو مقصد يُمَكِّنُ الناقد المتذوِّق من التمييز بين فنون القول في الخطاب البياني العربي، ويُمكِّنُه من المفاضلة بين الأساليب.
ومن أجل تحقيق هذه المقاصد طمح أهل البلاغة في العالم الإسلامي برمته إلى ما قبل النهضة العربية في العصر الحديث، أن يتأملوا هندسة الجملة القرآنية، ويكشفوا عن أسرار الإعجاز فيها، وسعَوْا إلى وضْع قوانين كلية للبلاغة العربية.
فالبلاغة العربية يرتبطُ وجودُها بنص مُعجز لا تنتهي عجائبُه وجمالياته، ووجودُ الإنسان المسلم مرتبطٌ بوجود ذلك النص.
أما مقاصد البلاغة الغربية فهي محاولة لمحاصرة أشكال الخطاب وفق ما يُستحدَثُ من المناهج ومن التصورات.
سؤال: ما هي الحجج التي قامت عليها الأطروحة؟
جواب: هناك أدلة تاريخية حضارية وأخرى نصية نابعة من مفاهيم وقضايا بيانية ونقدية.
حضارة الإسلام حقيقة مقرّرة في تاريخ البشر، حقيقتُها ارتبطت بالوحي. وتغافلت الدراسات عن حقيقة مقررة وهي أن الأمة العربية تميّزتْ بين بقية الأمم بالبيان.
ولم يكن لحضارة الإسلام نزوع نحو اليونانية؛ إذ لم تكن اليونانية شيئا مذكوراً، ولم يكن دورُ الحضارة الإسلامية مجرّد تكريس للتراث القديم، بل كانت استيعاباً وتفسيراً ونقداً وخلْقاً جديداً لجوانب يسيرة من ذلك التراث. وعالمية الإسلام اقتضت أن تستوعب حضارتُه الحضارات السابقة، كما هيمن الدين الإسلامي على الديانات السابقة.
 ومسألة التأثير من نتائج غرور المركزية الأوربية وإعجابها المُسْبَق بالأعجوبة اليونانية، في لحظة كان العالم الإسلامي في تخلُّف وركود. ولا ينبغي أن نقيس حاضرنا بماضينا، وأن ننظر إلى ماضينا في نطاق التبعية للغرب الحديث.
 إذا كان الغربُ اليوم فرَضَ علينا أفكارَه وتقنياتِه، وأصبحنا ننصهر في كونيته، ونتماهى مع مناهجه وتصوراته؛ فإن الثقافة العربية لم تتأثر بالثقافة اليونانية كما يحدُثُ اليوم في علاقتنا بالثقافة الغربية.
وهل كان الفكر العربي فارغاً حين عرفت فئة قليلة جداً شيئاً من الفكر اليوناني؟
أكانت حضارةُ الإسلام آنذاك تقرأ شيئاً خارج ثوابتها؟ ألمَ يجدْ ذلك الشيء اليسير من التراث اليونانيّ مقاومةً عنيفةً من المجتمع الإسلامي؟
وهل كان الإسلام في موقف ضَعْفٍ يستسلم كما نستسلمُ نحن اليوم؟
 نحن اليوم نستمدّ كلَّ شيء من الغرب، يسكُن حياتَنا، ويُوجِّه أفكارَنا. ويُلاحظُ أننا لم نعد اليوم نُثيرُ مسألة التأثُّر والتأثير؛ لأننا دخلنا في مرحلة التقليد الأعمى والذوبان. إذا كنا نحن اليوم ننخرطُ في العولمة الجديدة لتبرير وضعيتنا الحالية، فهذا لا يُبرر أن نَقْبَلَ أن يكون تاريخُنا الثقافيّ ذَيْلاً للثقافة اليونانية.
 ولعل هذا الإحساس بأن لا نستسلم اليوم، وألاَّ نَنْقادَ مع القطيع، كان وراء هذا البحث.
 ويكفي أن أقول إن النصوص الإغريقية التي يُعتَقَدُ أنها كانت هي محطات التأثير، قد تلقاها متفلسفة الإسلام على أنها من الأقيسة المنطقية، ومن هنا ظلت بعيدة عما أراده أرسطو. وقد لاحظ المستشرق الإيطالي جابريلّي أن ترجمة كتاب الشعر في العربية إلى جانب شرحيْ كل من ابن سينا وابن رشد ظلت في الثقافة العربية « حروفاُ مَيِّتَةً مُكفَّنَةً في المكتبات».
فحديث أرسطو عن البطل الترجيدي خَنَقَتْهُ الترجمةُ السريانية، وانتقل منها إلى العربية فازداد اختناقاً؛ فاندحرت مصطلجاته ومفاهيمُه وغابتْ معالمُها؛ لأنها زُرِعَتْ في بيئة لا يُمكن تصوُّر البطل الترجيدي فيها؛ بطل يصرعُه القدرُ الأعمى! وتحتاج معه النفوسُ العربية أن تَتَطَهَّرَ من عنصريْ الخوف والشفقة!
 الذين أشاعوا مقولةً التأثير في العصر الحديث، واعتقدوا أن أرسطو من أُسس النهضة الأوربية الحديثة،، أرادوا أن يجعلوه منطلقاً لنهضتهم الحديثة؛ فما كان منهم إلاَّ أنهم سَعَوا – بوَعْيٍ أو بدونه - إلى مسْخِ ماضيهم وحاضرهم!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق